تونس.. كلمة الشعب وطريق الرئاسة
يبقى في النهاية أن مُلخَّص الحال عرضته صحيفة "لوكوتيديان" التونسية اليومية الناطقة بالفرنسية تقول إن الشعب التونسي قال كلمته، واعتبرت أن الناخبين صوّتوا للمُرشَّحَين اللذين نفّذا حملةً انتخابية ضد النُخَب السياسية. وكتبت الصحيفة "لقد فضلوا القفز في المجهول بدلاً من مد اليد مرة أخرى لمَن خانوا تطلّعاتهم".
هي الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية التونسية والمُقرَّر لها أن تُجرى في 13 تشرين أول/ أكتوبر المقبل، وحيث أن تونس تستحق الأفضل وترجو ألا يخذلها العالم في تجاوز مِحَنها الاقتصادية والاجتماعية. وهي ككل دولةٍ عربية تحتاج التغلّب على التاريخ السلطوي الذي يبدو صعباً، بسبب تجذّر المصالح وتفاعُل العائلات السياسية والاقتصادية التي تجمعها رابطة منافع وثيقة تشكّل جوهر الدولة العميقة.
يرى مُحلّلون أن نتائج الانتخابات الرئاسية في تونس عكست توجّه الشعب إلى اختيار ممثلٍ عنه من خارج المنظومة السياسية، ويرى آخرون أن الشعب قرَّر الخوض في المجهول من خلال هذه الاختيارات، وخوض تجربة جديدة مع رئيسٍ "غير مُجرَّب". فالقروي وسعيّد سيتنافسان في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. وهنا أصيب المشهد السياسي في تونس بحال ذهول، عقب الإعلان عن فوز المُرشَّحين قيس سعيّد ونبيل القروي في الانتخابات وانتقالهما إلى الجولة الثانية، بخاصةٍ أن المُرشَّحَين جاءا من خارج النظام السياسي في البلاد. فقد حصل سعيّد على 18.4% من الأصوات، في حين حصل القروي على 15.58%. وبهذه النتائج يعلن رسمياً عن تقدّم أستاذ القانون المُحافِظ قيس سعيّد وقُطب الإعلام المُحتَجز نبيل القروي على 24 مُرشّحاً آخرين من بينهم رئيس الوزراء ورئيسا وزراء سابقان ورئيس سابق ووزير دفاع.
يُعرَف نبيل القروي (56 عاماً) بأنه رجل إعلام يمتلك مجموعة "قروي أند قروي" للإعلام والإعلان، وأطلق قناة "نسمة" في 2007، وهو من أهم مؤسّسي حزب "نداء تونس"، وظلّ فيه ثلاث سنوات قبل أن يغادره، إذ كان من أهم الرجال الذين وقفوا وراء السبسي في رحلته إلى قرطاج.
نشط القروي في العمل الخيري عبر جمعية "خليل تونس"، ثم غادرها وترشَّح للانتخابات مُمثلاً لحزبه الجديد "قلب تونس"، الذي تأسّس في يونيو/ حزيران الماضي. وترشَّح القروي للانتخابات الرئاسية من داخل السجن الذي أُحيل إليه بتهمة غسيل الأموال والتهرّب الضريبي في 23 أغسطس/ آب الماضي، فيما ينفي هو هذه الاتهامات.
أدرك القروي أن الطريق إلى قرطاج لن تؤمّنه غير القواعد الشعبية من الطبقات المتوسّطة والفقيرة، وهو ما تجلّى بوضوحٍ لاحقاً بإعلانه أن مشروعه الانتخابي سيرتكز على "مُحاربة الفقر والاستثمار في الإنسان لتحقيق حياة كريمة للتونسيين". قدّم نفسه على أنه "نصير الفقراء"، و"صوت تونس المنسيّة"، فكسب تأييداً جعله يتأهّل إلى الجولة الثانية.
أما قيس سعيّد مُفاجأة الانتخابات الرئاسية التونسية، بعد تصدّره.. فهو صاحب النهج الاجتماعي المُحافظ، الذي يدعم تطبيق عقوبة الإعدام ويرفض المساواة في الميراث بين الرجال والنساء ويركّز على اللامركزية في الحُكم في بلدٍ العاصمة فيه قوّة مُهيمنة على نحوٍ تقليدي. هو أستاذ جامعي في القانون الدستوري، ويلقى احتراماً واسعاً لدى التونسيين، وهو مُرشَّح مستقل لا يمتلك دعماً حزبياً واختار في حملته الانتخابية طريقة التواصل المباشر مع الناخبين رافِضاً عقد تجمّعات شعبية على غرار البقية.
سطع نجمه بعد ثورة 2011 فقد كان دائم الحضور في الإعلام والنقاشات السياسية يُقدّم شروحاً مفصّلة للقانون والدستور.
في أوّل تصريحٍ له، وقُبيل إعلان النتائج النهائية من قِبَل الهيئة العُليا للانتخابات، وصف سعيد نتائج استطلاعات خروج الناخبين من مراكز الاقتراع التي أظهرت حصوله على معظم الأصوات، بأنها مثل "ثورة ثانية" قائلاً "ما حصل يُحمّلني مسؤولية كبرى لتحويل الإحباط إلى أمل". وصرَّح في مؤتمرٍ صحفي أعقب الإعلان الرسمي "ليطمئّن الجميع أن تونس ستبقى مفتوحة على العالم وأننا سنعمل من أجل بلادنا بكل أطيافها، الشباب يريد الآليات القانونية التي تمكّنه من تحقيق إرادته. لا مجال للإقصاء وسنبني تونس الجديدة التي يتشوَّق إليها الشعب".
سبق أن حضر الكثير للتعبير عن قلقهم حيال عدم استقرار الأوضاع السياسية في تونس بعد رحيل السبسي.
تبقى تونس عاصمة ربيع العرب في حاجةٍ إلى قيادةٍ ثوريةٍ وطنيةٍ وإلى نظامٍ سياسي واضحٍ غير مُشتَّت، تحتاج قيادة من عُمق الثورة ومن أعماق الشعب، بعيداً عن الواجهات الصوَرية للدولة العميقة. هنا يبقى أن رِهان تقليص التدخّل الأجنبي في اختيار رئيس الدولة ورئيس الحكومة مسألة على درجةٍ من الأهمية ضمن مسار استرجاع السيادة الوطنية الكاملة واستقلالية القرار وتحييد تأثير الدوائر الخارجية.
وفي المُحصِّلة على القوى الحيَّة أن تدفع باتجاه الفاعلية المواطنية والتعدّدية السياسية والتداول السلمي على السلطة على نحو فَهْم الموجود واستشراف المنشود ضمن تشكّلات الفعل السياسي التونسي، وألا يبقى ذلك في حدود التصوّرات الذهنية من دون المنجز العملي.
هي المواطنة تمارس ولا يمكن «التثقّف بها نظرياً»، وتحقيق الديمقراطية وبنائها ونشرها في المجتمع بعد حقبة الاستبداد «مهمة نضالية» تبقى مركزية حتى بعد إطاحة أنظمة القمع والإكراه والاستبداد، والتوافق يؤسِّس بدوره لشكلٍ من أشكال الديمقراطية التشارُكية، نقيضه الإقصاء والاحتراب المُحتكم إلى نماذج معيارية وانغلاق أيديولوجي وأُسُس واهية تعوزها المتانة بالمعنى الفكري العميق. فلمَن ستكون الغَلَبة؟
إن وجب أن تكون الغَلَبة نحو انتخاب دولة القانون، لا بأس أن يتعلّم شعبها في كل مرة، فالأهم تفادي الهزَّات الكبرى وترسيخ الديمقراطية الحقيقية، ووطنية الدستور داخل المؤسّسات وفي أذهان الناس بدرجةٍ أولى.
يبقى في النهاية أن مُلخَّص الحال عرضته صحيفة "لوكوتيديان" التونسية اليومية الناطقة بالفرنسية تقول إن الشعب التونسي قال كلمته، واعتبرت أن الناخبين صوّتوا للمُرشَّحَين اللذين نفّذا حملةً انتخابية ضد النُخَب السياسية. وكتبت الصحيفة "لقد فضلوا القفز في المجهول بدلاً من مد اليد مرة أخرى لمَن خانوا تطلّعاتهم".