سيكولوجيا "الاحتجاجات": لماذا لم يتظاهر بعض اللبنانيين؟!
في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أن محاولة أحزاب أخرى استغلال شعار "كلن يعني كلن" لا تبدو بالخطر الذي يحذر منه البعض، ولا سيما أن المتظاهرين أظهروا وعيًا ملحوظًا في رفض دخول "المندسين" إلى حراكهم، وإن كانت هذه الظاهرة ستتكرر ما دامت التظاهرات من دون قيادة موحدة حتى الساعة.

يتحدث علماء النفس عن ثلاثة أسباب رئيسية تدفع الناس إلى الشارع، أولها القيمة المتوقعة، أي ما يتوقع المتظاهرون الحصول عليه إذا نزلوا إلى الشارع، والحرمان النسبي، أي شعورهم بأنهم يُعاملون بطريقة أقل إنصافاً من غيرهم، والهوية الاجتماعية، أي أنهم يتعاطفون مع أفرادٍ يشبهونهم أو يشعرون بضرورة الدفاع عنهم.
يكاد السؤال الرئيسي الذي يشغل بال اللبنانيين سلطة وشعباً: ما هو المصير الذي ستؤول إليه الأزمة الناجمة عن فقدان الثقة بين الرأي العام والسياسيين؟
رغم أن شبكات التواصل ومجموعات "واتسآب" تزخر برسائل وتحليلات وتسجيلات حول سيناريوهات دموية، وقصص عن أعمال عنف يجري التحضير لها، فإن كل هذا المحتوى هو جزء من الكباش السياسي الذي يغذيه الإعلام في شقيه التقليدي والحديث. وبالتالي فإن معظم المحتوى الذي يتم تداوله لا يصلح للتحليل العلمي أو الاستنتاج او أي عملية فكرية تتوخى المنطق والحلول الجذرية.
نعم، السياسيون يستفيدون عادة من بث أخبار كهذه، بهدف جس نبض الشارع أو تبادل رسالة مفهومة، أي إن الهدف منها يكون التأثير المحدود وتوجيه الأزمة، لا علاج أسبابها الحقيقية.
ولكن ما هي العوامل النفسية التي تحكم التظاهرات عموماً؟ وهل يمكن أن تتحول احتجاجات المتظاهرين بغض النظر عما ما إذا كانوا مع أو ضد النظام، إلى أعمال عنف؟
للإجابة على هذه الأسئلة، لا بدّ لنا بداية من شرح الأسباب التي تدفع الناس للتظاهر.
يتحدث علماء النفس عن ثلاثة أسباب رئيسية تدفع الناس إلى الشارع:
- القيمة المتوقعة: أي ما يتوقع المتظاهرون الحصول عليه إذا نزلوا إلى الشارع.
- الحرمان النسبي: أي شعورهم بأنه يُعاملون بطريقة أقل إنصافًا من غيرهم.
- الهوية الاجتماعية: أي انهم يتعاطفون مع أفرادٍ يشبهونهم او يشعرون بضرورة الدفاع عنهم.
وسرعان ما تختلط المشاعر الناجمة عن الأسباب الثلاثة لتشعل شرارة الدافع، فتبدأ موجة الغضب مع تراجع شعور "الذنب" وارتفاع فكرة أنه "لم يعد لدّي ما أخسره".
طغيان السلبية على المشاعر الأولى الدافعة إلى التظاهر لا يعني أنها تسيطر بالضرورة على مشاعر المتظاهرين لاحقًا، فقد أثبت العديد من الدراسات النفسية أن المتظاهرين بعدما يكسرون الحاجز النفسي الأول، يولد لديهم شعور بالسعادة سببها التواصل مع المتظاهرين الآخرين والعمل المشترك من أجل قضية واحدة والشعور بالانتماء إلى فئة أكبر.
في مصطلحات علم النفس، يخلق الاحتجاج تنافرًا إدراكيًا بين ما تؤمن به وبين المعلومات التي تصلك، فتجعلك غير مرتاح بما يكفي للسعي إلى إجراء تغيير محتمل، ثم تقرر الانضمام إلى التظاهرات.
ولكن لماذا انضم أشخاص معينون دون غيرهم إلى التظاهرات؟ لماذا لم ينضم كل اللبنانيون إلى الشارع؟
للأشخاص الذي يكتفون بمشاهدة الأحداث أسبابهم النفسية أيضاً. فالتنافر الإدراكي (أو المعرفي) لديهم يؤدي إلى مواقف دفاعية ترفض أي تغيير. وينشأ الموقف الدفاعي من فكرة تدور في أعماقهم بتبرير الفساد أو المشكلة في النظام بالقول إن "الفساد موجود في تفاحة واحدة، لا في السلة كلها!".
المشكلة في مواقف كهذه أنها لا تُجِب على تقصير السلطات المولجة بالمحاسبة كالقضاء أو الشرطة، بل إن هذا الشخص في أعماقه، وإن اعترف لفظياً بعدم كفاءة أجهزة الرقابة، يرى أنّ السلطة لا تخطئ كلها. ذلك أن عقله لا ينظر إلى السلطة كمنظومة كاملة، بل يراها وحدات مستقلة، وهو ما يتنافى مع حقيقة تركيبة أي نظام.
ويمكن لأي مراقب ملاحظة السجال الدائر بين من يُحمّل النظام المسؤولية بغض النظر عن مُكوناته، وبين من يدافع عن مكوّن ينتمي إليه بقناعة أنه ليس كالباقيين، مع أن انتقاد المتظاهرين للنظام لا يعني بالضرورة التصويب باتجاه المكوّن نفسه، فالمقصود هو النظام نفسه!
ويسجّل للأمين العام لحزب الله أنّه التفت إلى هذه المسألة منذ اللحظة الأولى، فتعالى عن أي إساءة قد يتعرض لها، بما أن موقعه يفرض عليه النظر إلى أي حراك شعبي من منظور أعلى من أولئك الذين نزلوا إلى الشارع للهتاف باسمه!
وبهذا المعنى، فإن تشويه التظاهرات أو محاولة استفزاز المتظاهرين يتعارض تمامًا مع مصلحة المكونات الحريصة على وجود نظام يضمن عدم الفراغ، بغض النظر عن الملاحظات عليه.
في الختام، لا بدّ من الإشارة إلى أن محاولة أحزاب أخرى استغلال شعار "كلن يعني كلن" لا تبدو بالخطر الذي يحذر منه البعض، ولا سيما أن المتظاهرين أظهروا وعيًا ملحوظًا في رفض دخول "المندسين" إلى حراكهم، وإن كانت هذه الظاهرة ستتكرر ما دامت التظاهرات من دون قيادة موحدة حتى الساعة.