أقدم معتقل سياسي في سجون أوروبا.. لأنه لم يعلن التوبة!

هناك من يلوّح بعمليات تُفضي إلى مقايضات، وآخر يتحدث عن دعوى على السلطات الفرنسية أمام القضاء الأوروبي، لكنّ أملنا في النهاية يبقى في هذه التحوّلات المفصلية التي تجري راهناً في المنطقة العربية، والتي لا بد أن تفرض نفسها وموازين قوى جديدة، وما الفرج بعدها إلّا بقريب.

  • أقدم معتقل سياسي في سجون أوروبا.. لأنه لم يعلن التوبة!
    أقدم معتقل سياسي في سجون أوروبا.. لأنه لم يعلن التوبة!

في شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أكمل جورج إبراهيم عبد الله عامه الخامس والثلاثين بين قضبان السجن في فرنسا. هو يعدّ أقدم سجين سياسي في أوروبا، حيث كان قد أُوقف في مدينة ليون الفرنسية في 1984 بتهمة حيازة أوراق مزورة. وبدلاً من أن يغادر السجن سريعاً، بمقايضة مع سدني بيرول، الذي اختُطف في بيروت على يد الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، حُكم عليه في 1986 بأربع سنوات سَجناً، ثم أُحيل على محكمة خاصة في 1987 ليصدر بحقه حكم بالمؤبد كشريك في عمليات الاغتيال التي عُزيت للفصائل.

تنقّل عبد الله بين سجون متعددة حتى 1999 حين تنتهي مدة محكوميته، لكنه لم يخرج بل أُبقي في السجن. في 2013، وافقت غرفة تطبيق العقوبات في باريس على إطلاقه، بشرط ترحيله فوراً إلى لبنان وعدم مكوثه على الأراضي الفرنسية. إلا أن مانويل فالس وزير الداخلية حينها لم يوقّع القرار، ولم يوضح السبب.
من يقلّب في ملف جورج عبد الله يكتشف من دون عناء تدخل السياسة في القضاء. سلطات سياسية فرنسية لم تلتزم بداية بالتعهدات التي قطعتها خلال مفاوضات تبادل الأسرى، بحيث كان شعور مدير أمنها الداخلي، إيف بونيه، الذي فاوض في ذلك الحين السلطات الجزائرية (التي كان جورج عبد الله يحمل جواز سفرها)، أنه جرى خداعه.

كما وكّلت محامي دفاع يعمل لحساب جهاز الاستخبارات، وبرغم اعترافه بالأمر، لم تلغَ المحاكمة. وسلطات قضائية لطّخت صورة القضاء الفرنسي بمحاكمة صورية أبعدته عن النزاهة والصدقية.

قضاء قبِلَ أن تبقى التهم الموجهة إلى جورج عبد الله غير مثبتة، كما قبِل شهادات الزور ليحكم على جورج بالمؤبد بعد مداولات لم تستغرق سوى ساعة و20 دقيقة، برغم تقديم براهين مزيفة بتهمة القتل.

فالمسدس الذي قيل إن القاتل استعمله وُجد ملفوفاً في جريدة صادرة بعد سنتين من توقيف المتهم. ثم إن القاتل الفعلي للملحق العسكري في السفارة الإسرائيلية، الذي اتهم جورج به هو ناشطة لبنانية كانت تحمل اسماً مستعاراً وتوفيت في 2016 في لبنان. مع ذلك لم يصَر لمراجعة المحاكمة واطلاق عبد الله. وهذا العربي الأبيّ لم يعترف طبعاً عليها، وتحمّل وزر العملية. 
منذ زمن بعيد تحولت قضية جورج عبد الله إلى مهزلة ومأساة، ليس بحق الرجل فقط بقدر ما هي بحق بلدين. بلد يحمل المناضل جنسيته ويفترض به أن يؤدي واجبه تجاهه، وأن يطلب ويفرض إخلاء سبيله بحزم ومن دون تلكؤ.

قبل أيام ولمناسبة إطلاق المناضل السوري صدقي المقت من سجون الاحتلال بعد 32 سنة من الاعتقال، توجّهت بنداء إلى رئيس الجمهورية اللبنانية، فخامة العماد ميشال عون، أناشده فيه التدخل الحازم والحاسم مع السلطات الفرنسية لإنهاء قضية جورج عبد الله (كان سفير لبنان في فرنسا وللمرة الثانية قد زار عبد الله قبل أعياد الميلاد الماضية، لكن من دون أي جديد حاسم).

كثير من الأمثال يمكن أن تقدم لمقارنات ببلدان أخرى عرفت كيف تستعيد أسراها برغم ثبوت التهم على المتهمين ومنها قتل أشخاص. أما جورج عبد الله، فبقي في الأسر، برغم كل البراهين التي تثبت الحيف الذي طاول هذا الرمز الذي حمل قضية ودافع عن وطن. هل من الضروري التذكير أنه في ذلك الوقت الذي ألقي القبض عليه، كانت دولة الاحتلال لفلسطين قد احتلت جزءاً مهمّاً من الأراضي اللبنانية واجتاحت بيروت العاصمة؟
أما فرنسا التي تتحدث عن مصالح وطنية، فقد سبق لها أن ساومت في قضايا متعدّدة. ثم تأتي لتعطي دروساً في الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتسمح بمحاكمة مهزلة من هذا النوع، وبالقبض على أنفاسها من دول أجنبية (أميركا وإسرائيل) ترهن قضاءها وتلوّث سمعتها.

عندما تقدمت هيلاري كلينتون للانتخابات الرئاسية وُجدت في رسائلها على بريدها الشخصي -التي رُفع عنها الحظر في 2015- رسالة تتعلق بضغوط مارستها هي وفريقها على نظيرها وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، كي لا يُطلَقَ جورج عبد الله، كما كان مقرراً من طرف محكمة الاستئناف في 2013. آخرون من إسرائيل والولايات المتحدة تدخلوا مرات متعددة للضغط على السلطات الفرنسية في هذا الشأن.

يقولون إنهم متخوفون من متابعته لنضاله بعد عودته إلى لبنان، كما أنهم مستاؤون من أنه لم يعبّر عن توبة أو تراجع عن مواقفه. لكنهم لم يأخذوا بالحسبان أنه مناضل لا إرهابي، صمد وبقي حراً برغم قيود السجّان والسجن، ولم يرتهن أو يقايض أو يفاوض ولو بقي في السجن مدى الدهر.

وما يطالب به سلطات البلدين المعنيين هو فقط وبالتحديد: الإبعاد الفوري إلى لبنان، لا أي شيء عداه، ومن دون نقاش في أي شكل من أشكال الإطلاق المشروط. 
هناك من يلوّح بعمليات تُفضي إلى مقايضات، وآخر يتحدث عن دعوى على السلطات الفرنسية أمام القضاء الأوروبي، لكنّ أملنا في النهاية يبقى في هذه التحوّلات المفصلية التي تجري راهناً في المنطقة العربية، والتي لا بد أن تفرض نفسها وموازين قوى جديدة، وما الفرج بعدها إلّا بقريب.

فتحيةً إلى هذه الأيقونة النضالية، وأسمى عبارات الشكر لكل من تضامن مع جورج عبد الله وتحمّل المشقات والتضحيات على مدى سنوات وافداً إليه من داخل فرنسا وخارجها. وما النصر إلا صبر ساعة.