عالم جديد في الأفق.. ما بعد كورونا
أحزاب اليمين المُتطرّف في الغرب سوف تلقى دعماً متزايداً لتطبيق سياساتها الوطنية بعيداً عن تحالفاتٍ دولية أثبتت هشاشتها خلال الأشهر الماضية.
-
حالة الطوارئ هي مخرج الحكومات لزيادة الرقابة والتجسّس واختراق الخصوصيات
بعد عدّة أشهر من انتشار فيروس كورونا وإعلانه كوباءٍ عالمي من قِبَل منظمة الصحة العالمية، تغييرات جذرية حدثت وتستمر بالتطوّر في جميع بلدان العالم، بالتزامُن مع حملةٍ إعلاميةٍ هائلةٍ على جميع منصّات التواصُل الاجتماعي ومختلف القنوات الإعلامية.
فهل سيُحدّد هذا الوباء أُسُسْ نِظام عالمي جديد؟ كيف يمكن أن يؤثّر على مستوى حقوق الإنسان والتزامات الدول تِجاه شُعوبها دولياً ومحلياً؟
في هذه المقالة، سوف يتمّ التطرّق إيجازاً إلى كلا المحورين، مع تقديم تحليل وفق مسار مُحتمَل للتطوَر في الأشهر المقبلة.
1) على مستوى حقوق الإنسان:
واحدة من نقاط التحوّل في تاريخ حماية حقوق الإنسان، هو بدء الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة الأميركية. فكما شرَّعتْ الحرب على الإرهاب انتهاك العديد من حقوق الإنسان، الحرب على فيروس كورونا قد تُؤسّس نظاماً مُمنهَجاً لمزيدٍ من الانتهاكات على مختلف الأصعدة.
على المستوى المحلي إعلان حال الطوارئ في أغلب بُلدان العالم مع اتخاذ إجراءات أمنية مُشدّدة حتى في معظم دول الغرب ذات الأنظمة الديمقراطية. تاريخياً وقانونياً، حال الطوارئ هي مخرج الحكومات لانتقاص حقوق الإنسان المُتّفق عليها دولياً. ما يعني زيادة الرقابة والتجسّس واختراق الخصوصيات، خصوصاً في البلدان التي تمتلك التكنولوجيا والإمكانيات اللازمة لفرض هذه الإجراءات، ما يعارض حق الخصوصية، بالإضافة إلى الحَجْر الاعتباطي بتُهمة حَملْ الفيروس، عِلماً أنَّ في بعض البلدان يمكن استخدام مُصطلَح "السجن" لتوصيف شروط الحَجْر، ما يُعارض حق الحرية.
كما أن تحديد الحركة محلياً مع فرض حَظْر تِجوال جُزئي أو كُلّي، ومنع التنقّل بين المُدن والأرياف، هو إجراء آخر يُعارض حرية التنقّل والحركة. حجم الانتهاكات يمكن أن يختلف من بلدٍ إلى آخر حسب النِظام الحاكم وحسب مدى دور المجتمع المدني في توجيه الدّفة أو التأثير على السياسيات الجديدة.
أما على المستوى الدولي فإنَ إغلاق الحدود البرية والبحرية والجوية بشكلٍ كاملٍ في أغلب دول العالم، قد يُمهّد الطريق لاعتماد منهج وإطار جديدين يُحدّدان حركة المسافرين.
الأمر المتوقّع في الأشهر المقبلة هو تحديد حركة المسافرين حسب معايير وتصنيفات جديدة. يُمكن اعتماد شهادة تؤكّد الخلوّ من الفيروس للسماح بالعبور إلى حدود دول أخرى. وكما يمكن السماح فقط لرجال الأعمال والدبلوماسيين والبعثات العلمية والطبية بالتنقّل بين الدول.
هذه الإجراءات تُعارض حق حرية التنقّل والحركة على الصعيد الدولي. على مستوى آخر، من المُحتمَل أن يتمّ انتقاص حق طلب اللجوء، ومبدأ عدم الإعادة القسْرية لطالبي اللجوء في مختلف أنحاء العالم مع التبرير أنّ قبول اللاجئين قدّ يُساهم بانتشار الوباء الأمر الذي يمكن أنّ يُهدّد الأمن الوطني لدولة اللجوء .
والسؤال متى سينتهي تطبيق إجراءات حال الطوارئ محلياً وعالمياً؟ هل ستنتهي بمُجرّد توقّف الوباء عن الانتشار؟ أو عند إنتاج لقاح؟ ومَن الذي يُحدّد انتهاء الوباء بشكلٍ كاملٍ وضرورة العودة إلى الوضع الطبيعي؟
2) على مستوى النظام العالمي
هيّأت الحملة الإعلامية لفيروس كورونا الطريق إلى خوف مُتزايد من وباء قد يُهدِّد البَشرية، ما دفع الشعوب للميّل لازدياد الشعور الوطني، يمكن أنّ يتصاعد تدريجاً إلى درجة التطرّف. ما يعني دعم سياسات إغلاق الحدود من قِبَل الحكومات، عدم استقبال اللاجئين، رفض الأجانب وغيرها من ممارسات وقناعات تناهض أهداف العولمة والليبرالية.
أحزاب اليمين المُتطرّف في الغرب سوف تلقى دعماً متزايداً لتطبيق سياساتها الوطنية بعيداً عن تحالفاتٍ دولية أثبتت هشاشتها خلال الأشهر الماضية. انتشار العديد من الفيديوهات على منصّات التواصُل الاجتماعي لإحراق عَلَم الاتحاد الأوروبي في إيطاليا مع وضع النشيد الوطني الإيطالي ما هو إلا مؤشّر اجتماعي لتنامي النزعة الوطنية.
على المستوى الدولي، فيروس كورونا قدّ يُعدّ نقطة تحوّل جديدة في تحديد قطبية النظام العالمي، كما حدث عند انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1946 وعند انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991.
غياب القيادة على المستوى العالمي لمواجهة الوباء، فالولايات المتحدة الأميركية التي تزعّمت العالم لتِسعة وعشرين عاماً كقوّةٍ عُظمى، قدّ تخلّت علناً عن قيادة النظام العالمي في ظلّ إدارة الرئيس دونالد ترامب وقد تجلّى ذلك في إغلاق الحدود مع الحلفاء الأوربيين ومحاولة شراء اللقاح من مختبر ألماني واحتكاره. في حين نجاح الصين في التغلّب على الوباء وتقديم إثبات لامتلاك إمكانيات هائلة لمواجهة خطر حرب بيولوجية وتدعيم هذه الفكرة إعلامياً. أما الدول الأوروبية فما زالت تتخبّط في طُرُق الاستجابة من تطبيق خطط الطوارئ والحَجْر الشامل إلى تطبيق منهج مناعة القطيع والمخاطرة.
تحالفات جديدة سوف تُبنى خلال هذه المرحلة وما بعد السيطرة على الوباء. كمثال صربيا (في قلب القارة العجوز) تَستنجد بالصين بعد تخلّي دول الاتحاد الأوروبي عنها، وإرسال المساعدات من طواقم وتجهيزات طبية من قِبَل روسيا والصين إلى إيطاليا ودول أوروبية أخرى ما هي إلا خطوة في طريق بناء علاقات جديدة قد تقلب موازين المعادلة الدولية التي طالت لما يقارب ثلاثة عقود.
تداعيات فيروس كورونا على الكرة الأرضية أخطر وأعمق من أعراض الفيروس على الأفراد، وستُساهم برَسْم نظام عالمي جديد على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية. أما الإعلام المُمنهَج فإنه يلعب دوراً حاسماً في رَسْم المستقبل، فمنذ إعلان الفيروس كوباءٍ عالمي، غابت عن منصّات الإعلام العديد من الأحداث العالمية الأخرى بشكلٍ شبه كامل، وباتت الشعوب أسرى خلفَ الشاشات بسبب خوف مُتزايد من فيروس مجهري.