تطويع من أجل التطبيع.. سيكولوجيا المهزومين

تتآكل الإرادة الشعبية العربية على حائط اللامُبالاة بالأمور السياسية لأوطانها، وهي لامُبالاة اشتغل عليها الحاكِم العربي منذ عشرات السنين، وساهم سلوكه السلطوي في بناء نفسية عربية خاصة.

  • تطويع من أجل التطبيع.. سيكولوجيا المهزومين
    تطويع من أجل التطبيع.. سيكولوجيا المهزومين

لا داعي لمحاولة البَرْهَنة على الانهزام السياسي العربي، لأنه واضح المعالِم، وأصبح كل إنسان عربي، مهما كانت درجة ثقافته، واعياً به ومُستاء منه، بقَدْر وعيه بخطورة حكّامه عليه والاستياء منهم.

من بين المظاهر السيكولوجية المهمة والحاسِمة لهذا الانهزام، هناك على وجه الخصوص كل ميكانيزمات التعويض التي يمارسونها، ليس بالضرورة لإقناع شعوبهم بأنهم الحكّام الذين يستحقّون، بل لإقناع أنفسهم بأنهم - وهم على مشارِف الهاوية - خالدون في كراسي حكمهم، فإلى جانب مظاهر البَذْخ المُغالى فيها، كوسيلةِ تعويضٍ عند الحكّام العرب، هناك أيضاً مظهر التباهي في ما بينهم، ومحاولة تنصيب كل منهم سيداً على باقي الحكّام، مرة بالترغيب وأخرى بالترهيب. 

ويُعدُّ التأرجح بين البطش بالشعب وممارسة أكبر قَدْر من الضغط والديكتاتورية والتسلّط على كل مَن لا يتّفق مع السياسات المُتبعة وتلك الانفتاحات المُحْتَشِمة، من قبيل تقنين الحق في "العَبَث واللعب والرقص والاستمتاع بالموسيقى الصاخبة" والانغماس الكلّي في ثقافة استهلاكية تدسّ السموم في النسيج العقلي والروحي والنفسي للإنسان العربي، مظهراً آخر من مظاهر الإخفاق في سيكولوجية الانهزام السياسي العربي. 

وبما أن كل الدول البترولية العربية تعتبر منذ ظهور هذه المادة في الأراضي العربية مجرّد حارسة لشركات أسيادها على هذا الكنز الثمين، وبما أنها ترى بأمّ عينيها أن هذا الدور نفسه أصبح مُهدّداً، نظراً إلى استغناء أميركا عنه على وجه الخصوص، بعدما قرّرت استعمال احتياطاتها الحجرية منه، فلم يعد لهذه الحكومات أية ضمانة تُذكَر لتستمر في استبداد شعوبها وإذلالها وتعذيبها بمازوخية قلّ نظيرها. 

وهذه هي الفرصة السانِحة التي كانت الصهيونية قد برمجتها وكانت تنتظر أن تقع، لأن مسلسل التطبيع الذي بدأته منذ ظهورها كقوّةٍ مستعمرةٍ لفلسطين، كان لا بد من أن ينتهي بإخضاع كل الضفادع العربية لمشيئتها.

ساهمت تراكُمات وترسّبات السلوك العدواني السلطوي للحكّام العرب في بناء نفسية عربية خاصة ليس لها مثيل بين كل شعوب الأمم الحالية، وأدّى ذلك إلى فُقدان البوصلة وتيهان الشعوب العربية على وجهها في سدرة مُنتهى الوجود الإنساني المقهور، من دون هدف ولا أمل. 

وسبب هذه الدوخة الوجودية للشعوب العربية هو الثنائيات التي لا حَصْر لها، والتي تسبّب بها حكّامها وتعاقب ديكتاتورييها على السلطة. ومن بين النتائج التي حصلت هي أن الشعوب العربية في القرن العشرين وبداية القرن الحالي، فقدت كل ثقة في الحاكِم الذي فرضته قوى أجنبية بحدّ السيف عليها، وهي تتغنّى بحقوق الشعوب والديموقراطية وكلّ تلك الأساطير الحديثة التي تساعدها على إحكام قبضتها على العالم. 

ويتجلّى فُقدان الثقة أيضاً في تفرّج الشعوب العربية على الطريقة التي وصل بها حكّامها إلى السلطة، باستعمال الغَدْر بينهم لإطاحة ديكتاتور بديكتاتور آخر، سواء في إطار انقلابات عسكرية بتفويضٍ من قوّةٍ أجنبيةٍ ما، ومساعدتها إن اقتضت الضرورة، أو بشبه انتخابات يكون الفوز فيها مضموناً بنسبة 99% لأكثر "الزعماء" دهاء وخبثاً وتلاعُباً بالضمائر ومصالح الشعب ووفاء لسيّد غربي بعينه. 

ويتعزّز انعدام الثقة في ملاحظة الشعوب العربية للطريقة التي تُنهب بها خيرات أوطانها، ويُهدر دمها وكرامتها، وتحاط بأسوار فعلية أو رمزية لكي لا تتحرك.

تتآكل الإرادة الشعبية العربية يومياً على حائط اللامُبالاة بالأمور السياسية لأوطانها، وهي لامُبالاة اشتغل عليها الحاكِم العربي بوعي أو من دون وعي منذ عشرات السنين، لإبعاد شعبه عن المشاركة في تسيير أموره وتحمّل مسؤوليته تجاه وطنه، بكل ما يتضمّن ذلك من وقوفٍ في وجه الحاكِم إنْ خرج عن السبيل وتجاوز حدود ما تحدّده له مسؤولياته المُفوّضة من طرف الشّعب.

وإلى جانب اللامُبالاة، تعلّم الشعب من حاكِمه اللجوء إلى كل أساليب الخُبث والحِيَل والبحث عن سُبُل جمع الثروات بكل الوسائل، المشروعة وغير المشروعة.

لم يكن التطبيع مع العدو الإسرائيلي الذي لاحظنا تسارُع وتيرته في الشهور القليلة الماضية وليد اللحظة الراهِنة، بل هو في الجوهر امتداد للتطبيع الذي بدأ بعد قيام "دولة" صهيون مباشرة، وخصوصاً بعد حرب التطهير العرقي الصهيوني في العام 1947.

 والتطبيع في حد ذاته هو نتيجة مباشرة لاستفحال فصام الحكّام العرب، وهو فصام حقيقي تأكّدت أعراضه عند الغالبيّة العُظمى منهم مؤخّراً، فإلى جانب الشعور بالخطر الحقيقي أو المُتخيّل من أعداء حقيقيين أو مُتَخيَّلين داخليين وخارجيين، أصيب هؤلاء الحكّام بنزيف صرف مالي لم يسبق له مثيل، لشراء الحماية الغربية الحقيقية أو المُتخيّلة، وخصوصاً الأميركية. 

وفي عزّ استفحال فصامهم، وبعدما شاركوا مباشرة بأموالهم وجنودهم في تمزيق المنطقة العربية، بدأ هؤلاء الحكّام حروباً مباشرة على "أعدائهم" في اليمن، بأسلحة غربية باهظة الثمن، ومرتزقة من كل الجنسيات، وهم مسلمون في غالبيّتهم، فعندما يقتل حاكِم شخصاً واحداً يعارضه في الرأي، فإنه يكون قادِراً في فصامه على قتل كل الشعب، لأن عدد الأشخاص المقتولين لا يهمّه، بقدر ما يهمّه البحث المستمر عن الشعور بالأمن الداخلي الذي فقده. 

وتظهر ملامح الفصام بكل جلاء عند هذا الحاكِم في الواقعة التي مفادها أنه لم يعد يمثل بأية طريقة من الطُرُق شعبه، بقدر ما يمثل مصالح أسياده الغربيين، والامتثال إلى أوامرهم، والعمل على تطبيق مُقرّراتهم وقراراتهم، وبالخصوص في ما يتعلق بالعدو الإسرائيلي وما عليه القيام به من أجل إرضاء سيّده، على الرغم من أن الشعب العربي برمّته ليس فقط ضدّ التطبيع، بل ضدّ "دولة آل صهيون".

لتسارع وتيرة التطبيع السالف الذِكر علاقة مباشرة بفصام الحكّام العرب، ولا سيما إذا كنا نعلم أن رهاب الخوف يُلازم الفصام في غالب الأحيان، فبعدما تيقّنت الديكتاتوريات العربية الأميرية والرئاسية بأن سيّدها قد تخلّى عنها، سواء دفعت أمْ لم تدفع - والواقع أن ذلك ينتمي إلى طبيعة الفخّ الأميركي الصهيوني - ارتمت في أحضان الصهاينة، على أمل أن يكونوا طَوْق النجاة الأخير لها. 

لم يعد الحاكِم العربي يخشى ردّ فعل شعبه في عملية تطبيعه، لأنه مُتيقّن من أنه قتل كل شعور بتحمّل المسؤولية لديه، ودليله على ذلك أن هذا الشعب لا يهتمّ بويلاته الداخلية، فكيف له أن يهتمّ بمصير الشعب الفلسطيني! هذا يعني أن التطبيع كان مسبوقاً بالتطويع الإرادي لإرادة الشعب العربي، وإلهائه عن قضاياه وقضايا أمّته، بتجويعه وتقديمه قرباناً للجهل وانعدام الضمير.

هذه العملية الحسابية السياسية الرخيصة توحي في عُمقها بالعماء الوجودي للحاكِم العربي الحالي، لأن رمزية القضية الفلسطينية أكبر بكثير مما يعتقد، فما دامت فلسطين مُستعمرة من طرف الغرب الصهيوني، لن يموت الشعور بالمقاومة في صفوف الشعب العربي، لأن احتلال فلسطين يذكّره باستمرار بأنه لا يزال مُحتلاً في الواقع، حتى وإن كان قد حصل بالفعل على استقلال سياسي نسبي. 

علاوة على هذا، إن الرمزية الروحية للأماكن المُقدّسة المسيحية والمسلمة في فلسطين هي النواة الصلبة لإبقاء شعلة المقاومة مُتّقدة في عقول الشعوب العربية وقلوبها. 

وإذا أضفنا عاملاً آخر، يتمثّل في تعرية حركات التطبيع للوجه الحقيقي للحكّام العرب، فلا مجال للشكّ في أن هؤلاء يستشعرون الخطر المُحدِق بهم، ومستعدّون لعقد التحالف مع الشيطان شخصياً للبقاء في الحُكم.

من الاستراتيجيات التي عوَّلت عليها "دولة" آل صهيون الأبرتهادية في إيديولوجية التطبيع التي تستخدمها لأهدافٍ ظرفيةٍ مع الحكّام العرب، تكثيف الأخبار عن المُطبّعين وأنشطة التطبيع، بغرض قتل آخر معاقل المقاومة العربية، والبَرْهنة للشعوب العربية بأن التطبيع أصبح أمراً واقعاً لا مفرّ منه، لكنها لم تأخذ في الحسبان بأنها بذلك أيضاً تؤجّج الشعور بالمسؤولية عند ملايين العرب تجاه أمّ قضاياهم، وأن الشعور بالإحباط وقلّة الحيلة والغدر هو المستودع الحقيقي لهؤلاء الشرفاء للاستمرار في إبداع طُرُق مقاومة جديدة، إلى جانب المقاومة المُسلّحة على الأرض التي يخوضها الشعب الفلسطيني الباسِل، على الرغم من خيانة من يُعتبرون حالياً الحكومة الفلسطينية، أي مَن نصّبهم العدو الصهيوني لمقاومة الفلسطينيين. 

فما يُسمّى عبَثاً السلطة الفلسطينية لا يعبّر بحالٍ من الأحوال عن تطلّعات الشعب الفلسطيني وآماله لتحرير أرضه، بل - وككل الحكّام العرب الآخرين - ينهج سياسة مزدوجة: يمد يده من تحت الطاولة للعدو الصهيوني، ويهدّده من فوق الطاولة بكلامٍ فارغ. 

وقد وعى الشعب الفلسطيني، ومعه كل الأحرار العرب والمسلمين، هذه المؤامرة، وأصبح ضرورياً تكثيف الجهود للوصول إلى مُبتغاه الأقصى: تحرير كل فلسطين من المُغتَصِب.

إن عملية التطبيع، وعلى الرغم من أنها خطيرة وغير مقبولة سياسياً وأخلاقياً، هي آخر ورقة يعوّل عليها الصهاينة للاستمرار في احتلال أرض ليست لهم. 

ولجوء الصهاينة إلى هذا التطبيع هو إثبات على أنهم يستشعرون الخطر المُحدق بهم، لأنهم داخلياً وصلوا، بفضل المقاومة الفلسطينية والعربية المدعومة من طرف مسلمين شرفاء فَهِموا رسالتهم تجاه الأمّة المسلمة، إلى نقطة تحت الصفر، ذلك أن الحال النفسية لأغلبية الصهاينة سلبية للغاية، وهناك الكثير منهم من رَجع إلى بلده الأصلي في الغرب، لأنهم فَهِموا أن الانسحاب الفردي قبل فوات الأوان هو الحل المنطقي الوحيد الذي بقي لهم، إضافة إلى أن الصهاينة يعرفون حق المعرفة أن مَن يعوّلون عليهم من الحكّام العرب حالياً على حافّة الإفلاس السياسي والاقتصادي، وبأنهم بين عشيّة وضُحاها سيهربون ويهرِّبون ما سرقوه من ثرواتٍ إلى الغرب، للاستمرار في عَيْش حياة البَذْخ بضمير هادئ، إن نجوا من قبضة شعوبهم.

إنّ الواقع الفعلي للتاريخ الإنساني، منذ أن وجِد الإنسان على الأرض، يثبت بأمثلة كثيرة أن المُعتدي والمُستعمِر والغاصِب لا يسود أبدياً، وأن الشعوب، حتى وإن سَهَت لبعض الوقت، أو كانت مضطرّة إلى السهو، فإنها تستيقظ مهما طال الزمن. 

وهذه حال المقاومة العربية، فكل المؤشّرات تُثبت أنها أصبحت منظّمة أفضل من أيّ وقت مضى، وأن الداعِمين لها مقتنعون بحق الشعب الفلسطيني في أرضه كاملة، وبحق المسلمين والمسيحيين في أماكنهم المُقدّسة. 

لم يسبق في التاريخ الحديث لفلسطين أن كانت حظوظ نجاح مقاومتها مثل اليوم. لذا، على كل عربي، وعلى كل مسلم حر، وعلى الإنسانية جمعاء، عدم التقاعُس في دعم هذه المقاومة، كلٌّ في ميدانه وبحسب إمكانياته المادية والمعنوية.

اغتصبت فلسطين في يوم النكبة، وفي يوم القدس العالمي إحياء لقضية فلسطين في نفوس كل المقاومين، وبين اليومين تاريخ نضال وتضحيات.. في زمن القدس، تغطية خاصة حول فلسطين والقدس، ومحاولات التطبيع المستمرة، التي بدأت تأخذ بعداً أكثر مباشرة ووقاحة.