أثر "الدراما" في الوعي العربي.. دعوة إلى قوة ناعمة مضادة
باتَ المُحتوى التلفزيوني الرمضاني أداة لتطبيق القوّة الناعمة داخلياً لتبرير قرارات السياسة الخارجية.
ما معنى القوّة الناعمة؟
هي وسيلة في السياسة الخارجية تُطبّق من خلال الدول بطريقة مُمنهجة، للتأثير في أفكار مجتمعات معيّنة في بلدان أخرى، بهدف إحداث تغيير مستقبلي يمكن أن يتمحور حول تَقبّل الدولة المُطبّقة للقوّة الناعمة ومجتمعاتها، ولبناء صورة لامعة، أو لبناء إيديولوجية تخدم مصالح خارجية.
تتميّز القوّة الناعمة بقدرتها على الجَذْب والإقناع، وتعمل على استمالة جمهورها لغرض معيّن. الأكاديميون وخبراء السياسة يركّزون على عُنصرين عند تعريف القوّة الناعمة لدولة معيّنة؛ الأول هو القُدرات، وتعني الماكينة الإعلامية والثقافية، وقُدرة الوصول إلى أكبر جمهور لعرض أفكار معيّنة، والآخر هو الأثر ومدى التغيير المُحدَث من خلال الوسائل الإعلامية والمراكز والفعاليات الثقافية المختلفة.
الأمثلة على أثر القوّة الناعمة في العالم العربي من قِبَل قوى خارجية كثيرة، فمعظم الشبكات العالمية الأميركية والبريطانية والصينية والروسية والفرنسية تبثّ باللغة العربية، وتحاول أن تبني جسور التواصُل مع الشعب العربي. أما في الدراما التلفزيونية الخارجية المنتشرة في الوطن العربي، فالدراما التركية التي غَزَتْ البيوت العربية، وأصبح مُشاهدوها من جميع الأعمار، هي أوضح مثال.
ولكن هل يتم استخدام القوّة الناعمة من قِبَل الحكومات العربية على الشعب العربي؟ هل يتم استخدام الدراما التلفزيونية لتحدّي مُعتقدات ومبادئ تتعلّق بالأرض والهُوية؟ هل التّطبيع مع "إسرائيل" يتم التمهيد له، أو في حال بعض البلدان، تعزيز تَقبّلهُ من خلال تطبيق قوّة ناعمة؟
يمثل شهر رمضان الكريم فُرصة سنوية للقنوات التلفزيونية للتنافُس في إنتاج المسلسلات والبرامج الترفيهية وعرضها، مُستهدِفة الجمهور العربي عامةً.
في كل عام، يتمّ إنتاج العشرات من المسلسلات، وقد يصل عددها إلى مئة، لتغطّي مواضيع مختلفة تتعلّق بتطوّرات الزمن الحاضر أو بأحداث تاريخية ساهمت في رسم الواقع الذي نعيشه. ومع كمّ المعلومات الهائل والأفكار المختلفة المعروضة، فإن ما تقدّمه بعض مسلسلات رمضان يهدف إلى أكثر من تسلية الجمهور وتحقيق الأرباح المادية، فقد باتَ المُحتوى التلفزيوني الرمضاني أداة لتطبيق القوّة الناعمة داخلياً لتبرير قرارات السياسة الخارجية.
تمت إثارة هذا الموضوع بفضل بعض المسلسلات المُنتجة لشهر رمضان هذا العام، وتحديداً "أمّ هارون" و"حارس القدس"، عِلماً أنني لستُ من مُتابعي دراما رمضان، ولكنني قرأت العديد من كتابات القَدْح والذمّ التي تتناول المُحتوى المُقدّم في مسلسل "أمّ هارون"، الذي يهدف إلى التطبيع أو تعزيز فكرة تقبّل المجتمع اليهودي والكيان الصهيوني. كما تمّت مقارنته بمسلسل "حارس القدس" الذي يمثل محور المقاومة.
على المستوى القانوني، إن حرية التعبير عن الرأي حق من حقوق الإنسان المُعتَرف بها دولياً، ما دامت الفكرة المطروحة لا تُعَتبر لغة كراهية أو تحريضاً على الأفعال المُحرّمة دولياً، ولا تشجّع على الإرهاب.
أما محلياً، فإن السماح بإنتاج محتوى معيّن وعرضه متعلّق بقوانين الدولة المُنتجة أو الدولة التي يتمّ عرض العَمل ضمن حدودها. هذا الطَرح لا يُقلّل من خطورة الأفكار المطروحة من خلال الإعلام ودوره في التأثير على مستوى الأمن القومي للدول العربية، ولكن للتذكير، لا جدوى من المُجابهة القانونية للقوّة الناعمة المُطبّقة من خلال الإعلام والدراما.
في الحال العربية، أغلب الحكومات جائرة، ولم تصل إلى الحُكم بطريقةٍ ديموقراطية. إن رَسْم السياسة الخارجية للدولة، وفي حالتنا التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، هو قرار يُبنى على أعلى مستوى، ولا توجد فيه حصّة أو نصيب للشعوب أو ممثليها في البرلمانات.
ورغم ذلك، إن الأحداث المُتسارِعة في العالم العربي منذ العام 2011، بفضل حركات احتجاجية وثورات، دفعت بعض الحكومات العربية إلى التوجّه إلى شعوبها، من خلال بثّ وإيصال أفكار تدعم فكرة التطبيع، سواء من خلال مسلسلات درامية أو برامج سياسية تروِّج لعملية الحوار مع الكيان الصهيوني.
إنَّ انتشار العديد من المقاطع المصورة مؤخّراً لناشطين خليجيين يقومون بزيارة الاحتلال الإسرائيلي، ويحاولون التأكيد على ضرورة السلام، هو مستوى آخر لمحاولة بناء صلة مع الشعوب العربية والتسويق لفكرة تقبّل المُحتل.
ما هو أخطر من ذلك، أن الكيان الصهيوني وجد المنصة الداخلية للتوجّه إلى الشعوب العربية، فتطبيق قوّته الناعمة يتم بأسلوب مُبْتَكر، من خلال التأثير في السياسة الإعلامية الداخلية في البلدان العربية، وبثّ أفكار من خلال محطاتها وأعمالها الدرامية، في ضوء موافقة حكومات عربية.
والهدف البعيد لهذه الحملة يكمُن في إعداد جيل عربي لا يمتلك المعرفة بتاريخ الحق المسلوب ومُمارسات المُحتل، ولا يؤمن بالقضية الفلسطينية، ويعتبر الكيان الصهيوني المنقذ للمجتمع اليهودي المُضطهد. وهذا كله يَصُبّ في وقف الدعم الشعبي لحركة المقاومة والتسليم للمشاريع الصهيونية التوسعية.
الحرب ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني هي حرب فكرية مع حكومات عربية أبرمت الاتفاقيات، ورحّبت بالسلام، وتخلّت عن القضية مُنذ عقود، ودور المجتمع المدني والصحافيين والقنوات الإعلامية الحُرّة هو الحجر الأساس لمواجهة حركة التطبيع مع الكيان الصهيوني.
للأسف، أغلب الكتابات التي قرأتها ضد التطبيع تستخدم لغة الشتم والذّم التي سئِم منها القرّاء والمشاهدون. كما أنّ هناك غياباً كاملاً لإحصائيات دقيقة وأبحاث تتعلّق بحجم الأفكار المعروضة والعبارات الهادفة إلى تشجيع التطبيع مع الكيان الصّهيوني.
ولمواجهة القوّة الناعمة المُمارَسة من قِبَل حكوماتنا بهدف التطبيع، يجب أن يتم تنظيم الجهود لتنظيم قوّة ناعمة مُضادّة، من خلال كشف المعلومات المُلفّقة التي تتعارض مع الحقائق، وإعداد أبحاث ودراسات، وجعلها مُتاحة للجميع، وتقديم محتوى إعلامي يُعزّز التّمسك بالقضية ويفضح ممارسات الاحتلال، من خلال جميع الوسائط المُمكنة، وعلى مختلف المستويات الأكاديمية والعلمية والاجتماعية والثقافية.
الحرب ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني عملية طويلة يُمكن أن تستمر لعقود، ولكن يجب أن تبدأ الآن بطريقة مُمنهجة، ليشهد أحفادنا انتصارها. ومع إهمال مواجهة حركة التطبيع، يُمكن أن نشهد تَعلّم اللغة العِبرية كإحدى المواد التعليمية الأساسية في مدارسنا العربية، لنتمكّن من العيش ضمن حدود الكيان الصهيوني الممتدة بين النهرين.