ممر إجباري.. أموال دعم السلطة الفلسطينية لم تعد هبات
ساهم الارتباط المالي الداعم من الدول العربية لصندوق السلطة الفلسطينية في التغاضي عن تجريم الأنشطة التطبيعية، خوفاً من ردود الفعل، لناحية قطع الدعم العربي.
بات واضحاً مسار النظام السياسي الفلسطيني، وانحداره سريعاً نحو مزيد من الإخفاقات. والسبب في ذلك فشل مبادرة السلام العربية التي تمخّضت عن قمة بيروت في العام 2002 في تحقيق إقامة دولة فلسطينية وفقاً لمخرجات القمة، والتي من جملة ما دعت إليه التطبيع مع "إسرائيل"، من خلال "إنشاء علاقات طبيعية في إطار سلام شامل، ورفض أي شكل من أشكال توطين اللاجئين الفلسطينيين في البلدان العربية المضيفة".
فَتْح باب التطبيع والعلاقات الثنائية مع "إسرائيل"، لم يُكتب له النجاح في ذلك الوقت، بسبب تنكّر "إسرائيل" لمخرجات القمة العربية، إلا ما نصّت عليه القمة، إذ بَقي حاضراً في العقلية الإسرائيلية، فقد كان التطبيع أولاً، ومن ثم البحث عن السلام، جُل ما يشغل سلطة الاحتلال.
تسارعت الوتيرة الإسرائيلية في العقدين الماضيين في بناء المزيد من المستوطنات، وإعلان رفض تفكيك أي من المستوطنات المُقامة على أراضي الضفة الغربية، وتحديداً المستوطنات الـ4 الكبرى، والتي تقف عائقاً أمام حل الدولتين.
تحايلت "إسرائيل" على مبادرة السلام العربية، ودأبت على تنفيذ ما يخص بند التطبيع مع الدول العربية. استثمر رئيس وزراء "إسرائيل" بنيامين نتنياهو التطبيع السري والعلني مع الدول العربية لإحداث تغيرات في الصراعات الانتخابية داخل "إسرائيل"، والتي جاءت نتائجها لمصلحة اليمين الإسرائيلي، وصرح بافتخار عن زيارته ولقاءاته مع ملوك ورؤساء عرب في أكثر من محفل دولي، لافتاً إلى أن "إسرائيل" تقيم علاقات سرية مع العديد من الدول العربية والاسلامية، ما عدا 3 دول فقط رافضة لإقامة علاقات تطبيعية.
وضمن موجات التطبيع العلنية، زار نتنياهو سلطنة عُمان، والتقى السلطان قابوس قبل وفاته، كذلك التقى رئيس الوزراء السوداني عبدالفتاح البرهان، ووطّد علاقته مع دولة تشاد.
وما نشهده حالياً من دفاع بعض الأنظمة العربية، سواء في مسلسلاتها أو عبر منصاتها، عن وجهة نظر "إسرائيل"، هو دليل حقيقي على التقارب العربي الإسرائيلي على حساب فلسطين وقضيتها العادلة.
وفي أحدث مؤشر على جدوى التطبيع مع "إسرائيل"، خلت قائمة الدول غير المتعاونة مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، والتي أصدرتها الخارجية الأميركية قبل أيام، من اسم السودان. جاء ذلك بعد الوساطة التي لعبها نتنياهو مع الإدارة الأميركية لإخراج السودان من لائحة الإرهاب، إثر لقائه عبدالفتاح البرهان، والذي أثمر وقتها عن فتح المجال الجوي السوداني للطيران الإسرائيلي.
مُنحنيات عدة ساهمت بشكل كبير في الهرولة العربية تجاه التطبيع مع "إسرائيل"، أبرزها النظام السياسي الفلسطيني، وعدم قدرته على تطوير أدوات ديموقراطية تستوعب الإسلام السياسي، وخصوصاً في الحاضنة الفلسطينية التي تتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية.
وكذلك، أدت موجة الربيع العربي دوراً في فتح الأبواب لـ"إسرائيل" للتغلغل تحت ذرائع التعاون الأمني، ومكافحة الإرهاب، وتقديم الحلول التكنولوجية، وإطلاق المبادرات الاقتصادية.
تلك المنحنيات ساهمت في تشكيل محور مركزي لعدد من الدول العربية في الهرولة نحو التطبيع مع "إسرائيل"، في سبيل الحفاظ على علاقات طيبة مع الولايات المتحدة الأميركية، وديمومة أدوات السيطرة والحكم، لتجنب الانقلابات والتغيرات السياسية داخل أركان تلك الدول.
ساهم الارتباط المالي الداعم من الدول العربية لصندوق السلطة الفلسطينية في التغاضي عن تجريم الأنشطة التطبيعية، فالأخيرة عاجزة عن مواجهة أو تجريم فعل التطبيع لأي دولة عربية، خوفاً من ردود الفعل، لناحية قطع الدعم العربي.
وربطت الدول العربية الأموال بالمواقف السياسية، وبثقافة التطبيع والليبرالية التي تسعى لها، والتي تصبو إلى تحويل الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين من شعب يصارع على أرضه ومقدساته، إلى شعب يسعى للحوار من أجل الحصول على فتات الأرض والمقدسات. هذا بدوره حوّل الصراع إلى قضية تعايش استبدلت من خلالها مفاهيم الإنتاجية والجماعية والصراع والمقاومة والمطالبة بالحقوق الوطنية الفلسطينية.
فرض الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة متغيّرات أخرى على القضية الفلسطينية، بحيث تم الاستفراد بالقطاع على أساس أنه قضية إنسانية، وليس سياسية، وأن أزماته التي يعاني منها سببها تفاقم الوضع الاقتصادي والإنساني.
فتح هذا الأمر ثغرة أمام الدول العربية للبحث عن حلول، من خلال فتح أبواب عواصمها لاستقبال ورشات عمل اقتصادية تبحث عن حلول اقتصادية وإنسانية على حساب الحلول السياسية للقضية الفلسطينية، فقد شاركت الدول العربية في حزيران/يونيو 2019 في ورشة المنامة في البحرين، والتي دعت لها الإدارة الأميركية لتقديم خطة "الاقتصاد مقابل السلام".
تهدف تلك المشاركات إلى إخضاع الفلسطينيين لمتغيّرات سياسية واقتصادية جديدة، جاءت بعد إعلان ترامب القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، وما صاحب ذلك من نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، فالعلاقات التطبيعية كانت، ولا زالت، تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وتفريغها من مضمونها السّياسي، لتصبح مشاريع إنسانية وإغاثية واقتصادية على حساب قيام دولة فلسطينية، في حين تسعى "إسرائيل" إلى أن تتحوّل إلى دولة طبيعية في المنطقة، لها علاقات وازنة وثقل سياسي وأمني، توطّد من خلاله تحالفات عسكرية وأمنية واقتصادية مع الدول العربيّة.
نجحت كلّ من "إسرائيل" والولايات المتّحدة في فرض الممرّ الإجباري على الدول العربية بضرورة التعاون والتطبيع مع "إسرائيل"، من أجل ضمان استقرار بنيتها السياسية في الحكم، وفرض معادلات التبعية السياسية والأمنية، وأيضاً تقويض أي سلطة خارجة عن إطار التطبيع، وخصوصاً في الدول العربية التي لا زالت تشهد صراعات، مثل ليبيا واليمن وسوريا.