ملحمة الوباء للمُعتبرين.. تجلّي السُنن الكونيّة في الآيات المنسيّة
أين هم دعاة الإفتخار والنرجسية والإستكبار على الناس؛ أبقيت بلدانهم متميّزة فوق البلدان؟! وهل أثبتوا أنهم شعوب لا تُقهر ولا تُذل؟! وأين هم مَنْ تغنّوا بشعار الترفّع على بقيّة الأمم بالإنسانيّة والأخلاقيّة والقيم ومد يد العون والإغاثة؟
مدرسة الوباء بحقّ مليئةٌ بآياتٍ للمُعتبرين؛ وكأنّ "كورونا" هو المعلّم البليغ في هذه المدرسة جاء ليذكّر الإنسان بحجمه الحقيقي بعد تفشّي الطُغيان، وشدّة الفساد، والبغي في الأرض واستعمارها استكباراً بشتّى صنوف السياسات الظالمة، التي أهلكت الحرث والنسل وسفكت الدماء بالقتل والجوع والإستغلال الجشع البشع. فممّا لا شك فيه أن ما بعد جائحة الوباء لن يكون كما قبلها على الناس والحياة والتطلّع المستقبلي عامّة. فخطورة فيروس كورونا (Disease: Coronavirus, COVID-19; Virus: SARS-CoV-2) ليست في "كورونا الفيروس الجسم المجهري" ذاته الذي يستهدف إرباك أو تدمير النظام التنفّسي في بدن الكائن الحيّ من خلال الإلتهابات الرئوية الحادّة، أو تعطيل أعضاء حيويّة معيّنة في البدن، بل خطورته الحقيقية تكمن في وبائيّته الشديدة وسرعة إنتشاره كفيروس يتفشّى كالنّار في الهشيم، عابراً للبلدان بشكلٍ خطير على طول وعرض الكوكب، والذي لا يوجد له لَقاح مُجرَّب كِفايةً في الحال الحاضرة (على الأقل كما يُشاع رسميّاً). الكائنات المجهريّة الصغيرة (Microorganisms) من حولنا كثرة كاثرة وأنواع شتّى، حتى أنه يتعذّر إحصاؤها علميّاً وعمليّاً، لكن الخطير في الأمر هو تحوّل هذا الجائح المجهري الصغير الذي لا يُرى- وهو ربّما ليس من الكائنات الحيّة أصلاً، بحسب بعض الأطروحات العلمية القائمة، لفقدانه قدرة التكاثر في نفسه ولحاجته إلى خليّةٍ مُضيفةٍ (Host) تُمكّنه من التكاثر والإنتشار- إلى وباءٍ كارثيٍ عظيمٍ لا يُنسى؛ أخذ العالَمين والعالِمين على حين غفلة من الزمان والمكان، والتعقّل والتفهّم، وقد أربك هذا الصغير الفتّاك، الألباب وتركها متحيّرة تتلفّت وتستغيث في المشارق والمغارب!
الحياة بعد الجائحة لن تبقى على نَسَق الحياة ما قبلها
ممّا لا ريب فيه أن الناس بعد مُقاساتهم لهذا الوباء المتفشّي الذي خرج عليهم غازياً للبلاد، خاطفاً- بوفرة القتل والفتك والإمراض- للعباد، ستضل أعناقهم له خاضعة؛ مما سيدفع بهم أفراداً وجماعاتٍ إلى "ثالوث المراجعة": الإعتبار به، والإعتذار بسببه (في ما بينهم)، والإقتدار عليه (بالغلبة والتقدّم العلمي). مراجعةً شاملةً لذواتهم، وحساباتهم، ورؤاهم الكونية (Worldviews)، ومنظوماتهم المعرفية (Ideologies)، ليعودوا إلى المربع الأول من التساؤلات الوجوديّة الكبيرة ومن زوايا مختلفة بعد الإعتبار والإعتذار والإقتدار ليُفتّشوا عن الغائية في جوهر الحياة والوجود وليُحدّدوا مجدّداً- بعد رجوعهم من الغيبوبة التي قبعوا فيها لفترات من الدهر- غاياتٍ مصيريّةٍ أمثل، ومساراتٍ فكريّةٍ أصلح، وتطلّعاتٍ حياتيّةٍ أفضل، لسعادة حياتهم ومعاشهم ومماتهم. فهذا الوباء يختزن في باطنه نِعَماً جَمّة، كما يعلوه في ظاهره نِقَماً غَمّة! وسواء أكان خروجه على البشريّة خروجاً طبيعيّاً بريئاً في نشوئه، أم بفعل فاعل خبيثٍ بقصدٍ، أم بخطأٍ غير محسوب العواقب– فالنتيجة من حيث الإعتبار والإعتذار والإقتدار على كافة البشريّة واحدة، وهي كونيّة الوقوع.
مساهمة الفلسفة في ترشيد الفَهْم البشري
وقد اشتغلت الفلسفة قديماً بمناهجها المختلفة ومقارباتها العقلية الضاربة في أعماق الإنسان والحضارات، بصون حياة البشريّة واهتمّت بأصقاع هذا الجانب الأصيل المتجذّر في الأفراد والجماعات، حتى نشأت على إثرها علوم تخصصية أخرى كالعلوم الدينية (Religious Sciences)، وعلم تداخل-الأديان (Interfaith Science)، وفلسفة الدين (Philosophy of Religion)؛ وكان من أهم التفرّعات "علم الكلام" (Theology) الذي يتولّى التصدّي للقضايا التي تحوم حول وحي السماء، وفعل الباري القدير في ما برّأ من الخَلْق وأبدع من النظام، ومنهج الدين، ونداء العقل والفطرة في ظِل المسار والهداية الوحيانيّة المُطلّة على الدنيّا من علياء عالم الغيب الأعلى والأرفع وجوديّاً في شأنه ومرتبته وإحاطته وأسبقيّته.
فمنهج السماء في عليائه يتنزل بالتجلّي من حولنا، تارةً بالآيات التدوينيّة المُبيَّنة في القراطيس المقروءة، وأخرى بالآيات التكوينيّة الباهرة المشهودة في الآفاق والأنفس. والذي يحكُم دار الوجود الوسيع الفسيح بأسره ويتحكّم بصواعده ونوازله، وظواهره وبواطنه، من أقصاه حتى أقصاه بين المشارق والمغارب هو المُبدع العظيم وحده؛ وقد سنَّ سُنناً كونيّةً تُمسك السماء والأرض أن تقع، أو تتفلّت من الناموس القائم، وهي بمثابة قوانين ومبادىء وضوابط، منها صارمة ثابتة ومنها مرنة متحرّكة، وهي كسنن مُحْكمة في كلتا الحالين لا تتبدّل ولا تتحوّل، لأصالتها واتصالها بحقائق الأمور وكوامنها. ولم يكن لنظام الكون بتاتاً أن يجري بلا منهجٍ مُحكم أو مُديرٍ حكيمٍ ديّار، هنْدس حركة سيّاراته وأفلاكه وأملاكه؛ والعقل الفلسفي السليم يأبى أن يتقبّل تفسيراً معقولاً مقبولاً مُقنعاً للغز نظام الوجود يَهمل فيه: أبعاده الغائية، ونسيجه العلّي السببّي المحبوك بدقة متناهية، وروابطه التعليليّة القائمة التي تجعل منه وحدةً عضويةً تفاعليةً، كناظمٍ يجمع بين أطرافه المتراميّة في بوتقةٍ واحدةٍ. وبذلك وتأسيساً على هذه الرؤية الأصيلة، امتزجت أرجاء النظام الكوني بالتفاعل، شاملةً محاورالوجود (Existence)، والعليّة (Causation)، والغائيّة (Teleology)، والمصير (Eschatology)– لتكتمل اللوحة الوجودية الجميلة الخلّابة لدى العقل المُتدبّر المُعتبِر بالرؤية السليمة، في تصفّحه لكتاب الكون والحياة. وهذا هو ديدن الإنسان المُحترِم لهويّته، ودأب المُعتبرين المُستشّعرين بثقل الأمانة والمسؤولية العالية في القيام بالإعتبار المصلح للحال والشأن الفردي والمجتمعي.
السُنن الكونيّة في فَهْم التاريخ وحركة الحياة
النظرة "السُنَنيّة الكونيّة" في تفسير التاريخ والكون والمجتمع، وأحداثه، لكفيلة بوضع- هذه الجائحة الوبائية الخطيرة الراهنة (وباء كورونا كوفيد-19) من حيث أبعاده الفكرية ومحتواه الثقافي الآني وعلى المدى البعيد- في موضعه الصحيح داخل منظومة المعرفة والفهم الصائب، وذلك من خلال تفكيك كافة عناصر الحدث المتداخلة؛ بدءاً من إسقاطاته العاجلة على الواقع الفعلي، حتى إرهاصاته وتبعاته الآجلة. وممّا هو واضح أكيد أن ثمّة سلسلةٍ من سُننٍ كونيّةٍ (Universal Laws) متفاعلةٍ متداخلةٍ بحيَويّةٍ عاليةٍ، هي التي وضعها الخالق الحكيم لتحكم نظام الوجود وتضبط إقاعه ضمن ناموسه العام وأسسه البُنيويّة الواسعة. وجعل ذلك كله على صيغة قوانين قابلة للدراسة والتعلّم، يتعلّمها الإنسان ويسخّرها كالمفاتيح في فتح مغالق أسرار الكون من حوله.
مع محمّد باقر الصدّر في مدرسته الفكّرية
ويمكن تصنيف السُنن المتنوّعة هذه إلى أصناف عامّة ثلاثة، كما نظّر لذلك العالم الكبير والمرجع الديني الرفيع والفيلسوف العراقي المُبدع، في القرن المنصرم، محمّد باقر الصدّر (1935-1980م –1359-1313هـ)، من خلال نتاجه الفكري التحليلي الرائع في قراءة السُنن، التي تحكم حركة التاريخ وهيكلة وترابط حوادثه المؤثرة فيه وفي إمتداداته الزمنيّة المتصلة عبر العصور والأمم. فقدّ صنّف الصدّر السُنن إلى أشكالٍ ثلاثة من خلال استنباطه المتفحّص لمعين القرآن الكريم واستيحائه الدقيق لروح نصه الحكيم، ووصف هذه السُنن بـ"التاريخية"–فهي سُنن تاريخية بلحاظ إطلاقها العام وشمولها وتكرارها وتواترها المستمر في دورات التاريخ وحوادثه المتعاقبة. وكذلك فالإنسان "كائن تاريخي" فريد من نوعه؛ فهو يُراكم تجربته وخبراته عبر الأجيال في فَهْم وتفسير الأمور من حوله.
تتلخّص هذه السُنن بالصيَغ التالية:
(1) سُنّة على شكل "قضيّة شرطيّة"؛ وهي التي تتشّكل من العلاقة الموضوعيّة القائمة بين الشرط والجزاء، فكلّما تحقّق الشرط وارتفع المانع، تحقّق الجزاء، وعلى نحو التمثيل، إذا سقط جسم ما من شاهق مرتفع على وجه الأرض (الشرط)، فإنه سيتجه في حركته إلى الأسفل سقوطاً (الجزاء)؛ أو إذا تعرّض الجسم المعدني الفلزّي إلى حرارة لمدّة من الزمن (الشرط)، فإنه سيتمدّد بفعل أثر الحرارة على تركيبته الذرّية (الجزاء). هذان مثالان لظواهر لا تُعد ولا تُحصى من ظواهر عالم التكوين والطبيعة من حولنا فيما يمكن دراسة أحكامها وصفاتها على شكل قانون موضوعي سُنني يُصاغ بأسلوب القضيّة الشرطيّة. وتبعاً لذلك، فإن للإنسان هامش من الحريّة والمرونة، ومساحة من فعل الإرادة تجاه هذا الشكل من السُنن في إعمال ما يلزمه من توفير الشروط لنيل الجزاء، أو التخيّر في الحيلولة من دون توفّر تلكم الشروط كي يتجنّب توابعها من الجزاء. ويمكن وصف هذه السُنّة بأنها "سُنّة مطواعة"؛ فهي كذلك من حيث رضوخها لإرادة الإنسان وتصرّفاته، ولو على نحو نسبيٍ محدودٍ.
(2) سُنّة على نحو "القضيّة الفعليّة الناجِزة"التي تُعبّر عن ظاهرةٍ أو فعلٍ موضوعيٍ حتميٍ مُحقَّق الوقوع؛ كالظواهر الكونيّة ونواميس عالم الطبيعة وحوادثه التي لا مردّ لها حينما توشك على الوقوع. ومثال ذلك ظاهرة ورود النيازك والشُهب الخاطفة من الفضاء إلى داخل غلاف كوكب الأرض؛ أو ظاهرتا الكسوف الشمسي والخسوف القمري، فإنهما حادثتان واقعتان لا يملُك الإنسان إزاءهما أي هامش من التصرّف أو إعمال الإختيار والحرّية. فيقعان حتماً وجزماً وعنوةً؛ وعلى نحو القضية الخبريّة. ومع أن هذا الشكل من السُنن يتضمّن الظواهر القاهرة فوق إرادة الإنسان والتي لا يمكنه أن يردها أو يدفعها وتصله كخبر واقع أو على وشك الوقوع، إلّا أنه يتمكّن وبفعل تدبّره وتدبيره الحاذق أن يُخطط ويُهيّىء لما هو آتٍ عليه؛ وبذلك يفيد من علمه بهذه السُنن في حفظ حياته قدر المُستطاع وتوفير النتائج الأفضل والأصلح لمستقبله وترشيد تجربته.
(3) وهذه الأخيرة، صنف سُنّة بصيغة "القضيّة الإجتماعيّة كقانونٍ موضوعيٍ مَرِنّ"؛ وهذه صيغة بالغة الأهمية من السُنن في إحكام حركة الفرد والمجتمع بضوابط موضوعية بينيّة قائمة محدّدة، لكنها غير صارمة في آنيّتها كما في الشكلين الأوّلَين من السُنن. فعلى سبيل المثال إذا ما طغى الإنسان الفرد (دكتاتوريّة الفرد)، أو الجماعة (دكتاتوريّة المجتمع)، أو المؤسسة الحكومية السياسيّة المتسلّطة (دكتاتوريّة الحُكم والدولة)– فإن هذا الطغيان سيمضي في وجوده على مسرح الحياة فترة من الزمن، طالت أم قصرت، وقد يتمادى الأمر به استمراراً نسبيّاً لمرونة هذه السُنّة الإجتماعية الحاكمة. ولكن الأمور بخواتيمها؛ فالمطاف في نهايته لن يصير إلّا إلى الغاية الموضوعيّة للسُنّة الإجتماعيّة الحاكمة، فيرجع المسار حُكماً إلى الصواب كما كان ينبغي له أن يكون أوّل مرّة، وبذلك يندحر الطغيان ويتلاشى وينطمس على نفسه لتناقضه الذاتي ولِلاشيئيته الوجودية.
فالتحدّي الذي يقع في هذا المضمار، يقع على شوطٍ قصيرٍ ومدىً محدودٍ، ولكن مآلات الأمر في الشوط البعيد والغايات النهائية فهي إلى الرجوع السُنني المحتوم في تصحيح المسار. ومن ذلك القضيّة الدينية والأطرّ التشريعية السماوية،فهي أنموذج من نماذج هذا الشكل من السُنن؛ فنرى، وعلى مدى حركة التاريخ، التحدّي الصارخ بوجه منهاج السماء وشرعتها، لكن أين هو مصير من تحدّى وتمادى وطغى! فالمتدبّر السليم لا يغفل بوجه عن حقيقة هذه المرونة الحكيمة الحاكمة للأمر، وفلسفة هذا الناموس المحبوك الذي أودِع رحمةً في السُنن الإجتماعيّة لتُتاح للإنسان فرص التغيير وإصلاح الأمر وتصحيح البوصلة في الحركة، بحريّة عريضة في تشخيص الأمور والإلتزام بالمواقف؛ ولتُفتح للإنسان المُختار أبواب السماحة في الخطأ الواقع في التجربة، وليُكتب له مسار العودة وتصحيح الماضي بـ"الرجوع". هذه سُنة صارمة في غائيّتها النهائيّة كأيّ قانونٍ موضوعيٍ صارم، لكنها مرنة في تصويب المسار وحركة التجربة البشريّة وإتاحة طَرْق السُبل المتنوّعة.
فقد ندرس بتفحّص وإمعان، موضوعات مهمّة تتصل بهذه السُنّة الإجتماعيّة النافذة، ونجدها في أمور عمليّة حياتيّة: كحكم تشتت الأسرة، أو تبدّل أدوار أعضائها بحكم "الحداثة"، في استبدال دور العمل وكسب الرزق بدور حضانة الطفل وتربيته، أو العكس مثلاً؛ أو توزيع الميادين المعنويّة منها والعمليّة بين المرأة والرجل بصرف النظر عن الخصوصيّات الذاتيّة الكامنة في كلِ واحدٍ منهما في ما يمتاز به على الآخر في تكوينه الطبيعي مما يؤهّله بشكل أكبر من دون الآخر في الإطار المجتمعي الأوسع؛ أو تحويل العلاقات الاجتماعية كالزواج بين الرجل والمرأة إلى صِيَغ "مدنيّة" مُسّتَحدَثة تأبى قبول السائد وتخالف الطبيعي الواقع؛ أو في احتكار الطبقة للمال أو السلطة بإنفرادية وتوحّش، وحرمان السواد الأعظم من حقوقهم الطبيعيّة، سواء أفراداً أو شعوباً أو أمماً؛ أو في الوجوديات في مسألة مخالفة الفطرة السليمة والطبع الإنساني البريء تجاه نظرته الغائية إلى العالم الأعلى والوجود من حوله والتدبّر في قضاياه وتحديد معتقده؛ وما إلى ذلك من أمور يطول ذكرها في المقال، فكلّها نماذج تقبل التحدّي الشوطي القصير المحدود، ولكنها في المنظار الفوقي وبالنظر إلى النهايات وصيرورة الغايات، لن يُفلح التحدي فيها بمأخذه ولا المتحدّي نفسه في مسعاه – لأنه محكوم بسُنّة لا تقبل التغيير ولا التبديل، فهي في طبيعتها" ليّنة-المساس صلبة-الأساس، مَرِنَة-التقدير صارمة-المصير "تأبى على المتحدّي حَرْف المسارات، أو تغيير الغايات، أو مخالفة المقاصد والنهايات.
فللمُعتبرين الفَهْم والتدبّر؛ ولآذانهم الواعية وقلوبهم الصاغية الإعتبار! فلهم حقّ الولوج عِبر بوّابة الآيات التدوينيّة ودراسة السُنن التكوينيّة، ليَسمعوا النداء المَنسي وليُصلحوا الأداء قبل تفاقم البلاء واستحكام الوباء وحلول الفناء!
النداء الأول: الأمر ليس لكم بل للمُدبّر الحكيم (سُنّة الغنى والإقتدار)
"وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً..." [قـ.ك. (10):99]
"وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفين <->إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُم..." [قـ.ك. (11):118-119]
كم نجد في آية الوباء موطناً ومُتّسعاً للإعتبار والتذكّر والرجوع! فهي جائحة ذكّرت البشرّية جمعاء بأن الحياة في واقعها ليست في محيط "الأنا" الضيّقة المختنقة في داخل ذواتنا؛ بل هي بيد الباري، شديد القوّة والقيّوميّة والسلطان. الحياة كلّ الحياة هي لمالك المُلك والملكوت وصاحب الجبروت الباسط على الخَلق بناموس الرحموت؛ والحياة لا تُنال إلّا بالإتصال به، والرضوخ لسلطانه، والأخذ بسُنن نظامه ونواميس خلقه، فقد جَعَلَت آية الجائح الوبائي الصغير،عالي القوم سافلها، وهو لا يُرى!
لكن موطن العبرة للإنسان السليم تكمن في أنك أيها الإنسان حيّ مرزوق ما دمت حرّاً، مُختاراً، مُكرَّماً، مُفضَّلاً على غيرك، فالتُحسن الإختيار والتصّرف طوعاً عند الإختبار؛ ولو كانت الأمور بالقسر والإكراه، لكان الأمر سهلاً يسيراً، "لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً". ولكن هيّهات لذلك! فاطلب العمل بمكرُمة الطوع والحرّية، ولا تُسرف في شأنك بقهر نزول البليّة. فالحياة فيك هي بالإتصال به بالإختيار والطوع والإقدام، من خلال الإختلاف والإختبار!
النداء الثاني: لا انفعاليّة ولا عاطفيّة في أمر السماء.. ولا تجد لسنتنا تحويلا (سُنّة الثبات)
"سُنَّةَ اللَّهِ الَّتي قدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْديلاً" [قـ.ك. (48):23]
"ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَميعٌ عَليم" [قـ.ك. (8):53]
طُغيان وعِصيان وكُفران الناس هو الذي يودي بالحرمان ويُجب تغيّر النِعَم وزوال الخير والعافية والأمن والأمان؛ ليس للكريم المتعال بعد عطاياه أن يأخذ أو يَحرم، فمساره قويم وسُننه ثابتة، لكن له أن يُنظّم الصالح بحكمته كي لا يتمادى جاحد النِعَم بجحوده ولا يذهب بعيداً في غفلته وغيّه وطغيانه. فالفساد في الأرض، وسفك الدماء، واحتكار المال والخيرات وأسباب العيش الكريم، ونشر الرعب والإرهاب والفواحش – كلها خروج عن مسار الحق والعدل والإحسان والخير والصلاح؛ بذلك توجّبت سُنة تغيُّر النِعَم لتغيُّر الأنفس وفساد طباعها وإنحرافها عن مُراد الصلاح، في دائرةا لأفراد والجماعات والأمم. فالنفس هي من تَحرم نفسها وتوردها مداخل المذلة والحرمان والهلكة!
النداء الثالث: لعلهمم يرجعون (سُنّة الإمهال والإرجاع)
"ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون" [قـ.ك. (30):41]
"وَلَنُذيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون"[قـ.ك. (32):21]
"وَما نُريهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون"[قـ.ك. (43):48]
مما لا ريب فيه أن غاية السماء لا تبغي التربّص والوقيعة بالإنسان وإن كان لنفسه ظالماً، وبضعفه في الحق خاوياً، وبوقوعه في المهاوي والمهالك تائهاً غاوياً؛ بل غايتها السامية أن تمده بحبل النجاة لتنتشله من السقوط الأبدي، والذل الملازم، والخسران المحتوم. وذلك من خلال الإعتبار والتنبيه والتذكير حتى يرجع بعد ابتعاده إلى المسار السويّ الصحيح الذي عنه انحرف، وعن نهجه ابتعد، وعن علياءه السامية هوى، وإياه فرّط تفريطاً. وما الآيات والإبتلاءات والنوازل والمصائب، إلّا صرخةً في أعماق الضمير، وإحياءاً لما مات من الوجدان، وتقريعاً وتنبيهاً لما بقي من حُسن السريرة؛ لإدامة اليقضة وتوعية القلب والدعوة للإستقامة والثبات على جادة الخير والفضيلة.
النداء الرابع: خذوا وخذوا أكثر واستزيدوا إنكم محضرون! (سُنّة الإستدراج والإملاء)
"وَالَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُون<->وَأُمْلي لَهُمْ إِنَّ كَيْدي مَتين" [قـ.ك.(7):182-183]
الإستدراج هو نحو ركوب لمدرج يأخذ بالفرد أو الأُمّة من درجة لأخرى من دون أن يلتفت المُستَدرَج المُستغفَل بالدرجات إلى أين هو صائر وفي أيّ شيءٍ هو حالّ! ثم تأتي الضربة القاضية على أمِّ رأسه من حيث لا يحتسب؛ حيث لا إغاثة تَنفع ولا دعاء يُسمع ولا مُعين يَهرع. هذا مصير من أمن الإستزادة بلا استحقاق موجب، فيُستَدّرج إلى التهلكة.
النداء الخامس: ظنّوا أنهم هم القادرون! (سُنّة الأخذ بغتة)
"...حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْس..." [قـ.ك. (10):24]
"وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَليمٌ شَديدٌ" [قـ.ك. (11):102]
أين هم دعاة الإفتخار والنرجسية والإستكبار على الناس؛ أبقيت بلدانهم متميّزة فوق البلدان؟! وهل أثبتوا أنهم شعوب لا تُقهر ولا تُذل؟! وأين هم مَنْ تغنّوا بشعار الترفّع على بقيّة الأمم بالإنسانيّة والأخلاقيّة والقيم ومد يد العون والإغاثة؟! لماذا استصغروا شأن الشعوب واحتقروا مُنجزاتها التاريخية والحاضرة بدعواهم الكاذبة: "وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبينَ" [قـ.ك. (34):35]؛ فأين انتهى بهم المطاف بعد غطرستهم واستعلائهم؟! أنفعتهم عرقيّتهم وعنصريتهم، أم سمعتهم المنتفخة، أم سلاحهم وجبروتهم الواهي، أم اقتصادهم المُتداعي، أم كثرة أموالهم المُدّخَرة، في خضم هذه الشدائد النازلة والإختبارات الناكبة؟! فليتذكّر الناسي، وليتدبّر المُتناسي.
النداء السادس: الحلم يسبق الحُكم والرحمة قبل العذاب.. يا أيها الناس ادخلوا الحجور واسكنواالجحور! (سُنّة الإبقاء بالتذكير والتقريع)
"...يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُم..." [قـ.ك. (27):18]
آية الوباء لم تُدخل الناس في الحَجر الصحّي فحسب بل أدخلتهم في الجُحر والإختباء! فأصبحت مساكنهم آية القبور وهم سُكّانها ينظرون ويسمعون؛ فمن الناس من قضى نحبه وغادر الحياة بالوباء، ومنهم من تمثّلت فيه حال الوفاة والمغادرة بالقبوع في منازل الجحور والإنقطاع القهري من حركة الحياة. أليس في ذلك آية للمُعتبرين!
حتى أن التدافع بين بني البشر والتزاحم الطبيعي العام قد توقف في عديدٍ من أشكاله، وتعطّلت كل دور العبادة والتجمعات والملتقيات والأندية؛ وذلك من التقريع والتحذير البليغين بالإبعاد والطرد، ولكنه في ذات الوقت يبقى بلا ريب مدد الرحمة واللطف قبل حلول السخط الذي لا مرد له إذا حلّ، ولا رافع له إذا نزل.
النداء السابع: فلتبقى البشريّة تعمر الأرض حتى أجلها النهائي! (سُنّة الإستعمار والتداول)
"...هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فيها..." [قـ.ك. (11):61]
"إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاس..." [قـ.ك. (3):140]
جائحة كورونا بأزماتها العالمية المُطبقة والمتعدّدة الجوانب، وفّرت فرصة للمواكبة على كل المستويات الحضارية، خصوصاً بالنسبة للشعوب المُعْدَمة أو تلك التي كان الحَجر الإقتصادي والسياسي يلاحقها في الأروقة الدولية ظُلما وعدواناً وبلا وجه حق من دون غيرها من الشعوب والمِلل. فقد كشفت هذه الأزمة العميمة مواطن الضعف عند من كان في ظاهره قوياً مُتسلّطاً بتهوّر واستكبار، كما وقد كشفت أن من كان يبدو ضعيفاً لم يكن كذلك بالضرورة والإلزام الحتمي الذي لا يمكن رفعه أو إصلاحه. ولم تعد تُجدي نفعاً صقوريّة "الصقور" أو عنتريّاتهم، وعقليّة التهديد والقمع والبلطجة الأمميّة عموماً في منطق السياسات والعلاقات الدولية. فلم تعد تلك الصرخات العنصرية الناريّة المتهوّرة من هذا أو ذاك تجاه الشعوب المستقلة الحصينة الحصيفة، منطقاً فعّالاً أو مقبولاً بين الناس بعد مقاساة هذه التجربة الوبائية النازلة. وهذا من أوجه الإيجاب وإعادة موازين القوى والإعتدال والتداول البشري على إدارة أزمّة أمور هذا الكوكب بسبب هذه الجائحة الوبائية.
وهناك العشرات العشرات من الآيات المنسيّة، وكذلك العشرات العشرات من النداءات القارعة التي تحجب تجلياتها في الواقع، غفلة الإنسان المُستحكَمة وما فيه من موجبات النسّيان؛ وهي التي يحول بينها وبين نظرنا غياب مُحفّز هنا أو مُنبّه هناك، يأتينا بتحفيزه من الغيّب من حيث لا نحتسب. والرسالة البليغة للمُعتبرين تكمن في ضرورة عدم الغفلة والنسّيان في ما يتعلّق باستحضار حاكمية سُنن الكون، وآيات البيان المنسيّة في الوجدان، ومآلات مصير الإنسان؛ في مُتسع الحياةوقبل نزول البليّات والمُضيّقات وحلول الَمثُلات. وتبقى العِبرة لمن اعتبر.