التصوّر الثلاثي الأبعاد لجو بايدن تُجاه الجمهورية الإيرانية
انتهى إذن زمن الترقّب والتأرجح الذي منع تشكيل رؤية واضحة بشأن الرّهان على الرئيس الأميركي الذي سيفوز في الانتخابات، فالأرقام المرصودة كانت متقاربة، وبدت النتيجة قابلةً للتغيير، تماماً كما حدث قبل أربع سنوات عندما تمّ إعلان ترامب رئيساً للبلاد، رغم حصول خصمه هيلاري كلينتون على عدد أصوات مرتفع. تكمن قيمة الانتخابات الأميركية في الدّور الذي يلعبه البيت الأبيض بمعيّة العديد من المؤسسات الأخرى كوزارة الدفاع والاستخبارات في صياغة القرارات الدولية ورسم معالم السياسات التي تخصّ بلداناً وقضايا عدة، في إطار منظومة عمليّة تتّسم بالتعقّد وتشابك المصالح وتقدير الأخطار .
إن الأمر الواقع الذي أكّدته مختلف أطوار ومنحنيات الولاية السابقة للرئيس الجمهوري دونالد ترامب، تُبرز النبوءة ذاتية التحقق التي تكشف ملامح مستقبلية سوداوية، حيث أسقطتنا السياسة الأميركية الأحادية الجانب في مستنقع تفاعلٍ تسلسلي ينقلنا من نواتج فرعية إلى أخرى أكثر تشعباً وتعقيداً، كما فسّره مذهب "النشأة المعتمدة" البوذي والذي يعتبر أن الظواهر ترتبط فيما بينها في إطار شبكة مترابطة من الأسباب والنتائج . فواشنطن اتخذت قرارات تُجافي الصواب السياسي والقانوني، وتركن إلى المنطق الإمبريالي والتشبيح الاستراتجي، وهي صيغ فردية فرضها شرطٌ مُسبق يقوم على دعم مبدأ الدولة القومية لليهود، أو ما يمكن أن نسمّيه "بمعجزة أو انتصار" بلفور، لكن كل ذلك يبقى مسودّةً أمام محور المقاومة الذي حقّق التوازن الاستراتجي المطلوب في العلاقات الدولية، وعدَّل في أطراف المعادلة لإيجاد التناسبية الممكنة. وأعني بالشرط المُسبق أو الموقف المُسبق التصوّر والإيمان الفكري والإرث الحزبي والمعتقد السياسي للمرشح الإنتخابي الذي وجب أن يُسلِّم بالبديهيات الموجودة والمحفوظة في البيت الأبيض وأرومة مؤسسات البلد، التي لا يجتهد أحد في تغييرها أو الحكم يإبطالها على اختلاف التيار أو الجناح السياسي والمنصب المؤسساتي الذي ينتمي إليه ويمثّله .
هكذا إذن، وأمام المواقف الأوليّة المفروضة التي تمثّل معالم السياسات والإستراتجيات الكبرى لواشنطن فيما يخصّ اختيار الحلفاء والتوجّهات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية العريضة، فإن هامش المناورة الذي يملكه الرئيس المنتخب محدودٌ لا يمكن تجاوزه ويُمنع فرض الذات من خارج أطره، سواء كانت الذات يمينية أو يسارية. إنها حتميّة سوسيوسياسية صاغتها الإرداة الجماعية والقواعد الشعبية والرموز السياسية عبر محطات التاريخ المستمرة. فلا يمكن أن يتحوّل بلد من الإشتراكية إلى الرأسمالية أو العكس بمجرد انتخاب رئيسٍ يمثّل التيار الجانبي الذي لم يستطع إقناع الجمهور بالفكرة النّقيض، إذ لا مجال لتحقيق ذلك إلا بنسف التاريخ عبر الإنقلاب السياسي أو الديني الذي يمكن أن يغيّر المذهب السائد في البلد بقوة السلاح لا بقوة الحجّة والمنطق والدليل والبرهان.
إنه السياق والمعنى نفسه الذي عبّر عنه المرشد الإيراني السيّد خامنئي بشأن الموقف الراسخ والرؤية الرصينة والقويمة، حيث وصف الانتخابات الأميركية بالعرض المسرحي، وهو وصفٌ دقيقٌ لعملية صناعة الديمقراطية كما تُصنع سلسلة أفلام كرتون "سيمبسون''. لا يُخفي المهتمون بالشأن الأميركي قوة اللّوبيّات والمجالس والكيانات الموازية في صناعة القرار السياسي داخل البيت الأبيض، والتي يمكنها إزاحة الرئيس الذي بعثته السماء لجعل أميركا عظيمة مرة أخرى، بدوافع بعيدة عن طرح الحفاظ على الأمن القومي للبلد ومصالحه؛ إنها أسباب ترتبط في عمقها بعقيدة العالم الموحّد الجديد الذي تديره حكومةً مركزيةً وفق نظم مستحدثة تفصل بين الوضعيّ والمفروض بالوحي. فالرئيس السابق دونالد ترامب منح "إسرائيل" كل شيء وأخذ كلّ شيء من الدول العربية والإسلامية، وهي محطة رئاسية استثنائية اتّسمت بالدبلوماسية الحادة والفوضى السياسية التي تخلّت عن القدس والجولان ووسَّعت رقعة الإستيطان الإسرائلي ودخلت في حروب عسكرية واقتصادية مع الصين والجمهورية الإيرانية، وبالمقابل، انسحبت من اتفاق باريس للمناخ ومن خطة العمل الشاملة المشتركة بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافةً إلى ملف طهران الشائك.
وتقعيباً على ماسبق، نعتبر أن العملية السياسية داخل البيت الأميركي لن تتغير كثيراً بانتخاب الديمقراطي جو بايدن الذي سبق أن عارض تقليص المساعدات المُقدّمة "لإسرائيل"، وأنّ دعمه لحل الدولتين على حدود 1967, ليس إلا مناورة سياسية هامشية لن تغيّر من مضمون "صفقة القرن" شيئاً، في ما عدا طريقة العرض ووسيلة الفرض. إن بايدن يمتلك مساحةً لانتهاج التكتيك الذي يريده، لكن الاستراتجيات الكبرى تتمّ صياغتها داخل دهاليز المؤسسات العميقة، وهي مضامين لن تتغيّر في لحظة، لوجودها داخل شبكة تشكّلت عبر مُددٍ طويلةٍ من صياغةٍ للتحالفات وتقديمٍ للبرامج وعروضٍ فنيّة وإعلامية. إن المعنى الضيّق يحيلنا إلى عرض تساؤلات منطقية لبلوغ فهم عميق لمعنى السياق التاريخي وتشكّل معالم السياسة الداخلية ولزوم تملّك المواقف المسبقة المشروطة. في هذا المقام، نتساءل هل يمكن لجو بايدن أن يناوئ تل أبيب أو يتحالف مع طهران؟ هل يملك بايدن الخيار السياسي لمنح الضوء الأخضر للشعب المصري في انتخاب رئيس من الإخوان المسلمين أو التيار الإسلامي وعودة المؤسسة العسكرية المصرية إلى الحضن الشعبي؟
الإجابات البديهية عن هذه الأسئلة تضعنا أمام الصورة الحقيقية لمنصب الرئيس الأميركي، الذي لا يمكن أن يغيّر كثيراً من معطيات الملفات المطروحة، ببساطة لأنه ليس الوحيد الذي ينتخب القرار السياسي داخل البلد، وهذه واحدة من مفاعيل النظام السياسي الرئاسي التي يمكن أن نجدها في النظام الملكي الذي تسمح ميكانيزماته بتغيير الإستراتجيات في اللحظة التي يتم المراهنة عليها .
بهذا المعنى إذن، اعتبرت طهران أن عملية اختيار الرئيس ليست على أهمية كبيرة، بقدر عملية صياغة القرار السياسي التي تتدخّل فيه أطراف عديدة، من الإستخبارات وأباطرة المال وتجّار السلاح والشركات المتعددة الجنسيات، والتي لم تختلف منذ تربّعت واشنطن على عرش غلبة الضعف الذاتي وتحقيق القوة التي جعلتها تحكم العالم إلى اليوم. وهذه العناصر المتدخّلة تخلق أحداثاً مفاجئة وتنبؤ الصياغة بأمر عضال، وهنا يمكننا الحديث عن نظرية البجعة السوداء في بلاد العمّ سام.
إن الجمهورية الإيرانية الإسلامية جبل جليدي حطّمت كل السفن التي أرادت مجابهتها، وهي تملك خيارات عدة أمام المنتظم الدولي والإعلام العالمي للدفاع عن أطروحاتها القانونية و السَليمة، والتي يمكن لجو بايدن التوليف بينها و بين الأطروحة الأميركية النقيض لإيجاد تسوية سياسية للملف الإيراني دون خسائر إقتصادية وتصادمات عسكرية. إنه الدور المطلوب حالياً من الرئيس الجديد للقيام به داخل هامش الحرية الممنوح له، حيث يجب تصحيح الفكر الذي يعتبر أن طهران تهدد السلم العالمي وتنشر الفوضى وهي ادعاءات باطلة وغير مُسندة. ومن الأفضل أن يمتلك جو بايدن الشجاعة للقيام بذلك، وأن يثبت نجاعته الذاتية بعد فشل نظيره الجمهوري السابق الذي سقط في وهم التفوّق.
لقد عرض جو بايدن محددات رؤيته وأبعادها بشأن الملف الإيراني في مقال نشره موقع "سي إن أن" قبل حوالي شهرين من الانتخابات الأميركية الأخيرة، وضّح فيه الخيارات المعروضة للتعامل مع طهران، وهي في نظرنا قائمة من الرؤى الأحادية والذاتية التقليدية التي لا تختلف عن سابقاتها في شيء. وبالمقابل، فإن الجمهورية الإيرانية تتعامل وفق القوانين المعمول بها، رغم أنها تملك الوسائل الكفيلة لفرض قراراتها إقليمياً ودولياً. ونحن نشهد اليوم بناء عالم جديد تقوده الصين وروسيا وإيران، أمام تهاوٍ سياسيٍ وأخلاقيٍ وحضاريٍ واقتصاديٍ مريعٍ لأميركا وحلفائها.
يجنح التصوّر الأوّل لجو بايدن نحو الإحتمال المبدئي الذي يمنع طهران كلياً ودون شروط من امتلاك سلاح نووي، وهو رأي بعيد عن الحقائق الميدانية التي تؤكد أن إيران لاعب أساسي في الساحة الدولية، و ليست كياناً وهمياً يقبل إملاءات ضيقة مماثلة، و كأن أميركا جنرال يُصدر الأوامر إلى مجنّد صغير أو مرتزق من شذاذ الاَفاق، ولكن الحقيقة في الصراع بين طهران وواشنطن هو بين جنرال وجنرال. ثم كيف يُمنع على طهران امتلاك سلاح نووي، والحال أن دولاً عديدة تَحصَّلت عليه، مثل "إسرائيل" وأميركا وفرنسا والصين والهند وباكستان. إن النظام العالمي الجديد الذي تَشَكَّل بعد انهيار الإتحاد السوفياتي، لا يحقّق العدالة القانونية الكليّة، حيث تملك بعض الدول فقط حق الفيتو وعضوية مجلس الأمن والسلاح النووي، وتمنع على الدول الأخرى تحقيق التوازن معها. إنها إهانة في عهد الميغاإمبريالية كما وصفها البروفيسور المهدي المنجرة.
يكمن البعد الثاني في رؤية بايدن في إكمال المسار الدبلوماسي في حال التزام طهران بالإتفاق النووي الذي تمّ إبرامه عام 2015 م وانسحب منه ترامب سنة 2018 م. إن دخول طهران في هذا الاتفاق الذي يتضمن بنوداً تقوّض قدرتها النووية، هو تعبير واضح عن مدى صدقية الجمهورية وجدّيتها في إحلال واستتباب الأمن العالمي واعتبار التنمية الاقتصادية المحلية والدولية هي الرافعة المحورية لرفع التحديات التي تواجه العالم اليوم. ولقد تمتّعت طهران بالحنكة السياسية حيث ربحت اقتصادياً من خلال المنح المالية التي حصلت عليها وتخفيف العقوبات الاقتصادية عليها، إلى جانب إيمانها القوي والواقعي في الدفاع عن الأمن القومي، بحيث تملَّكت صواريخ باليستية عديدة لم يتضمن الاتفاق النووي حظرها.
أما الطّرح الأخير الذي قدّمه الرئيس الديمقراطي، فيتمثّل في مواجهة التمدّد الإيراني في المنطقة، وهو طرحٌ يُجانب الصواب، حيث أن التدخل الإيراني فرضته مبادئ ومعاهدات الدفاع عن الحلفاء وأحياناً أخرى، الدفاع عن الحدود الجغرافية والأمن القومي للبلد. فلكلّ دولة الحق في خيارات مماثلة، وليس المعيار في ذلك استحسانها أو رفضها من قبل واشنطن والغرب. فجميع الدول تملك مراكز قانونية متساوية حتى تكون قادرة على حماية مصالح شعوبها وأمنها الداخلي ومنافعها الجيوسياسية والجيواستراتجية.