نيتشه والليبرالية الجديدة

ترتبط النيوليبرالية أيديولوجياً، في نظر الكثير من الباحثين، بفلسفة ما بعد الحداثة. يكفي مصطلح نسبيّة الحقيقة لوحده للبرهنة على أنهما يمشيان يداً في يد، وهو مصطلح يقود مباشرة إلى الإبن المدلل لما بعد الحداثة، المتمثل في مفهوم "الفردانية".

  • كانت الأزمة الإقتصادية العالمية لسنة 2008 مؤشراً واضحاً على التحوّل العميق للعالم برمته
    كانت الأزمة الإقتصادية العالمية لسنة 2008 مؤشراً واضحاً على التحوّل العميق للعالم برمته

لا يُعتبر فكر نيتشه مفصل الفكر الحداثي فقط، بل يُستعمل كمرق "passe partout"، يصلح لكل الأطباق ويجعلها أكثر لذة. فإمكانية تأويل فكره في اتجاهين متعارضين، يجعل منه المفكر الغربي الأكثر حضوراً حالياً بالنظر إلى الوضع الذي تجتازه الإنسانية ومدى الهدم والعدميّة اللذين انتشرا في المجتمعات، جراء التفوق المهول للليبرالية الجديدة.

دافع نيتشه عن حكم النخبة الأرستقراطية، أو بالأحرى حنّ إلى رجوعها، بعد تراجعها ابتداءً من الثورة الفرنسية، ونادى إلى فسح المجال لـ"السوبرمان"، أي السيد الذي سيحكم بإرادة وقوة، بعد انهيار آخر أصنام الغرب، المتمثلة في العقل والحرية الفردية والمساواة؛ التي هدمت بدورها الأصنام اللاهوتية.

ويرى الكثيرون بأن "الثنائية النيتشوية" تكمن هنا؛ شجع القطب الأول منها ظهور الديكتاتوريات أما القطب الثاني، فما هو في العمق إلا نتيجة للقطب الأول، أي حق القوي، "السوبرمان"، في أخذ أي قرار يناسبه بطريقة مطلقة ودون مشاورة أي كان. أي ما تمارسه النيوليبرالية بوضوح منذ سقوط المعسكر الشرقي.

كانت الأزمة الإقتصادية العالمية لسنة 2008 مؤشراً واضحاً على التحوّل العميق للعالم برمته على كل المستويات تقريباً. فالربيع اليوناني لعام 2010، بمظاهراته الحاشدة ووصول اليونان إلى حافة الإفلاس الإقتصادي والسياسي، كان بمثابة البداية الفعلية لحركات اجتماعية وسياسية اجتاحت مجموع الكرة الأرضية، بما فيها حركات ما سُمّي بـ"الربيع العربي" والتظاهرات الشعبية الواسعة في أوروبا والأميركيتين. رافق هذه الحركات صعود صاروخي مهول ومخيف للحركات الشعوبية واليمينية المتطرفة، وجدت مبتغاها بعد وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وبرعت في محاولة إقصاء كل من لا ينتمي إليها.

بعدما سكنت الرأسمالية إلى الراحة وضخّمت ثرواتها بعد نهاية الحرب الباردة، معتقدةً أن العالم أصبح تحت سيطرتها وأنه يمكنها إحكام قبضتها عليه، خرجت أزمة 2008 من تحت رماد غضب شعوب الأرض على ما أصابها من حيفٍ وظلمٍ بسبب هذه الرأسمالية المتوحشة، التي تحولت إلى غولٍ ليبرالي، لم يتورع من التهام خيرات الشعوب، شاهراً في وجوهها ورقة "العولمة"، وموهماً إياها بأنها الوصفة السحرية ليصبح العالم كله غنياً.

ظاهرياً كانت الاحتجاجات توحي بأنها متشابهة، لتزامنها في الكثير من الأحيان ومشاركتها الهموم الإجتماعية والإقتصادية ذاتها وتهديدها للطبقة المتوسطة، لكنها في العمق كانت تختلف من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى. ركزت مطالبات المتظاهرين في الدول الغنية على ضرورة العودة إلى توزيع الثروات بعدلٍ، فالمطالبة بالعمل كحق إنساني، عوّضت المطالبة بتوزيع خيرات الدول على الشعوب. في حين تحركت شعوب العالم الثالث في أفريقيا والشرق الأوسط وأميركا الجنوبية أساساً من أجل "حقوقها السياسية"، وكانت المطالبة باقتسام خيرات الشعب ثانوية نوعاً ما.

أنتجت التربوليبرالية مناخاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً ليس فقط عنيفاً وهداماً، بل حمل في طياته كل خصوصيات العدميّة، فالإنسان كإنسان لم يعد قيمةً في حد ذاته، بقدر ما تخلى عن هذه القيمة للسلعة، ليصبح هو نفسه سلعة، ليس إلا.

ولعل هذا الوعي، الشعوري واللاشعوري، للكثير من البشر في الكثير من الدول هو الذي أجّج الضمائر والعقول رفضاً للديكتاتورية الناعمة لهذه الليبرالية، على الرغم من أننا نعي بأن هذه الأخيرة كانت تقوم دائماً بردود فعل عدميّة من خلال تشجيعها للثورات المضادة، وتكون بذلك قد خلقت مناخاً لم يعد المرء فيه يفهم ما يجري في العالم ولا من يتحكم في مجرى الأمور، ولا إلى أين قد تقود هذه الحركات.

ترتبط النيوليبرالية أيديولوجياً، في نظر الكثير من الباحثين، بفلسفة ما بعد الحداثة. يكفي مصطلح نسبيّة الحقيقة لوحده للبرهنة على أنهما يمشيان يداً في يد، وهو مصطلح يقود مباشرة إلى الإبن المدلل لما بعد الحداثة، المتمثل في مفهوم "الفردانية"، التي تعتبر الحصان الذي تمتطيه النيوليبرلية في إنتاجها للفوضى وقتل المعنى والزجّ بمصير الإنسانية في عدمية حقيقة، تستفيد منها نخبة مختارة بعناية، تعتقد بأنها أهلٌ لقيادة العالم.

وهنا بالضبط يظهر شبح نيتشه متأهباً للوقوف من تحت رماد عدمية حقيقية أسس لها ودافع عنها بكل ما أوتي من قوة. وعلى الرغم من أن العدمية التي ترسخت في فكر نيتشه، لم تتعدّ عتبة "خلق السوبرمان"، فإن هذا الأخير كان عارياً، وعملت الليبرالية الجديدة على كسوته وتغذيته والإعتناء به ليعيث فساداً في العالم، وتزجّ خيرات العالم في يد حفنة من الأثرياء، لا يرون في الآخرين إلا عبيداً في أفضل الأحوال وقمامة بشرية في أسوئها.

لم يعد فقر وجوع ومرض وجهل العالم الثالث وتنظيمه الطبقي يهم الدول الغنية، لأن هذه الأمور أصبحت واضحة على أرضه أيضاً -ولو بمستويات أقل خطورة- أصبح "العالم الثالث" وفقراء الدول الغنية عبئاً حقيقياً على أغنياء العالم، ولم يعد يهمهم إن ماتوا أو بقوا على قيد الحياة، فما يهمهم هو فقط التخلص منهم، لأنهم مصدر إزعاج وجوديّ لهم.