العنف المتفشي في فرنسا وتشويه وجه الجمهورية
العنف في شوارع فرنسا ضد حركة السّترات الصفر كان البدايةَ التي تلتها محطات عنفٍ متنوعة.
هل باتت السلطة السياسية في فرنسا أسيرةَ ثقافةِ العنف؟ وهل تدفع هذه الثقافة، في حال لم تُطرح الحلول المناسبة لها، إلى تدهورٍ متصاعدٍ للحريات وحقّ المواطن في التعبير والتظاهر والإحتجاج؟
هناك مؤشّراتٌ عديدة تدفعنا إلى الإعتقاد لا بل اليقين، بأنّ الدولة البوليسية تطلّ برأسها في فرنسا. أصبح ذلك جليّاً من خلال محطاتٍ عديدة من ممارسات العنف تورّطت بها الشرطة الفرنسية ضد الأفراد والمجموعات، تارةً على خلفيةٍ عنصريةٍ وتارةً أخرى بأساليب عشوائية وأحياناً كثيرة تكون بتوجيهٍ وتقصّدٍ لقمع حركات الإحتجاج السياسي والمطلبي. حذّر نوّابٌ وسياسيّون وقادة من التوجّه المخيف نحو لحظة ما قبل الديكتاتورية. النائبة عن حركة "فرنسا غير الخاضعة" كليمانيتن أوتان عبّرت صراحةً عن هذا الواقع، وأصرّت على ترداده أمام شاشات التلفزة بالرغم من عاصفة الإنتقادات التي طالتها على أثر الإدلاء برأيها في هذا الشأن.
البعض من معارضي سياسة إيمانويل ماكرون استعادوا مناخات الإنتفاضة الطلابية في عام 1986 حيث رفع الطلاب لافتات تقول بأن فرنسا ديكتاتورية. راهناً، تحفل المناظرات والحوارات الإعلامية والفكرية بجدلٍ بين المتخوّفين من تدهور الحريّات والمدافعين عن إجراءات الحكومة وأهمية توفير الحماية للشرطة من أجل حفظ الأمن والنظام العام.
العنف في الشوارع ضد حركة السّترات الصفر كان البدايةَ التي تلتها محطات عنفٍ متنوعة. تشويه الوجوه والأعين والتسبب بقطع الأصابع والضرب المبرح من قبل الشرطة، كل ذلك يهدّد بتحطيم صورة الجمهورية كما يقول رئيس حركة "فرنسا غير الخاضعة" جان لوك ميلونشون. وفي تعليقه على واقعةٍ من العنف الوحشي وغير المبرّر ضد أحد الموسيقيين السود في باريس قبل أيام، يقول ميلونشون إن هذا المشهد يضع قيَم الجمهورية الفرنسية على المحك.
لم تكن ولادة لجنة " الحرية لأداما" (وهي حركةٌ تتألف من السود والبيض تطالب بوقف عنف الشرطة) إلاّ للردّ على العنف وتجاوز القانون من قبل الشرطة. لقد أسفرت المواجهات في سنوات المتعاقبة إلى مقتل أكثر من شابٍ فرنسيّ من أصولٍ أفريقيةٍ بطرقٍ غير قانونيةٍ أو مبررة. كشفت هذه اللجنة التي أيّدها اليسار والأوساط التقدميّة الفرنسية بئر العنف المتأصّل في قطاعات الأمن والشرطة، وبات السؤال عن تجاوز الأنظمة والقوانين والقيَم مثار الجدل الكبير القائم بين الفرنسيين الذين عادةً ما ينقسمون حول مثل هذه القضايا نظراً لتنوّع المجتمع الفرنسي وتعدّده. أظهر الإنقسام العامودي والأفقي خطراً مُحدقاً بالإستقرار العام، فزادته تفاقماً حدّة الزلزال الذي فجّرته الرّسوم المسيئة للنبي محمد وما تداعى منها من أحداث أمنية وسياسية وفكرية لا تزال تهزّ كيان المؤسسات الفرنسية والشارع على حدٍّ سواء.
إن سياسة الدولة الفرنسية تجاه المسلمين الفرنسيين، وخطاب إيمانويل ماكرون حول توصيف الإرهاب الإسلامي فجّر موجةً من الغضب في أوساط مسلمي العالم، وأطلق موجة تحذيرٍ عالميّةٍ تحسّباً لما قد تنزلق إليه فرنسا. من أعماق الأزمة، عبّر نداء 200 عالمٍ ومفكّرٍ ورجل دين من جميع الأديان بصرخةٍ توجهوا بها إلى الشعب الفرنسي بالقول: "إن فلسفة الديموقراطية الصالحة والنزيهة هي احترام البشرية، وأيّ سلوكٍ يؤدّي إلى إهانة البشرية والتمييز العنصري والكراهية سواء كان بذريعة الليبرالية والديموقراطية أو بانتهاج منطق القوة والديكتاتورية، یُعتبر بادرةً ضد حرية الإنسان. فالديموقراطية لا تتلائم والمعايير المزدوجة، یعني استخدام العنف ضد فئةٍ، والتسامح مع الآخرين".
في هذا الوقت، كان الصّدع يصل إلى الصّروح الأكاديمية العليا، حين أدان نحو ألفي باحث في رسالة مفتوحة نشرت في صحيفة "لوموند" الفرنسية الدعوة إلى "فرض الرقابة على حرية الفكر في الجامعات"، والتي وقعها 100 أستاذ دعماً لأفكار وزير التعليم الوطني جان ميشيل بلانكر حول أضرار "اليسارية الإسلامية" ( والمقصود بها تعاطف وتواطوء اليسار الفرنسي مع الإسلام السياسي).
صحيحٌ أن تاريخ فرنسا متنوعٌ وحافلٌ بوجود النّضال من أجل إرساء الحرية والمساواة أمام القانون، لكنّ بيان الألفي أستاذ وأكاديمي فرنسي يُلفت إلى أن فرنسا ارتكبت الكثير من الجرائم والعنف الإستعماري ومارست أشكالاً رهيبة من القمع.
التعبير الأمثل عن واقع الأمور راهناً تولاّه السياسي الفرنسي أدريان كاتنّان في وصفه للإعتداء الوحشي للشرطة على الموسيقي الفرنسي قبل أيام، يقول: "تشويه وجه هذا الرجل هو تشويهٌ لوجه الجمهورية، البربرية والعنصرية البربرية والعنصرية تحتلان صفوف الشرطة الجمهورية".