تركيا.. "صفر مشاكل" مع إسرائيل

حصاد الأعوام الأخيرة للسياسة الخارجية التركية يظهر تحول سياسة "صفر مشكلات" إلى "صفر صداقات"، باستثناء إسرائيل. ورقة تفاهم إسرائيلية-تركية جديدة يصفها الإعلام الإسرائيلي بـ"التحول التاريخي" في العلاقات المشتركة.

أردوغان وجنود يمثلون الحقبات المختلفة للسلطنة العثمانية
لم يكن يخيل لأحدٍ ممن شاهدوا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ينسحب غاضباً من منتدى دافوس في بداية العام 2009، أن يشاهد الرجل مجدداً في حضن إسرائيل. كلمات الرئيس التركي (رئيس الوزراء آنذاك) لشمعون بيريز توجته زعيماً في قلوب العرب والمسلمين.
نسي الجميع مآثر "السلطنة" في المنطقة، كرمى لكلماتٍ قليلة بدت منصفةً لقضية فلسطين، أقدس المقدسات في وجدان شعوب المنطقة. صور أردوغان وعلم بلاده رفعا عالياً في الشوارع العربية، وصفقت الأكف لولادة زعامة إقليمية "شعرت بالحزن" لأجل فلسطين. وقف "الطيب" يومها ليقول لبيريز: إنني "أشعر بالحزن عندما يصفق الناس لما قلته، لأن عدداً كبيراً من الناس قد قتلوا، وأعتقد أنه من الخطأ وغير الإنساني أن نصفق لعملية أسفرت عن مثل هذه النتائج". في إشارة إلى العدوان الإسرائيلي على غزة يومها.

راكم أردوغان بعدها مزيداً من رصيد المحبة في قلوب الناس، علا صوته أكثر عندما اقتحمت القوات الإسرائيلية أسطول الحرية وأوقعت العشرات بين شهيد وجريح على متن السفينة "مرمرة".تراجعت العلاقات التركية الإسرائيلية، وبدا للجميع أن العرب، شعوبهم فقط، قد استردوا تركيا من أحضان إسرائيل والغرب، خصوصاً بعد أن بدأت أنقرة تتعب من رفض الأوروبيين لبحث جدي في طلبها الانضمام لاتحادهم.
أصدر أحمد داوود أوغلوا كتابه "العمق الاستراتيجي"، شارحاً بالتفصيل كيف يتعود تركيا إلى محيطها الإسلامي وإلى جيرانها العرب، من باب القضية الأساس. تولى بعدها وزارة الخارجية التركية، ليحقق رؤيته العميقة لسياسة "صفر مشكلات" مع الجيران.
ولمن لم يقتنع بإمكانية ذلك، تولى "مراد علمدار" بطل المسلسل التركي الشهير "وادي الذئاب" إقناعه، فشرح الفكرة بالصوت والصورة، حيث لاحق الأميركيين والإسرائيليين من بلدٍ إلى آخر.ولكن حلقات المسلسل بدأت تتعقد، تماماً كالسياسة الخارجية التركية في تجاه الجيران.

"وادي الذئاب" العربي

ومع انفجار أحداث "وادي الذئاب" الحقيقي، والذي عرف باسم "الربيع العربي" حينها، بدأت شعوب المنطقة تستشعر تثميليةً تمارس ضدها، وليس لأجلها.خاضت تركيا حرب ضرب بنى الدولة الوطنية في سوريا ومصر وغيرها. وتأسيساً على رصيد أردوغان الذي سبق ذكره، مضافاً إليه خلفية الحزب الحاكم الإخوانية، وجدت أنقرة نفسها صاحبة نفوذ في البلدان التي حقق الإخوان المسلمون فيها حضوراً قوياً بعد أحداث المسلسل الدموي الذي انطلق.بعد خسارة الإخوان للسلطة في مصر، بدأت الصورة تنقلب، لينقلب معها صورة أردوغان "الطيب".
 وسريعاً ساءت علاقته بالقيادة المصرية الجديدة، ليخسر القاهرة بعد أن خسر دمشق وبغداد.وتجاوزاً للمحطات المتتالية من الخسائر الإقليمية، تمثلت آخر خسائر السياسة الخارجية التركية بتدهور العلاقات بين أنقرة وموسكو. خطا أردوغان خطوته الغربية عندما أسقط الطائرة الروسية، ليكتشف بعدها حجم خساراته.خسرت أنقرة كل علاقاتها مع موسكو. أوقف بوتين مشروع "السيل التركي" لنقل الغاز الروسي إلى تركيا. مشروع تبادل تجاري تصل قيمته إلى 100 مليار دولار ذهب أدراج الرياح. تحول تركيا إلى العقدة الإقليمية لأنابيب الغاز إلى أوروبا انتهى أيضاً. دور تركيا كلاعب أساسي في الأزمة السورية تعمل القوات الروسية على محوه مع كل طلعة جوية بموازاة الحدود السورية التركية.

ولأن القيادة التركية لا تبدو قادرةً على إيقاف دومينو الخسائر الاستراتيجية هذا، أطلقت موسكو ضربتها الأكثر إيلاماً لأنقرة: اتهام موثق بصور جوية ومعطيات ميدانية، تفيد بمسؤولية أنقرة عن "إنشاء داعش" (كما صرح بوتين في خطابه السنوي اليوم تحديداً)، وضلوعها بتجارة النفط مع التنظيم الإرهابي. كان الأمر ليبدو أقل دماراً لصورة تركيا لو أن "داعش" هذا لم يقتل ما يزيد عن مئة وثلاثين فرنسياً في قلب باريس، ولو أنه لا ينفذ بشكلٍ مضطر هجماتٍ في لندن وأميركا وغيرها...
أوصلت موسكو الفكرة للغرب الذي بدا بارد الحماس لدعم أنقرة ضدها يوم انفجر غضب الروس من إسقاط طائرتهم. موجز الفكرة أن الدولة التي تفاوضونها لتصبح عضواً في اتحادكم، هي المسؤولة عن أكثر التنظيمات الإرهابية رعباً وعداءً لكم.الاتهامات الروسية طالت عائلة أردوغان. وللصدفة أو لغيرها، فإن وجهة نفط داعش الأخيرة هي موانئ إسرائيل مروراً بموانئ تركيا. (يمكن مشاهدة حلقة خاصة عرضتها الميادين عن تجارة النفط لدى داعش والاتهامات الروسية لتركيا. نفط الدم)

أردوغان

العلاقات التركية-الإسرائيلية على أبواب "تحوّل تاريخي"

مافي مرمرة
وبعد تنبه تركيا إلى حصاد سياستها في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، لم تجد لأصدقاء إلا عند "إسرائيل".فقد أكدت وسائل إعلام إسرائيلية اليوم أن اجتماعاً سرياً جرى بين رئيس الموساد ومساعد وزير الخارجية التركية في سويسرا، "إنتهى بورقة تفاهمات أولية".
وبحسب "القناة العاشرة" الإسرائيلية فإن هذه التفاهمات من المتوقع أن يتم التوقيع عليها "في الأيام القريبة".ومن جملة التفاهمات بين الجانبين الإسرائيلي والتركي، سماح أنقرة بمرور أنبوب لنقل الغاز على أراضيها، وكذك "البدء فوراً" بمداولات حول شراء تركيا للغاز من إسرائيل.
وجاء في المعلومات التي أوردتها وسائل الإعلام الإسرائيلية، قبول أنقرة بتقييد نشاط "حركة حماس" على الأراضي التركية، ومنع المسؤول في الحركة صالح العاروي من الدخول إلى البلاد، فضلاً عن عدم سماحها بـما وصفته بـ"الأنشطة الإرهابية".وفي ورقة التفاهمات أيضاً الدعوة إلى إعادة السفراء بين الدولتين، وإلغاء الدعاوى ضد جنود الجيش الاسرائيلي بعد حادثة سفينة مرمرة.

وقالت وسائل إعلام إسرائيلية إن تل ابيب وافقت على دفع عشرين مليون دولارٍ كتعويضاتٍ لضحايا السفينة، فضلاً عن إنشائها لصندوق خيري لـ"متضرري مرمرة". ووصفت "القناة العاشرة" العلاقات بين أنقرة وتل أبيب بأنها "أمام تحول تاريخي".

فلسطين تدفع ثمن "التحول التاريخي"

قد يبدو وقع الخبر عادياً بالنسبة للناخبين الأتراك الذين أيدوا حزب أردوغان في الانتخابات الأخيرة، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للذين رأوا في أردوغان بطلاً إسلامياً كبيراً يوم انتفض بوجه بيريز لأجل الذين قتلهم في فلسطين. ستسأل شعوب المنطقة، هل عاد هؤلاء للحياة؟ وكيف سيدفع الشعب الفلسطيني فاتورة هذا "التحول التاريخي". هذا الشعب الذي يرى الدول من حوله تختلف وتتصالح، ثم يدفع هو في النهاية ثمن فشل خياراتها ورهاناتها.
قطاع غزة غاب كلياً عن بنود التفاهمات فيما كان شرط أردوغان برفع الحصار عن القطاع هو الذي حال طوال السنوات الماضية دون الاتفاق، وإذا صح عدم التطرق الى رفع الحصار عن القطاع تكون تركيا تنازلت عن أهم شرط وتكون إسرائيل قد فرضت تسوية بشروطها.

تستعيد تركيا اليوم علاقتها بأكثر "الدول" المنبوذة في العالم، وهي متهمة من خصومها بعلاقة سرية مع التنظيم الإرهابي الأكثر شهرة ووحشية في العالم. وسياسة الصفر مشكلات التي أطلقتها مع تولي أحمد داوود أوغلو لرئاسة خارجيتها، لم تتحق مع أيٍ من جيرانها، باستثناء دولتين لا اعتراف شرعياً بهما، إسرائيل، وداعش ربما.

أردوغان ونتنياهو