روسيا والغرب... المواجهة المستحيلة عسكرياً

منطق المواجهة العسكرية أميركياً وأوروبياً ضدّ روسيا ، ليس سهلاّ تصوّره في أحداث قد تعصف بالكلّ ، وفي مواجهة مع قوى صاعدة - إيران وروسيا والصين - وكلهّا تملك كل أدوات النجاح و كل أدوات التشابُك.

منطق المواجهة العسكرية أميركياً وأوروبياً ضدّ روسيا ، ليس سهلاّ تصوّره
لا يمكن تفسير الإحداث هنا بظروف غير الظروف التي أنشأتها ، فمنطق الصِراع- صِراع المصالح- في أية بُقعة لا يُبرّره التاريخ بقدر ما تُبرّره الجغرافيا. ففوقها تنتشر المصالح وبها يُسدّد ثمن الحروب.وإلا لما كان لأميركا اللعب بالنار خارج جغرافيتها، لكن القوة ليست دائماً على خطّ النجاح كما أنها ليست المفتاح السحري لحلّ الأزمات خاصة تلك الأزمات المُصطنعة .


مثل ما هو حاصل اليوم في سوريا والتي صار اللعب الأميركي بالكذب فيها يساوي الجهل ..والجهل كما قال" بوذا "الهندي "الجهل جَذر كل الشرور.." في مقابل هذا تبدو القوى الصاعِدة مع روسيا في واجهة الواقع وكأنها بوابة حتمية لإعادة التوازُن لعالم ٍيشقّ طريقة نحو تعددّية قُطبية صانِعة للأمل خارج منطق الحروب البُرتقالية أو الفوضى الخلاّقة. 


وتُمثّل روسيا والصين هذا الأمل، رغم ما لحق بروسيا من أذى من الغرب ومن أميركا في حِصارٍ جائِرٍ لا يُبرّره القانون الدولي ولا الأخلاق البشرية...

روسيا إذن، تخترق شريط الخطأ  الغربي  الأميركي المُعدّ لها مُسبقاً ، من خلال أوكرانيا وسوريا ، و تؤكّد للجميع بأنها موجودة على الساحة الدولية ، كفاعِل رئيسي ليس من خلال مجلس الأمن الدولي، و لكن من عُمق التاريخ والجغرافيا ، في مقابل هذا المنطق دخلت أوروبا و من خلفها الولايات المتحدة الأميركية في صِراع مع روسيا من دون إدراك الأثر المُترتّب عن ذلك – خاصة لأوروبا- و كيفية الخروج منه  راضية أم غير راضية.. ، ظنّت أميركا  أن بإمكانها تحريك حلفائها في أوروبا لخدمة الخطأ التاريخي الذي وقعت فيه حين قرّرت إدخال أوكرانيا في لعبة الفوضى  بواسطة مَن هم موجّهون منها منذ بداية الأزمة ، وإذا بالكل أمام حائط التحدّي الروسي بإقرار ضمّ جزيرة القرم ، وضمّها  جاء ضمن الأطر القانونية  بما فيها القانون الدولي، فصار الكل ينظر إلى الأوهام  بمساحة فَرض الحِصار على روسيا  أو حتى الاقتراب من حدودها عسكرياً ؟.. 


لكن الكل يعرف أن أيّ انفجار عِرقي على مساحة هذه المنطقة لن يكون عابراً للحدود فحسب  بل سيكون عابراً للدول بالانفصال ، وبالتالي الدخول في لعبة الصِراع الداخلي بدل الصِراع ضدّ روسيا ..



الأمين العام لحلف "الناتو" أشار إلى أن روسيا تريد إعادة رسم خارطة أوروبا ، في مقابل ذلك روسيا تؤكّد أنها دولة تحترم القانون الدولي، و إن شركاءها الغربيين هم الذين يخترقون سيادة الدول ،  ويُطيحون بالرؤساء فيها من دون تفويض أممي، أي أنهم يلعبون بالمبادئ من دون الاكتراث بنتائج ذلك التلاعُب،   وتؤكّد أيضاً إنها غير ناظرة لما يقولونه لأنها تؤمن بالفعل لا بالكلمات التي تشبه أحياناً أوراق الشجر الذابِلة ، وهي مُستعدّة لاتّخاذ الأسوأ إن أراد مَن أراد أن يقترب من فضائها الاستراتجية ، أوالاقتراب من جغرافيا (جزيرة القرم) هي بالأصل روسية منذ أمد طويل ، وترفض روسيا بالتالي العودة إلى عهد "يلتسين" أو "غورباتشوف" لأن منطق التاريخ هو مَن يُحدّد المسارات الكبرى في الواقع و في الأحداث الكبرى.


 ممكن اعتبار ضمّ (جزيرة القرم ) إلى روسيا بأنه خطأ استراتيجي  و ممكن القول عكس ذلك ، ذلك أن كل طرف  من الأطراف الثلاثة  (روسيا  و أوروبا   والولايات المتحدة  الأميركية)  لها اهتماماتها الاستراتيجية الخاصة ليس الا حماية لمصالح طرف  على حساب أطراف أخرى ،  والقابض في النهاية على( جزيرة القرم) هو المُستفيد ، وروسيا يهمّها ذلك  لأنها المخرج لها إلى الحياة الدافئة ، وأن أوكرانيا بكاملها هي العُمق الاستراتيجي لها ، بل إن خروج أوكرانيا عنها يُمثّل الأسوأ لها  وإن الحرب المقبلة التي يُخطّط لها في الخفاء لن تكون خارج أسوار الكرملن .. و إن الحلف الأطلسي بقيادة أميركا- وهو بالمفهم الاستراتيجي أميركياً - انطلاقاً من التقدّم المُتواصل باتجاه الحدود الروسية ، الفائدة من ذلك خلق ارتجاج يمنع أوروبا من الارتباط مع روسيا  لأن ذلك يجعل أميركا خارج أوروبا  و بالتالي خسارة انتشارها  في مواقع خارج مواقعها في الداخل .



خارطة جديدة لأوروبا

هذا يعني أن الولايات المتحدة الأميركية جرّت أوروبا إلى المشنقة من دون أن تعرف هذه الأخيرة المصير الذي ينتظرها ، خاصة إذا امتدّت نيران الانفصال إلى دول عدّة فيها  خاصة تلك التي فيها أقلّيات عرقية تحمل شعوراً وطنياً لموطنها الأصلي أو تاريخها مثل "كورسيكا "في فرنسا  و"كاتالونيا " في إسبانيا ، و هنا إن امتدت الأزمة إلى أوروبا تكون الولايات المتحدة الأميركية هي اللاّعب الأساس من وراء الستار و الرابح الأكبر في الأزمة .. و تكون روسيا أيضاً قد رسمت خارطة جديدة لأوروبا  طالما أنها تحمل شعار القضم للأطراف التي كانت قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، وهي بالأساس قابلة لذلك لسبب هام و جدّي هو أن روسيا تُمثّل اليوم قوة ناهِض  قابلة للتعايُش مع أطرافها وِفق نظام ديمقراطي ، وهي تملك قوة اقتصادية  وعسكرية تحمي الجميع من أيّة اهتزازات  في مقابل تراجع أميركا اقتصادياً وحتى سياسياً ، بل إن الكثير من الباحثين الاستراتيجيين يؤكّدون أن أميركا باتجاه الخروج من مفهوم الدولة الكونية  إلى دولة مثل دولتي الصين و روسيا  أو أقل في المنظور القريب  وليس البعيد، إن التهديد المُلاحَظ اليوم بالحِصار ضدّ روسيا  وعزلها دولياً ، يبدو الأمر هنا مُثيراً للسخرية ، روسيا عضو دائم في مجلس الأمن الدولي  و دولة مؤسسة لمجموعة "البريكس" و هي تُغذّي أوروبا بالغاز ،فقارّة أوروبا ليست هي العالم  و ليست هي الاقتصاد العالمي ، بل إنها هي التي تحتاج إلى روسيا ..


 إن التفكير الجزئي في النتائج المُترتّبة على هذا الموقف الأوروبي  لن يكون إلا ضدّ الاقتصاد الأوروبي ، وإن نتائج ذلك هي في صالح الولايات المتحدة الأميركية لا في صالح أوروبا وهذا هو التخطيط الذي تُنشده بقوة أميركا ، بعد أن خسرت تواجدها في الشرق الأوسط  لحساب إطراف ناشئة إقليمياً ودولياً، و هي تؤكّد اليوم إن الموالين لها في الشرق الأوسط بما فيها إسرائيل صاروا عالة على سياسيتها و اقتصادها  خاصة وأنها تعلم أن إيران أصبحت القوة الإقليمية الأولى في المنطقة إلى جانب تركيا، وهي ترفض تقبّل الوجود الأميركي في المنطقة أيضاً  لكن مَن الرابح من صِراع المنطقة المُحاذية لروسيا  وبالتحديد دولة أوكرانيا ، في نظري الكل خاسر  ما عدا روسيا.. أوروبا خاسرة لأنها غير قادرة على مواجهة روسيا ، و ليس بإمكانها التخلّص من الطاقة الآتية إليها من روسيا المغذّية لماكينة اقتصادها ، وإن حدث توقّف  إمداد الطاقة لها من روسيا ستنهار  فضلاً عن أمور أخرى ، وأن الولايات المتحدة خاسرة  إذا فشلت في سياسة المحاور مع أوروبا  لأن روسيا لم ترضَ أبداً  أن تكون أوكرانيا بلداً خارج دائرة نفوذها لأن الغاز الروسي حتى وإن لم يمر عبر أراضيها.


المشكلة هي أن الغرب أراد ذلك لقتل روسيا اقتصادياً وجعلها دولة عادية قابلة للانطواء ، خاصة أيضاً  أن روسيا اليوم تبدو أنها قد فرضت التعدّدية القُطبية  وأخرجت الولايات المتحدة الأميركية  من الممارسة القُطبية الأحادية التي جعلت منها "الدولة الكونية" لأكثر من عقدين وتصرّفت كالفرعون .. ولأن أوكرانيا إن انسلخت عنها سياسياً  وأصبحت قطعة لحم بيد الغرب وأميركا  ستحاصر روسيا ، و لهذا فإن روسيا و تحت أيّ ضغط أو تهديد لن تسمح لأوكرانيا إلا بتجزئتها في هذه الحال - وهي فعلاً مُجزّأة اليوم - إلى "كانتونات"  إذ لدى الروس ما يكفي لأن يجعلها كذلك . و بالتالي فإن روسيا درست كل الاحتمالات قبل أن تُقدم على ضمّ (جزيرة القرم) إليها.


 إن احتمال رفض أوروبا هذا المنطق الروسي من دون الأخذ باحتياطات سياسية تسمح لها بالبقاء على علاقة مع روسيا أمر مؤكّد ، لأن لا أوروبا تريد أن تُضحّي بمستقبلها لصالح الولايات المتحدة الأميركية خاصة بعد مجيء "دونالد ترامب" إلى الرئاسة الأميركية  ونظرته السيّئة إلى أوروبا  يريدها على ما هي عليه ، ولذلك ، فإن ذلك كله  جعل "فابيوس" وزير خارجية  فرنسا  السابق يقول : "بأنه مؤسف" فهل بإمكان أحد الادّعاء بأن المواجهة بحرب باردة صارت أمراً مقضياً  طبقاً لمؤشّرات واقعية فإنه إلى حد الآن لا يوجد ما يُشير إلى ذلك بل بالعكس  تبدو الولايات المتحدة مرتاحة  لأنها شبكت أوروبا ببعضها على أساس أن روسيا فيها جزء مهم من أوروبا و في نيّة الولايات المتحدة الأميركية  إبعاد روسيا  ولو مؤقتاً من التوسّع باتجاه آسيا ، خاصة و أن التفاهم بينها و بين الصين حسب ما تُخطّط له أميركا ربما يتحوّل لاحقاً إلى تفاهم استراتيجي  يجعل آسيا تحت مظلّتها  أو يتحوّل إلى صِراع  صامت، وفي الوقت الذي تتجه فيه أميركا نحو آسيا بدل الشرق الأوسط. تتوسّع روسيا في منطقة الشرق الأوسط بالتفاهم مع إيران وسوريا وربما مصر لاحقاً.


عالم مُتوازِن

 لم يكن الرئيس "فلاديمير بوتين "غبياً  حين استعمل الفيتو لمرّات عدّة  في مجلس الأمن  لصالح سوريا ، بل كان بذلك يُمهّد إلى شيء إسمه عالم مُتوازِن  لا يخضع لضغط دولة  كرفع "للستار الأميركي" مَن كان ضدّي فهو شرير" ..   لقد ذهب بأميركا الخيال إلى تقسيم الدول بين دول شريرة  و أخرى مُسالِمة ، غير أن محور الشر الذي حاصرته أميركا هو اليوم يُمثّل القوة لروسيا خارجياً وفي مساعدتها لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية ، إيران تبدو العمق الاستراتيجي لروسيا والظهير لها ، هذا أمر مؤكّد اليوم  ووفقاً لنظرية المصالح المشتركة، بَيدَ أن كوريا الشمالية تُمثّل نقطة الضعف الأميركي في مواجهة الصين ، لأن الصين ترفض المساس بها أو حتى فرض الوصاية الأميركية عليها .. لقد وجدت كل من روسيا و الصين ما هو ممكن لمواجهة السياسة الأميركية  و إضعافها في هذين البلدين ، و لم تستطع أميركا تبرير ذلك إلا بمحاولتها توجيه حلفائها إلى "المشنقة" الروسية بما افتعلته في أوكرانيا ، والعملية كلّها توضع ضمن استراتيجية جديدة معالمها تحويل منطقة الصِراع من بقاع ساخنة فشلت فيها إلى منطقة أخرى تكون فيها أوروبا بنفس المأساة التي عليها اليوم أميركا ، ولذلك نرى إسرائيل في حال إرباك  فلا هي قادرة على مواجهة إيران كما ظلّت تُردّد بضرب مُفاعلاتها النووية و لا هي قادرة على مواجهة حزب الله، وهي ترفض اليوم اعتباره مُجرّد مجموعة من المُقاتلين  بل إنها أضحت الآن تُردّد أنه يُمثّل التحدّي الأساس لوجودها. وهو كذلك.



بالتأكيد  و بناء على ما سبق  فإن أوروبا أمام احتمالين لا ثالث لهما : أولاهما  إن أوروبا أمام انفجار الانفصال أو الصِراع العِرقي  لأن ثبوت انفصال جزيرة القرم  قد لا يبدو محدوداً بل أن حريقها سيطال أغلب دول أوروبا  وخاصة دول أوروبا الشرقية  و التي كانت تدور في فلك حلف وارسو ، والكل متخوّف  حتى أميركا هي ضمن دائرة  هذا الخطر ، خطر الانفصال  وقد تم فعلاً تحضير طلب الاستفتاء على خروج ولاية "كاليفورنيا "من الاتحاد ، وإن كان ذلك شبه مستحيل، فالطوائف فيها من العِرقيات الآسيوية و غير الآسيوية تعتقد أنها مظلومة و أن الهامش التي تعيش عليه  يُفسّر ذلك..  وهنا يُحتّم على الدولة الأميركية إما إعادة النظر في سياستها  والأخذ بعين الاعتبار دائرة الفقر الذي يطال أكثر من ثلاثين مليون أميركي  مقابل حصر الثروة في مجموعة "وول ستريت "و مَن يقف وراءها والفقر هذا لا يمكن عدّه عملاً اعتراضياً.



 أما أوروبا  فيبدو هامش المناورة فيها ضئيل  تجاه أيّة دعوة للانفصال  لأنها تعيش حالات اقتصادية مُزرية  والبطالة تأخذ حيّزاً مهماً من شبابها ، بل إن ناقوس الخطر يدقّ في بريطانيا  حيث اضطر بعض سكانها إلى بيع أعضائهم لتسديد لقمة العيش ، ونفس الشيء  في فرنسا إذ لولا المال الخليجي – مع الأسف- لأعلنت إفلاسها مند سنتين، أما أوكرانيا فهي بين مطرقتين ، مطرقة الفقر ومطرقة التعداد السكاني الذي يجعل من انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي أمراً ليس هيناً،   وبالتالي ، فإن أوروبا التي جرّتها أميركا إلى مُعاداة روسيا هي الآن تحت ضوء الصِراع المُحتدِم بين الاتجاهين ، الاتجاه الروسي    والاتجاه الأميركي ، و ثانيهما : الخروج بطرق الوئام السياسي مع روسيا  و الحفاظ على أوكرانيا بما هي عليه الآن  حيث يمكّنها ذلك من احتواء الأزمة ضمن حيّزها القائم اليوم  حفاظاً على خروجها من أعلى الشجرة بأزمات داخلية من دون إضافة إلى أزماتها الحالية ، خاصة و أن أميركا تريد تبرير خروجها من القطبية الأحادية بدفع حلفائها إلى واجهة الأزمات الكبرى مثلما هي داخل هذه الأزمات. 



لقد جنّدت أميركا كل قواتها العسكرية لمواجهة الأطلال في بلاد الأفغان ودول أخرى، ومن أجل شخص واحد إسمه " أسامة بن لادن " ثم لاحقاً من أجل مُحاربة الإرهاب..؟ !! ، فهل أميركا بهذا الفعل دولة عُظمى.. ؟ أم أنها بهذا الفعل مُجرّد عين هاربة من الأشباح إلى بلد مُنتج للأشباح المؤمنة ، كما يقول عنه التاريخ ؟.


 واضح إن لا مجال للمُقارنة بين مَن يملك القوة ويستعملها في الظلم والظلام وبين مَن يملك الروح والعقيدة ، ويسلك التاريخ في ثنائية موحّدة وفق مسار الشهادة ..الاعتقاد الأميركي ومَن تحالف معه من الصليبيين والأعراب اعتقاد يقوم على ازدواجية في الخطاب والفهم ، وعلى تناقُض بين الأمل والألم.