تلاشي الاتحاد الأوروبي و مأزق ألمانيا

مأزِقٌ هو أقلُ ما يُقالُ عمّا يواجِهُ ألمانيا اليوم.فالازْمةُ الاوكرانيةُ جاءت بجحافلِ أميركا لى مَنطِقتِهم. فالألمانُ و معهم دولٌ اوروبيةٌ اخرى يريدون رفعَ العقوباتِ عن روسيا و لكنّ نشرَ الولاياتِ المتحدةِ الأميركية قواتِها في المَنطِقة في سياقِ حلفِ شَمالِ الاطلسي جعل من مسألةِ التخلّصِ من العقوباتِ أمراً مُعقداً و حوّلَها إلى قضيةٍ جانبيةٍ بحسَبِ المُراقبين.

..
أما الروسُ فقلقُهم هو النوايا الأميركية. من جهةٍ أخرى ألمانيا تواجهُ مشاكلَ اقتصاديةً حادّة. فالاتحادُ الأوروبيُ و الناتو دعامَتا الاستراتيجيةِ الألمانيةِ القومية يواجهان الاحتكاكَ داخلَهما وبينَهما. الاستراتيجيةُ الألمانيةُ الطبيعية هي ألّا تقومَ بشيءٍ و لكنّ عدمَ القيامِ بشيءٍ يعني السماحَ لمجموعةٍ من القوى المُزعزِعةِ للاستقرارِ بتقويضِ المصالحِ الألمانيةِ الأساسية. و يرى الخُبراءُ إنه فيما يقومُ الميركيون و الروسُ بتحقيقِ مساعيهِم في وروبا  لا يمكنُ لألمانيا ان تنزعَ إلى استراتيجيتِها التي أنتهجتها لقرنٍ من الزمنِ و هي بناءُ قوتِها العسكريةِ لحمايةِ مصالحِها . لذلك يرى المُراقبون أن الخِيارَ الآخرَ الوحيدَ هو أن تجدَ المانيا وسيلةً للتوازنِ بين الروسِ و الأميركيين. الأميركيون هم الأقوى و لكنهم الأبعدُ جغرافياً. أما الروسُ فهمُ الأضعفُ ولكنهم الأقربُ جغرافياً. هذا ما يُساوي بين الإثنين.
 

الانَ يبدو أن ألمانيا قلقةٌ من الأميركيين أكثرَ من قلقِها من الروس. فالروسُ يسعَوْنَ إلى حمايةِ أنفسِهم ومصالحِهم . أما الأميركيون فبمقاومتِهم لذلك قد يقومون بما أتَوْا عليه خلال القرنِ العشرين : إغراقُ أوروبا بقوتِهم و بلِحاظِ الوضعِ الاقتصاديِ الهشِّ في لمانيا حالياً قد تتمكّنُ أميركا من زعزعةِ مؤسساتِها. لذلك نرى أن ما قد تقوم به ألمانيا اليومَ يشبهُ ما قامت به بْريطانيا في القرنِ التاسعَ عشَر : مدُ الجسورِ معَ روسيا.

 

مانويل أوكزنرايتر مديرُ المركزِ الألمانيِ للدراساتِ الأوراسية و رئيسُ تحريرِ المجلةِ الشهريةِ الألمانيةِ الرائدة "تسوارست" يشرحُ من الداخلِ ما يُسمّى بـ"تجزئة وهشاشة الاتحاد الأوروبي" و ماذا يقصد عندما يصفه"بأنه اتحاد أوروبي غير أوروبي"؟ أوكزنرايتر يتطرّق إلى جملة من الاعتبارات.


"فالكيان الذي ُنطلق عليه إسم الاتحاد الأوروبي ليس بمشروع أوروبي. أولاً، إنه لا يحظى بدعم الشعوب الأوروبية ولاسيما في يومنا هذا، إذ لدينا العديد من مشاريع الاتحاد الأوروبي حيث لم يؤخذ برأي الشعوب الأوروبية بشأنها أبداً كما لم تُجرَ يوماً أية استفتاءات شعبية بشأن تلك المشاريع. إحدى المواضيع الأبرز على سبيل المثال هي العملة الأوروبية اليورو والتي تم تبنيها بقرار ديكتاتوري اتخذته ألمانيا للأسف الشديد حيث كان 80 في المئة من الشعب مناهضاً لقرار تبنّي هذه العملة."

 

 لكن هذا ليس إلا مثالاً واحداً من بين فيض من القضايا حيث يوظّف المفهوم الأتحادي في الاتحاد الأوروبي لصالح قضايا بعيدة عمّا يُعرَف بالصالح العام الأوروبي والاستثمار الثقافي البنّاء. و يرى المراقبون إنه في الواقع مشروع ليبرالي غربي و تديره داخلياً التيّارات الأيديولوجية ذات التوجّه الليبرالي و إنها تُحارب التقاليد والثقافة والأديان وكل عناصر الهوية الجماعية في أوروبا، كما إنها تحارب الهوية الجماعية خارج أوروبا تحت راية الأيديولوجية الإنسانية المُنادية بحقوق الإنسان وكل ذلك يجعل من الاتحاد الأوروبي كياناً مُعادياً للهوية الأوروبية بطبيعة الحال. و عن مصير الاتحاد الأوروبي من وجهة نظر أوكزنرايتر "كلما اقترب ميعاد انهيار الاتحاد الأوروبي كلما كان ذلك أفضل.



لكن في البداية يجدر بنا التمحيص في هيكلية هذا الكيان المُسمّى بالاتحاد الأوروبي. إنه أشبه بكائن حيّ. هنالك الآلاف من الأفراد يتقاضون رواتبهم من منظمات الاتحاد الأوروبي وبصريح العبارة إنّ الاتحاد الأوروبي سيقاتل حتى النهاية المرّة وحتى آخر قطرة دم من أجل وجوده. ونحن نشهد هذه المعركة، شهدنا جزءاً منها في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. و الدليل ردّات الفعل الصادرة عن بروكسل وبالأخصّ برلين من بعدها. لو سُمعت في سياق مماثل قبل مئة عام لأعطت انطباعاً بأن الأساطيل البحرية مُتّجهة للقتال. لذا، فإنّ الطابع المُلتهب والعدائي للتصاريح التي تم الإدلاء بها في هذا الصدد يثبت أن الاتحاد الأوروبي كيان مُستعد للمواجهة ولن يتوانى عن الدفاع عن نفسه".

أما عن الازَماتِ السياسيةَ و الاقتصاديةَ التي تواجه ألمانيا و الاتحادَ الأوروبيَ يقول أوكزنرايتر "إن العالم يرى ألمانيا على أنها دولة مُستقّلة ونافِذة، كما أنها صاحبة اقتصاد قوي على حد قولهم، وتُعتبر الدولة الأكثر تمتّعاً بالامتيازات في الاتحاد الأوروبي. بالتأكيد إن نظرنا إلى أي من الدول الأوروبية سواء في ألمانيا أو فرنسا أو إيطاليا نرى أن الكثير من الشباب الذين يشعرون بهويتهم كأوروبيين يتبادلون الآراء ويختلطون ببعضهم البعض لكنهم في الوقت عينه يناهضون الاتحاد الأوروبي."

 

تصف وسائل الإعلام الرئيسية الأفراد الذين تساورهم شكوك حيال نظام بروكسيل أناساً مثل مانويل أوكزنرايتر أو مثل الجماعات المُشكّكة بنظام اليورو على أنهم معادون للهوية الأوروبية. لكن ذلك شعار مُغرض للغاية  بحسب أوكزنرايتر فإذا كنت مُناصراً للهوية الأوروبية إن السبيل الأمثل لدعم الهوية الأوروبية هو أن تكون مُنسجماً مع نفسك وهويّتك وقارّتك، وأن تقرّ بأن تلك العناصر جامعة لنا، فعليك أن تكون مُعادياً لنظام بروكسيل. لا يمكنك أن تُناصر الهوية الأوروبية ونظام الاتحاد الأوروبي في الوقت نفسه. إنها عملية تضليل فكل مَن يُشكّكون بنظام اليورو دائماً ما يُنعتون بأنهم مُعادون للهوية الأوروبية في وسائل الإعلام الرئيسية. الجيل الشبابي داعم لهويته الأوروبية والشباب يتشاركون القِيَم الأوروبية نفسها وهم في الوقت ذاته مُناهضون لنظام بروكسيل هذا يعني أنهم مدركون لجوهر المُشكلة.

 

تعدُ ألمانيا من أقوى أعضاء الاتحاد الأوروبي. كما يمكننا أن نقول إنها الدولة صاحبة الاقتصاد الأقوى في وقتنا الراهن. على الرغم من ذلك ثمة الكثير من المُشكلات ترشح على السطح في ألمانيا لا سيما السياسية و الاقتصادية و أمور تتعلّق بالسيادة و الحرية التي تتمتّع بها ألمانيا.  "يمكننا القول بأن ألمانيا تعاني منذ تسعينات القرن الماضي  أي منذ الوحدة الألمانية من انعدام خطير للتوازن ما بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية.نحن نُعد المحور المُنتج للقوة الاقتصادية في الاتحاد الأوروبي.نحن أحدث الدول الصناعية في أوروبا. من دون ألمانيا من المُستحيل أن يكون هناك اتحاد أوروبي.


إن قطاعنا الصناعي ركيزة لاستمرارية الاتحاد الأوروبي. طالما كنا الدولة الرائدة في تصدير المُنتجات على مدى سنوات عديدة.  الآن أصبحت الصادرات الصينية في الطليعة لكن الاقتصاد الألماني اقتصاد عملاق أما السياسة الألمانية فهي سياسة مُقزّمة وذلك يُعدّ انعداماً خطراً في التوازن بين القوتين".


مانويل أوكزنرايتر يتابع و يصفُ بعضَ الأحداثِ المُفاجئةِ وآثارَها و ماذا عن أولوياتِ ألمانيا اليومَ ؟ هل الأولوية للمُهاجرين واللاجئين و"بيغيدا"-أي الأوروبيين الوطنيين ضدّ أسلَمَة الغرب"؟ أم أن الأولوية للجماعات الوهّابية والخلايا النائمة داخلياً؟ أم أنها تعود للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والحرب على الإرهاب؟ و ماذا عن علاقتها بروسيا؟ أسئلة يُجيب عليها مانويل أوكزنرايتر من الداخل.


 لصورة أكثر وضوحاً و قرباً  تابعوا من الداخل.