الإسلام، والألاعيب السياسية داخل القصور الملكية
في عصر يرفض كل الاحتمالات الداعية إلى الاسترخاء. وحتى إلى الاستنجاد بالوعظ والإرشاد.هل نتحرّك وفق الشواهد التاريخية؟ وما أكثر هذه الشواهد في القرآن، أم نتحرّك جرياً وراء الحركة حتى لو كانت هذه الحركة تختزن الكثير من الرؤى المتضاربة؟
ولقد صارت الشواهد التاريخية عندنا تشبه حبّات الأفيون، لا، بل الأرصفة المفتوحة لكل أنواع السوسيولوجيا، أما لماذا؟ لأننا صرنا نشبه الإعياء، نتكّلم بالأفكار الجاهزة كما لو أننا نُحاكي الأشياء الغامِضة. فالكثير منا يدّعي الإحتماء بالماضي وحين يتذكّر الحاضر يجهش بالبكاء، و لكن من دون أن يحاول قراءة ما يجري حوله من ألاعيب مع إنه يؤمن أن لا شيء يستطيع أن يعيش خارج الزمان والمكان، أن المتخلّف حركياً قد تصل به الطريق إلى نهاية الطريق، وإن ما اصطلح الناس على تسمية بالصدفة هو في واقع الأمر جزء من مشيئة الله في الكون ((وكل شيء عنده بمقدار)).. وإن انتظار مجيء الانتظار في ضرب من الاسترخاء المُتعمّد أمر بالغ العذاب.
في عصر يرفض كل الاحتمالات الداعية إلى الاسترخاء. وحتى إلى الاستنجاد بالوعظ والإرشاد.
هل نتحرّك وفق الشواهد التاريخية؟ وما أكثر هذه الشواهد في القرآن، أم نتحرّك جرياً وراء الحركة حتى لو كانت هذه الحركة تختزن الكثير من الرؤى المتضاربة؟ لقد أوضح الأنبياء والرسل على أنهم بشر، وأنهم لا يملكون لأيّ كان وحتى لأنفسهم نفعاً ولا ضراً خارج إطار الرسالة الذين أمِروا بتبليغها للناس والتصديق بها والعمل بمحتواها، وأن كل فرد مسؤول عن نفسه، وإن الوعي بهذه المسؤولية هو إحدى المهمات الكبرى للدعوة إلى الله، وألا سبيل إلى الإفلات من هذه المسؤولية مهما كان الانتقاء الذي ننتمي إليه، وإننا مطالبون ليس برأي سادتنا وكبرائنا وإنما بما هو حق، إذ أن الإمّعة مرفوضة في الإسلام ، وإن العقل الذي ميّزنا به الخالق- سبحانه - عن بقيّة الكائنات الأخرى يحرّم علينا شرعاً تعطيله مهما كان الادّعاء، ومهما كان الارتباط السياسي الذي نرتبط به في ظلّ التعدّدية التي تكاد تحكم عالم اليوم من دون استثناء، التعدّدية السياسية والتعدّدية المذهبية. ما عدا أنظمة أمراء الوهّابية وملوك الطاغوت الذين مازالوا بعد ينظرون للموت من وراء "أنا وابني، وابن ابني إلى الأبد جاثمين على رؤوسكم".
من هنا دعونا أكثر من مرة إلى فهم النصوص الدينية فهماً "عملياً لا نظرياً" واعتبرنا الارتباط المذهبي الذي يقيّد العقل ارتباطاً مخالفاً لما تدعو إليه الأديان السماوية، وعددنا صاحب هذا العمل في عداد المفقودين، المسيحية الغربية بعد التزوير السياسي الذي ألحق بها مؤخراً تعاملت مع العقل بهذا المنطق منطق الإلغاء للعقل، باستثناء الرهبان وكانت النتيجة الخروج الجماعي ضد الكنيسة وممثليها، وبالتالي كانت المسيحية هي هذه الصورة التي عليها الآن المجتمع المسيحي، لقد انتهت الكنيسة في الغرب من حيث بدأت المضاربة بالدين ثم المُضاربة بأماكن التديّن. و في المجتمع الإسلامي اليوم، وعند بعض الطوائف نوع آخر من المُضاربة بالدين، هناك من يكفّرون الناس وهم يوحّدون الله، وهؤلاء لا يفرّقون بين الكفر وبين المعصية!! في حين يُفترض في المسلم الإحاطة بالأصول العامة على الأقل للدين ومفهوم التديّن، وعليه أن يتجنّب قدر الإمكان الوقوع بسم الدين في ما هو ليس من الدين أصلاً، لقد تفرّق المسلمون إلى شيَع وأحزاب ، ((إن الذين فرّقوا دينهم كانوا شيَعاً لست منهم في شيء)) وكان لكل فريق وثن سياسي يدفعه إلى الساحة كورقة ضغط أو كورقة تعطيل، فالذين أنشأوا هذه الفرق المتصلّبة في الرأي، لا بل الإرهابية في الرأي ودفعوا بهم إلى الخارطة السياسية هم أولئك الذين لا يريدون للإسلام خيراً، إذ أن الإسلام وفي صورة تمكينه سياسياً سيكون أول من يحارب أولئك الذين يؤمنون بالانشطار الديني... لأن الانشطار هذا يحقّق البقاء لهم، ويزيدهم فساداً في الأرض، وعلّواً في السلطة ... لقد حاولت السعودية أن تلعب على الورقتين ورقة السلفية ويمثلها ابن الباز من آل الشيخ، وورقة التقنوقراط، و ويمثلها المثقّفون من خرّيجي المعاهد والجامعات الغربية بسم الوهّابية فسقطت في التكفير، والثانية سيطرت تحت التزامات معيّنة للأسرة الحاكمة على الجانب الاقتصادي ووضعت كل أموال الدولة بيدها وفق ثابت ديني مزوّر فصار لا أحد يملك غيرها!! والصراع بين الطائفتين على أشدّه وإن بدا الآن غير ظاهر للعيان. صراع وصل إلى حد لا يُطاق، لكن الأسرة الحاكمة بسيطرتها على القرار السياسي في البلاد جعلت هذا الصراع غير مجدٍ وغير واعٍ في أغلب الأحيان، ومن هذا المنطلق كان على هذه الجماعة المسيطرة أن تجد توازنات أخرى لها خارج وطنها لتضمن على الأقل جزءاً من وجودها الخارجي، خاصة وإن الحرية المُعطاة في كثير من البلدان الإسلامية للشعوب قد تضعها في دوّامة الأتعاب، وبذلك أنشأت في كثير من هذه البلدان خلايا ناطقة باسم الحركة الإسلامية فيها، وهي الحركة التي تعيش التدجين التام، حيث تحصّلت لديها جرّاء هذا التدجين كل المعطيات الضرورية القابلة للتصدير، مثلها مثل أية سلعة، وأضحى علماؤها بحكم هذا التواكل على النظام والتآكل التاريخي للدعوة الإسلامية عالة عليها حيث انحرفت بجهلهم عن سكّتها ثم يدّعون الوصاية على الإسلام، فالإمام محمّد الغزالي في نظرهم مُبتدع!!، والإمام محمّد البوطي سفيه يُقتل!! والشيعة كفّار يُحاربون!! والحوثيون أوباش يُحرقون!! والجامدون من أتباعهم حتى وإن كانوا صبياناً سلفيين من الطراز الرفيع!! وأتباع يجب ترتيب الشروط الكافية لاحتوائهم على مدى الدهر!!
مَن ضيّع الإسلام؟
في هذا الجو القاتل، ضاع الإسلام وانهار المسلمون، لقد ضاع الإسلام وسط مجموعة من التيارات الدينية تُناصب العداء لبعضها البعض، بل وتكفّر بعضها وللوهّابية النصيب الأكبر في هذا العداء وحتى القتل.. وأضحى الإسلام مرادفاً للمحنة في أكثر من مكان، وخاصة عند أولئك الذين لا يريدون للإسلام خيراً، وما من مكان ظهر فيه المشروع الإسلامي إلا وأصيب (المشروع) بنكسة رهيبة جرّاء هذا التصادُم الذي تصنعه عادة الدول التي تدّعي الوصاية على الإسلام وأهمّها السعودية، وواضح - منذ البداية - أن هذه الدول، ونتيجة الفساد الذي يلاحق نظامها السياسي والاجتماعي - لا يمكنها أن تعيش بمعزل عن هذه الإعاقة التي أصيب بها الإسلام والمسلمون، وإن إعاقة التديّن من أجل الغرض السياسي ليست ظاهرة معزولة عن بعض المفاهيم الخاطئة التي ألصقت بالدين، فعلماء الإسلام انكمشوا كثيراً في العقود الماضية، ولمّا تمدّدوا وجدوا أنفسهم مُقيّدين بمظاهر الفساد التي ألحقت بالأنظمة العربية، إضافة إلى المظاهر الاستعلائية التي أصابت البعض منهم نتيجة الفراغ الديني الذي يحاصر المجتمع، حيث أصبحت ظاهرة القطبية من مميزات الكثير من الحركات الإسلامية حتى صار القطب يمثّل ظاهرة القداسة بدل ظاهرة الناصِح الأمين، فمنذ وفاة حسن البنا – رحمه الله – والذي يمثل ظاهرة تجديدية في الفكر الديني ذي النزعة السياسية والحركة الإسلامية تعيش النموذج المتميّز باللاواقعية، وعمّ التطرّف في الزعامة على حساب المبادئ التي جاءت بها الحركة في بداية الأمر، أي بعد وفاة الرسول – ص – ظهرت مجموعة من التحديات للفعل الإسلامي من داخل الحركة نفسها واستغلت هذه التحديات من طرف الحكّام أيّما استغلال، بحيث كانت عوامل الارتداد أكثر من عوامل الدوام على المنهج، وعملية الإسقاط للفعل اللاواعي أكثر من عملية الإسقاط للفعل الواعي.
لقد أصبح الدين مفصولاً عن السياسة، ومفصولاً عن المال، ومفصولاً عن الاقتصاد، أي أننا أسقطنا في العلمانية من دون إحساس منا بهذا السقوط، فأصبحت السياسة من اختصاص الحاكم، والمال من اختصاص الشركات المالية والبورصات والبنوك، والاقتصاد بيد الأسر الحاكمة تكنز لنفسها ما تشاء وعند من تشاء! حتى ولو كانت الأمّة تعيش ظاهرة المجاعة والاستهلاك الدائم للتسول.. إن دول الخليج، والتي هي أقرب إلى الأمكنة التي انطلقت منها الدعوة الإسلامية تضع اليوم أكثر من سبعين في المائة من ودائعها باسم حفنة من الناس (ملوك ، وأمراء ، ومشايخ) في البنوك الغربية، وتضارب بمصالح الأمّة الإسلامية بفعلها هذا، وهي تعلم أن المال مال الله، وإن المسلمين يعانون من الجوع في أكثر من رقعة في العالم، فأين هو الدين؟ والدين أصبح عندهم إما لحية اصطناعية أو مصبوغة بالأسود خوفاً من الشيب، وإما كتب توزّع بالمجاّن لمذهبهم الوهّابي وكفى، وهي لا تعني شيئاً بالقياس إلى ما يُنفق على الشهوات، وما يُصرف على الجواري و حفلات الختان!! فهل من الدين أن يصبح الحاكم المسلم واحداً من أكبر أثرياء العالم وأمّته تسحقها البطالة، ويأكلها العذاب من كثرة الذهاب والإياب بحثاً عن عمل حتى ولو كنّاساً؟! وما علمنا هذا من قبل أن في عهد الصحابة - رضوان الله عليهم – أو في عهد التابعين، ثم أين هو الدين وهم يتآمرون على بعضهم البعض!! ويتحالفون مع المشركين ضدّ ضعفائهم من الموحّدين ؟!
إن الغرب حيث يواجهنا كلما ظهر هناك بريق أمل في النهوض ليس إلا استجابة فيه لهذه الانحرافات التي نحياها أو لهذه التشوّهات التي ألصقها الأمراء الطُغاة بالدين. ونتحدّى من يقول لنا إن الإسلام لا يحارب من الداخل. وأظن – و ليس كل الظن إثم – أنه لا واحد في الأرض الإسلامية يستطيع أن يقول – بالتأكيد أو يفسّر بالتأكيد – إن الأمّة الإسلامية تعيش اليقين الديني، أو على الأقل الأحاسيس الكبرى للتديّن، إننا بالتأكيد نعيش هاجس الخلفيات السياسية أكثر مما نعيش الاحتمالات الممكنة التطبيق للأسس الدينية وربما الأخلاقية أيضاً، و إننا أيضاً نستهلك الافتراضات أكثر مما نقف على الشواهد التاريخية - وفي القرآن ما يكفي منها - أو يؤكّد لنا السِمات الحضارية التي تميّز عصرنا، وإننا بالتأكيد أيضاً من أكثر أمم الأرض استهلاكاً للأفكار الجاهزة، وأخصبها إنتاجاً للألاعيب السياسية غير الواعية، الشاهد أن إسرائيل بَنَت دولتها الدينية المزعومة على أرض إسلامية ذات تميّز وقداسة "لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مكّة، المدينة، القدس" و قد تم هذا في أقل من أربعين عاماً، وهي الآن تهدّد العالم العربي والإسلامي بالأفكار النووية، لا بل بالأفكار "التوراتية" ونحن مازلنا بعد نعيش عقدة الزعامة على السلفية والدول السنّية، وعقدة الشعارات الكاذبة. وعقدة أميركا تحمينا وأضيف إليها اليوم إسرائيل تحمينا من إيران.. وقد تم- مع الأسف - تسييس حتى دُعاء القنوت في الحَرَم المكّي لصالح فجّار بني سعود.