سوريا .. مُقاربات دستورية

إن المُسودّة الروسية تُشرّع للبننة أو عرقنة سوريا لا أكثر ولا أقل كما هي عليه بصيغتها الحالية. ولكن ذلك لا يمنع من إمكانية العمل عليها وتعديلها بما يتوافق وينسجم مع تطلّعات السوريين التي لا بدّ من أن تنطلق من مبدأ أن الدستور يجب أن يكون توافقياً، وأن يتم وضعه بأيدي خبراء دستوريين وقانونيين سوريين وما أكثرهم. وعملية بناء الدستور لا بدّ من أن تأخذ بالحسبان المتغيّرات الداخلية السوريا وتحديداً المتغيّرات الاجتماعية، كمتغيّر أساسي ورئيسي عند إعداد مشروع الدستور.

مجلس الشعب السوري
قد يكون القانون أعظم ما  عرفته البشرية.  ولا يمكن إقامة دولة القانون من دون الدستور  النابع من رحم القانون و الذي يُعتبر أعلى قاعدة قانونية تستمد القوانين قوتها منه، "فالقانون فوق أتينا" كما قال أرسطو، لكن  الدستور ينبغي آلا يكون جامداً لذلك  قال نابليون "بأن الدساتير وُضعت لتُعدّل"، أي أن الدستور  ليس كتاباً مُنزلاً. وإنما يمكن تعديله حسب مقتضيات المصلحة العامة. وحسب ظروف الدولة.

و قد تنتهي الدساتير  بشكل غير طبيعي ( عادي ) وذلك عند حدوث ثورة أو انقلاب، وفي الحال السورية دعت الأزمة إلى تغيير الدستور في محاولة للإصلاح أو طلب الإصلاح. والتاريخ السوري غني بالانقلابات الدستورية، حيث أُقر في سوريا أكثر من عشرة دساتير منذ الاستقلال و تحوّل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي ومن ثم إلى شبه رئاسي، بالتالي شهدت سوريا حركة دستورية مُتحوّلة كنتيجة لعدم الاستقرار السياسي الذي كان يؤدّي إلى عدم استقرار دستوري. وبنظرة سريعة على هذه التحوّلات نلاحظ ما يلي:

أن دستور عام 1943 كان ذا صبغة برلمانية، واستمر حتى مرحلة ما بعد الاستقلال. ثم دستور عام 1950  الذي استمر بالصيغة البرلمانية، وصولاً  إلى مرحلة الوحدة التي تم فيها وضع دستور مؤقت تبنّى النظام الرئاسي وألغى دستور عام 1950. لتأتي في ما بعد مرحلة الانفصال والتي وضعت دستوراً مؤقتاً انتهى العمل به مع سيطرة البعث بحكم ثورته. حيث وضِعَ دستور مؤقت عام 1964 واستمر العمل به حتى جاء دستور عام 1973 والذي سُمّي بالدستور الدائم. ليأتي دستور عام 2012 والذي لم يختلف كثيراً عن دستور عام 1973.  وعلى خلاف أن  دستور 1973 جاء ليؤمّن الاستقرار السياسي. جاء دستور عام 2012 ليُخرج الحياة السياسية من حال السكون والجمود عبر تعديل المادة (8).

لكن وبعد مرور خمسة أعوام على دستور عام 2012 الذي كان من المفترض أن يطرح أي نقاش لتعديله بعد (18) شهراً، بقيت البلاد في حال سكون دستوري على الرغم من انقسام الشارع بين مؤيّد ومعارض لهذا الدستور.

في مطلع 2017 جاءت مُسّودة الدستور الروسي والتي تُعتبر سابقة في الحركة الدستورية السوريا من خلال البنود التي نصّت عليها  وسوف نشير إلى بعض منها:

- نصّت المُسّودة صراحة على المحاصصة الطائفية. " التمثيل النسبي لجميع الطوائف والأديان والمكوّنات لسكان سوريا في التعيينات الحكومية. أي أنها أصبحت دستورية بينما كانت في دستور عام 2012 غير موجودة بالنصّ الدستوري وإن كانت بالواقع الفعلي موجودة.

- تقترح المُسودّة توسيع صلاحيات البرلمان بقدر كبير على حساب صلاحيات الرئيس رغم نصّها على أن نظام الحكم جمهوري، وفي هذا تناقض واضح. بينما دستور عام 2012 لا يمنح البرلمان هذه الصلاحيات، حيث يحق للرئيس حل البرلمان.

- لم ينص مشروع الدستور الروسي على عمق جنسية رئيس الدولة، حيث لم يشير إلى ضرورة أن يكون من أبويين سوريين بالولادة، بينما في دستور عام 2012 نص على ضرورة أن يكون سوري الأب والأم بالولادة.

- ضمن المُسودّة هناك نقطة في غاية الخطورة وهي اعتبار تغيير حدود الدولة ممكناً عبر الاستفتاء. الأمر الذي يفتح الباب مستقبلاً أمام انفصال مكوّنات مُعينة عن الدولة السوريا. وربما لنسيان قضية الجولان واللواء.

- حجّمت المُسودّة دور الجيش السوري التاريخي الذي كان يتدخّل في السياسة عند الضرورة، لجهة نصّها على عدم جواز استخدام القوات المسلّحة في المجال السياسي أو عملية الانتقال.  وكذلك لجهة نبذ سوريا الحرب كنمط للإخلال باستقلال دول أخرى وكوسيلة لحل نزاعات دولية. وفي هذا البند بالتحديد إشارة ما إلى أن الحل في سوريا والمنطقة ربما يتطلّب نجاحه تسوية ما مع إسرائيل.

- اقتراح المُسودّة إلغاء كلمة العربية هي نقطة متقدّمة على دستور عام 2012، ومردّ ذلك أن سوريا دولة غنية بالمكوّنات الطائفية والاثنية  ولا يجب حصرها بالعربية فقط. وهذه النقطة قد تكون محل جدل بين مؤيّد ومعارض للفكرة أكثر من غيرها من المواد كونها قريبة من الشارع السوري، فالبعض يحافظ على العروبة ظناً منه أن إلغاء كلمة عربية تمسّ بقضيته الكبيرة، والبعض الآخر يرى وبشدّة ضرورة إلغاء كلمة عربية نتيجة خذلان العرب للسوريين في ظلّ الأزمة.

- لم تنصّ مُسودّة المقترح الروسي على علمانية الدولة، ولم تُحدّد آلية واضحة لدور المرأة في السياسة على الرغم من أن المبعوث الأممي شكّل المجلس الاستشاري النسائي والذي عمل مطولاً على بنود جندرة الدستور.

بالنتيجة يمكن القول بأن المُسودّة الروسية تُشرّع  للبننة أو عرقنة سوريا لا أكثر و لا أقل كما هي عليه بصيغتها الحالية. ولكن ذلك لا يمنع من إمكانية العمل عليها وتعديلها بما يتوافق وينسجم مع تطلّعات السوريين التي لا بدّ من أن تنطلق من مبدأ أن الدستور يجب أن يكون توافقياً، وأن  يتم وضعه بأيدي خبراء دستوريين وقانونيين سوريين وما أكثرهم. وعملية بناء الدستور لا بدّ من أن تأخذ بالحسبان المتغيّرات الداخلية السوريا وتحديداً المتغيّرات الاجتماعية، كمتغيّر أساسي ورئيسي عند إعداد مشروع الدستور. ومرّد ذلك أن البنى التقليدية السوريا من عائلية وعشائرية وغيرها لا بدّ من صهرها دستورياً في بنى مدنية، حتى وإن كان مفهوم المجتمع المدني غبر متبلور حتى الآن. للوصول إلى دستور المواطنة، وليس دستور يؤسّس للطائفية السياسية.

أخيراً فإن عملية الانتقال السياسي ومن ضمنها إعداد الدستور يجب أن تكون مُنتجاً سورياً بامتياز يُشكّل الضمانة الحقيقية لحقوق المواطنين وحرياتهم في إطار التوازن بين ضرورات السلطة وضمانات الحقوق سعياً إلى الوصول إلى مجتمع متعافٍ سياسياً واجتماعياً وتنموياً ويحقّق دولة المواطنة.