سوريا...الموقف الصلب والأفق المُنتظر

المربعات الرمادية التي لعب عليها الكثير من أجل إسقاط سوريا، أضحت ضدهم، وعليهم أن يفكّروا في الآتي فالصورة اليوم واضحة، والخيال الذي كانوا يحكمون به إستراتيجيتهم صار أيضاً من الماضي، لقد أضاعت الولايات المتحدة الأمريكية عقداً كاملاً بحثاً عن ظلال تدخل منها قلب إيران، وسوريا، وحزب الله، و تركت الصين و روسيا تعملان بما يناقض سياستها وتنظران لحالات في عمق المستقبل، لقد ذهب أصحاب الهدم والردم للأرض والبشر أبعد حتى من مقدورهم فتحوّلت اللعبة من حرب من أجل" الديمقراطية" إلى مطالبة بإسقاط الرئيس بشّار الأسد.

سقوط سوريا أمر مستحيل، والذين راهنوا على هذا السقوط وقعوا في الوهم المُسبق
مع بداية الحرب السورية، أكدت، و في مقالات عدّة،(وهي منشورة في أكثر من ثمانين مقالاً) أن سقوط سوريا أمر مستحيل، و أن الذين راهنوا على هذا السقوط وقعوا في الوهم المُسبق، و جلّهم أخطأوا التقدير، و أضاعوا الوقت في حرب وهمية، لا تمسّ إلا الضعفاء  والذين لا دخل لهم في اللعبة السياسية التي تفجرّت الحرب من أجلها . قلت إن الجغرافيا السورية سياستها معقدة إلى حد أن أي افتراض ضدها سيظل خاطئاً، وأن مساءلة الواقع فيها ستظل هي أيضاً مجرد خيال يلامس الواقع البعيد .. نحن حين أكدنا ذلك لم تكن لدينا أذن في أجهزة ما، أو في مواقع صنع القرار، بل كنا ندرس الواقع والوقائع و فق المتغيرات الجديدة  والتي دخل فيها الروسي و الصيني على الخط السياسي الساخن، و لعبت فيها الجغرافيا حيزاً مهماً.إلى جانب التاريخ.


عدم سوء الفهم لأي من الحلفاء ضدها أوقع الجميع في تخبّط  رهيب، بين توظيف الإعلام بشكل سيئ جداً ومقزز  أحياناً، أو توظيف الإرهاب لحل اللغز الذي يحيط هذه الجغرافيا ، الجغرافيا التي أوجدت الأبجدية الأولى للعالم، و سكنها أغلب الأنبياء والرسل، و باركها رسولنا محمّد – صلّى الله عليه و سلّم –  هي بالتأكيد صانعة الحدث في وجه كل متآمر عليها، حتى أن"(هولاكو) احتل أكثر من نصف آسيا ولكنه هزم عند أبواب دمشق كما يؤكّد كيسنجر"  واليوم تتأكد الحقائق أكثر فأكثر، و تتوارى أنظمة متحالفة عليها، الأخرى تلو الأخرى في مشهد سياسي لم يشهده التاريخ من قبل.. البعض سكن الغرف المظلمة في التاريخ والبعض الآخر دخل الثلاجة في انتظار الجديد، و ربما شيئاً من عوج ما من التاريخ يحمي به خطاياه...إذن، نحن أمام مشهد أشبه بمشهد مأساة أوديب في الملحمة الإغريقية البائسة...صحيح نحن أمام تغيير شامل، صنعته سوريا، وعالم جديد، تغيير لصالح القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، بعد أن كرست صناعة الإرهاب كل من أمريكا و دول أوروبا  صوب مواجهة أزماتها الاقتصادية و المالية.


إن المربعات الرمادية التي لعب عليها الكثير من أجل إسقاط سوريا، أضحت ضدهم، وعليهم أن يفكّروا في الآتي فالصورة اليوم واضحة، والخيال الذي كانوا يحكمون به إستراتيجيتهم صار أيضاً من الماضي، لقد أضاعت الولايات المتحدة الأمريكية عقداً كاملاً  بحثاً عن ظلال تدخل منها قلب إيران، وسوريا، وحزب الله، و تركت الصين و روسيا تعملان بما يناقض سياستها وتنظران لحالات في عمق المستقبل، لقد ذهب أصحاب الهدم والردم للأرض والبشر أبعد حتى من مقدورهم فتحوّلت اللعبة من حرب من أجل" الديمقراطية" إلى مطالبة بإسقاط الرئيس بشّار الأسد، وأخيراً إلى المطالبة بالوساطة قصد الخروج  بأدواتهم من سوريا بما تبقى لديهم فيها من أدوات"داعش والنصرة".. صحيح أن التاريخ كتب في هذه الحرب أطناناً من الأخطاء وقعت من طرف ما عرف بأصدقاء سوريا، و صحيح أيضاً أنهم زوّروا الحقائق سياسياً وإعلامياً، لكن الأخطر من ذلك أنهم وقعوا ضحايا ممارساتهم للوهم بجنون في الحفر التاريخية التي لا رحمة لهم فيها بسبب تلك الأخطاء، أمريكا أرادت من هذه الفوضى إرجاع الوطن العربي كله إلى مائة سنة إلى الوراء، لإعادة بناء وترميم سياستها  المنهارة، و حماية مصالحها، و خاصة  حماية إسرائيل التي أظهرت التطوّرات الحاصلة على خط ما يُعرف بخط المقاومة عجزها المطلق، و أنها بالتالي على مشارف الانهيار سواء بدأت هي بالحرب أم ما تنتظره لحظة بلحظة، من حرب عليها. 


في ظروف مثل الظروف الحالية. هذا واضح، وما مصرّح به من طرف أهم الأجهزة الأجنبية و صنّاع القرار في الإدارة الأمريكية والأوروبية أوضح لكن أن تكون الأطراف الأخرى العربية، ضمن هذه الفوضى لأهداف لا يمكن تحقيقها، بل لو وقعت الحرب الشاملة  لكانوا اليوم جميعهم في خبر كان، و بالتأكيد فإن تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن ضرب سوريا لم يكن اعتباطياً آو حباً في سوريا بل لأنها عرفت و تأكدت أن إسرائيل ستكون فيها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ، و هذا ما عرفته إسرائيل   وأحاطت نفسها بالخوف بما أسمته بحرب" الوجود الإسرائيلي"لست هنا أدعي أنني أتكلم من خارج الأحداث بل إنه الواقع الذي صنعته الأحداث.. ثم إن التراجع اليوم لكل أعداء سوريا شبيه بالتواري في أحداثها، و البعض منهم يريد الخروج من عنق الزجاجة التي وجد نفسه فيها بوسائط من أطراف لها صلة ودية بالحكم السوري كالجزائر مثلاً والتي جاءتها وفود سراً لذلك، لكنه يبدو أمراً صعباً لأن واجهة الدم التي تغطي مساحة كبيرة من الجغرافيا السورية لا يمكن تجاوزها في ظروف مثل الظروف الحالية وبوفود ضالعة في مأساتها.


إن المخطط في هذه الحروب -وليست الحرب الواحدة- كان يشمل العالم العربي كله و من دون استثناء و قد خرجت منه الجزائر بحكمة مواقفها وقدرتها على إدارة الصراع بمواقف ثابتة وأضحت اليوم الواجهة السياسية لفك الكثير من الاشتباك السياسي فضلاً عن كونها فهمت الصراع من بداية الأحداث لكونها أيضاً تحتمي بقوة التاريخ و بقوة الأحداث التي عاشتها أيام العشرية السوداء.. وإنني أؤكد هنا على قوة التاريخ، ذلك ما من أمة تسند ظهرها لتاريخها،  وتقوم بتوصيفه توصيفاً حضارياً إلا و تكون في منأى عن الأخطاء . و هذا هو الذي حمى سوريا ... في الجزائر" التقى التاريخ بالجغرافيا فولّد الإنسان" و في سوريا أيضاً التقى التاريخ بالجغرافيا فولدت الأحداث المانعة لأي انشطار أو تأخر على فهم المواجهة وفق ذلك العمق التاريخي ،وهذا -بالتأكيد -ما لم يفهمه الغرب حين حاول مد جرائمه إليها والانقضاض على المنطقة من بوابتها إذ بإسقاطها تسقط المقاومة اللبنانية ثم تليها إيران وهذا مصرّح به من طرف "أنبياء" السعودية الجدُد.


إن المشكلة  اليوم في العالم العربي تكمن في كيفية إعادة ترميم الواقع مما أصابه من أفكار هي خارج منطق الفهم الواعي للأحداث، بل إنها جزء من منطق الفوضى التي خطّطت لها الولايات المتحدة الأمريكية، إن الفكر الذي يؤمن بالدم و تحت يافطة الإسلام هو جزء من تلك "الفوضى الخلاقة" بالتأكيد، التي بشرّت بها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "كوندوليزا رايس".. وحين يصير هذا الفكر القوة التي لا يطفئها الحوار ولا يلتزم أطرافها بأدنى حد من الفهم للأحداث فيه، والمسيّرون له من خلف الستار، يصير الوضع الداخلي لأية دولة عربية قابلاً للاشتعال في أية لحظة.. أكيد نحن أمام ظواهر فكرية بائسة لا تستند لا للعقل الإنساني ولا للعقل الديني، بل الخروج الكلي عن منعطف الأحداث والخلفيات بل   والمنطق الذي يحكمها.


إن ثقافة العصر هي ثقافة الفهم المسبق لما يطبخ في الخفاء، و الموقف منها بموقف سياسي ذي نزعة فكرية تستوعب كل الآليات التي ينطلق منها، أو بأخذها كطريق لنشر أبجدياته، فهل من المنطق قتل الأنفس تحت راية "لا إله إلا الله"   ومن أجل إسقاط دول وشعوب من الواجهة الحضارية..؟  إن القتل حتى خطأ مرفوض دينياً، بل إنه من أخطر الظواهر الأشد جرماً التي تلامس وجدان أي منا، ثم هل من المبدأ (أي مبدأ) البحث عن الحقيقة (أية حقيقة ) بما يناقضها أو بما يجرحها و يحيل الواقع فيها إلى لعبة هي أشبه بلعبة الأسود على فرائسها هو منطق صائب ..؟ أجل نحن نعيش مع هذا المنهج ألظلامي أسوأ أزمة و أسوا أحداث و ربما تعيد أذهاننا إلى تلك الفترة المظلمة من تاريخنا في مواجهتنا مع الاستعمار .. لقد تورّطت مع الأسف في هذا المنهج دول وحكومات بعضها يدّعي حماية الإسلام وبعضها يدّعي الديمقراطية بثوب إسلامي، و هم اليوم كشاهد القبر أمام ذلك الارتماء في المجهول، وربما الظلامية الفكرية التي ترفضها حتى الوثنية، فضلاً عن الجاهلية الأولى. إن نظرتهم للواقع السوري من ثقوب الخراب ومحاولة  إعادة صوغه من خلال الأفكار الفوقية ومن خارج واقعه إعادة لا يمكن أن توصل إلى نتائج، إلا في حال واحدة ، في حال سقوط الدولة  السورية وهذا أمر مستحيل ،  فالأغراض الإستراتيجية التي تقوم عليها رؤيتهم ولمصالح آنية لا صلة لها بالمنطق، بل حتى الافتراضات التي يحاولون رسمها لها لا يمكن أن تصل إليها، إن الذين ظلوا يلعبون على الأقانيم الثلاثة (الحرب السرية ، الحرب النفسية، الحرب الاقتصادية) هم ظلوا يلعبون على الوهم، وعليهم أن يتخلصوا من مبدأ التواري في الأخطاء   كما عليهم أن يتخلصوا من استعباد شعوبهم ولا وخاصة تلك الشعوب التي لها جذور في الحضارة وفي التاريخ، والمطلوب أن يفقهوا جيداً وعي التاريخ ويأخذون من سياقاته أهم التوصيفات للانطلاق نحو الارتباط بالواقع والأخذ بالظروف المتاحة فيه  لبناء ما أمكن من جدار الواقع الجديد، والنّسيج الاجتماعي المطلوب بدل الارتباط بالظنون لواقع غير واقعهم ...ثم إن المسؤولية الأخلاقية تجاه الرأي الآخر حتى خارج الأديان هي أحدى المكوّنات الأساسية للذات البشرية، والخروج عنها يعني – بالتأكيد- عصيان الواقع و تمطيطه إلى ما يشبه النعل الذي يلبسه الإنسان ثم يرميه متى شاء.