فتح الشام وأميركا.. قطب مخفية وأبعاد مفصلية

في الثامن والعشرين من أيلول من العام 2014، وقف رئيس هيئة الأركان الأميركية السابق الجنرال مارتن ديمبسي إلى جانب وزير دفاعه تشاك هاغل آنذاك معلنا أنه لا بد من تشكيل هيئة عسكرية وسياسية موحدة لجميع فصائل المعارضة السورية، وذلك كان في معرض حديثه عن الخطة الأميركية لتجنيد خمسة عشر ألف مقاتل من فصائل المعارضة المعتدلة، وذلك لملء فراغ الدواعش في أعقاب تشكيل التحالف الأميركي لمحاربة الإرهاب في حينه.. إلا أن هذا المشروع - و لغاية الآن - لم يكتب له النجاح.

جبهة النصرة.. هل تغيير الاسم يغير السلوك ؟!!!

محطة مفصلية وخيط رفيع :

وفي ربيع العام الماضي اجتاحت جحافل ما يسمى بجيش الفتح، بنواته المركزية (جبهة النصرة)، مدينة إدلب السورية، وسرعان ما خرجت جغرافيا هذه الأخيرة وبشكل شبه كامل عن سيطرة الدولة السورية، وهذا ما فتح شهية ما يسمى بالحكومة السورية المؤقتة آنذاك بالمطالبة بضرورة بسط سيطرتها الإدارية على تلك المحافظة، والذي سرعان ما قوبل برفضٍ شديد من جبهة النصرة… معللة ذلك بأن الحكم لمن يفتح الأرض، وليس لأحدٍ سواه .

لابدّ من التذكير، بأن تحالف روسيا مع محور الممانعة قد عمل منذ نهاية أيلول/ سبتمبر الماضي على قلب عقيدتي أميركا وداعش على حد سواء، فالأولى تحولت قسراً من الاستثمار بالإرهاب - ولعشرات من السنين كما كان يردد أوباما -، إلى المشاركة في وراثة الإرهاب، وخصوصاً الداعشي منه، وهذا ما اعترف به مواربة جون كيري في معرض نصحه لممثلي الهيئة العليا للتفاوض، بضرورة المشاركة في فعاليات مؤتمر جنيڤ الثالث، وإلا  فإن أمام روسيا ثلاثة أشهر لإكمال المهمة في كامل الجغرافيا السورية، لتكون الترجمة الميدانية له بضرورة اقتسام الكعكة الجغرافية المنتزعة من الإرهابيين  جنبا إلى جنب مع روسيا وحلفائها، وهذا تحول قسري في عقيدة أميركا، والذي كان من نتائجه المباشرة، تحول تلقائي في عقيدة داعش، بالإنتقال من التمكين الجغرافي - المتماهي مع عقيدة أميركا الأولى، إلى التقعيد مجدداً، والعودة إلى فلسفة الجهاد العالمي، كانتقامٍ بديهي من تبديل العقيدة الأميركية، وخصوصا أن داعش سرعان ما اكتشفت بأنها كانت - بعلم  أو من دونه - تمثل الزوج المخدوع، لما يقرب من سنتين من عمرها الدولتي.

بخلاف داعش، فإن جبهة النصرة وطوال سني عمرها الذي ناهز الخمس من السنوات، فإنها لم تقدم على إقامة ما يسمى بالخلافة أو الإمارة أو حتى الدولة، وذلك التزاماً منها بمنهاج القاعدة - الأم في تقديم الجهاد العالمي على الحكم، وذلك على الرغم من أن هذه الجبهة  لم تمارس ذاك الإعتقاد، باستثناء أحد أذرعها، المسمى بتنظيم خرسان، والذي عملت أميركا على استهداف رموزه وقادته ..

إذا هناك خيط رفيع ميز النصرة عن القاعدة، عمل على تجنيبها الاستهداف الأميركي المباشر، وهذا الخيط نفسه هو الذي ربط النصرة بالقاعدة، وعمل على إدراجها على لائحة الأمم المتحدة للمنظمات الإرهابية، وهو نفسه أيضا - ومن خلال تعليق العمل به مؤخراً - قد لا يمنحها الأمان الذي ترتأيه لنفسها، في زمن قلب العقائد هذا ..إلا  إذا.

ولعله من السذاجة والبساطة في آنٍ معاً، الإعتقاد بأن مشغلي النصرة وداعميها، قد التبس عليهم الأمر، معتقدين بأن عملية خلع النصرة لثوبها القاعدي - ولو شكلاً، سيشكل درعا واقية لها من الاستهداف الروسي أو السوري، وهذا ما أشارت إليه التصريحات الصادرة عن هؤلاء بعيد ذاك الإنسلاخ، وحتى أن بعض المسؤولين العسكريين الأميركيين - والممتنعين حتى الأمس القريب عن استهداف النصرة - ألمحوا إلى أن ذلك لا يكفي للإمتناع عن استهداف هذه الجبهة الجديدة، هذا لو استثنينا حديث المتحدث باسم وزراة الخارجية الأميركية جون كيربي بأننا سنحكم على سلوكها وأهدافها وعقيدتها.

صحيح أن تصريح جو فوتيل، قائد القيادة الوسطى للقوات الأميركية جاء بلغة عسكرية جازمة، إلا أن ذلك لا يمكن الركون إليه والتعويل عليه حول حقيقة الموقف الأميركي الفعلي من هذا الإعلان - الحدث، وخصوصاً أن هناك كباراً من القادة العسكريين الأميركيين كانوا قد نادوا مراراً بجعل النصرة ركناً أساسياً في الحرب على داعش (تصريح ديفيد باترايوس في سبتمبر الماضي، الرئيس السابق للإستخبارات الأميركية).

تطورات ميدانية استراتيجية :

لم يعد خافياً على أحدٍ بأن أميركا وتحالفها في سوريا، لا زالو يتخبطون -ولغاية يومهم هذا - في تحديد وتمييز الكتلة العسكرية الصافية والوازنة في الميدان السوري والتي توصف بالمعتدلة، ودليلنا على ذلك، فهي - أي أميركا - لا تزال حتى الأمس القريب تحشر جبهة النصرة الإرهابية  ضمن الخرائط الخضراء، والتي يحظر قصفها  بحسب القرار الدولي 2268، والمتعلق بوقف العمليات العدائية، وذلك في كل مطالبة روسية بالإلتزام بخريطة طريق فصل الجماعات المعتدلة عنها. والسبب أصبح واضحاً، وهو يدلل على مدى الهلع الأميركي على تلك الجماعات العسكرية، والتي ستصبح هزيلة من دون عمودها الفقري، وبالتالي فإن إطلاق الآلة العسكرية الروسية متكاملة مع باقي الحلفاء، وبالإشتراك أو حتى بالرضى الأميركي عن بعد لإستهداف النصرة، سيؤدي حتما إلى كسبٍ أحادي لصالح روسيا وشركائها، ومرد ذلك  فإن هكذا قبول أميركي  سيؤدي إلى تطورات ميدانية مفصلية، فإما أن النصرة ستبتلع قسرا أو رضاء الكثير من الفصائل، وهذا سيفقد أميركا الكثر من تلك الجماعات التي تصنفها في خانة الإعتدال، مما ستتعزز شرعية الإنقضاض لتحالف روسيا عليهم، وسيكون كسب الجغرافيا - الممنوعة والمقيدة في القرار 2268 في جغرافيات الإعتدال والجيش السوري على حد سواء - لصالح هذا التحالف يتوافق مع أحكام ذاك القرار… وهذه النتيجة خسارة فادحة لمشروع أميركا لسوريا الجديدة.

هذا في مجمل المشهد الميداني العام في سوريا، ولكن بالأمس البعيد والقريب، حصل تطوران ميدانيان في سوريا، مع تطور آخر سبقهما في الميدان العراقي، ففي هذا الأخير حدث تحرير مدينة الرطبة العراقية في أقصى غرب الأنبار، ومن ثم تحرير الفلوجة، وعندما لاحت تباشير اكتمال تحرير هذه المحافظة من داعش، حتى آخر مدينة فيها على الحدود مع سوريا (القائم)، وما حكي عن امتعاض أميركي لما حدث، حتى تحرك ما يسمى بجيش سوريا الجديد من معبر التنف الحدودي والواقع على كتف مدينة الرطبة العراقية، وصولاً حتى البوكمال السورية والمواجهة للقائم العراقية، وكانت الخسارة الفادحة لهذا الجيش على أيدي تنظيم داعش، وذلك على الرغم من الرعاية الأميركية والغربية وحتى بعض العربية له… إنها معضلة أميركا السرمدية في الإتكاء على الكتلة الوازنة من المعتدلين لتحرير الجغرافيا من داعش أو حتى مسكها، فضلاً عن الإحتفاظ بها.

تطور ميداني آخر، حدث في سوريا وتحديداً في حلب، والتي اكتمل طوقها، وانتهت مشاريع الاستثمار الكبرى فيها، على حساب الدولة الوطنية في سوريا، وأهم هذه المشاريع ما كنا حذرنا منه منذ حوالى العامين، وذلك عندما كتبنا حوله في مقالة (العزم التام ومشروع استبدال الدولة الوطنية من الشمال.. حذار حذار. (نشرت بتاريخ 20-10-2014).

سواء حوصر مسلحو حلب أو حتى خرجوا منها، فالمسألة منتهية، ولذلك  فإن ما بقي من جغرافيا سورية مهددة للدولة السورية سيكون في محافظة إدلب، والتي يسيطر عليها ما يسمى بجيش الفتح، بعموده الفقري ( النصرة سابقا).

أبعاد مفصلية ثلاثة :

مسلحون من المعارضة السورية
بالعودة إلى تصريح جون كيربي حول انسلاخ النصرة عن القاعدة، والحكم على أهدافها  وسلوكها وعقيدتها، وبالعودة إلى هذه البراغماتية التي حلت على هذه الجبهة الإرهابية، فإن ما تفكر به هذه الأخيرة تحت غطاء ومظلة رعاتها الإقليميين، والمظللين بالعباءة الأميركية، فإن هذا التحول إلى جبهة فتح الشام، لابدّ من أن يرصد في أبعادٍ ثلاثة: السلوكي الميداني، العقيدي النظري وحتى السياسي.

 - في البعد الأول، فإن محافظة إدلب ستكون الفيصل لتقييم البراغماتية السلوكية لجبهة النصرة بنسختها المطورة، ومدى اقترابها من غيرها من الفصائل الأخرى، والتي بدأ البعض منها  يمارس الغنج والدلال على دعوتها للتوحد، ويطالبها بالمزيد (جيش الإسلام)، وبعضها الآخر ما زال ملتزما الصمت (أحرار الشام)، وعليه فإن التطورات الميدانية في الساحة الإدلبية تحديدا ستكون ميزانا ً لهذه الجبهة، لمن في الخارج  قبل أن تكون لمن هو في الداخل.. وهذا بحد ذاته سيؤشر إلى مسار التطورات العسكرية اللاحقة في إدلب تحديداً، إن تحييداً أو استهدافاً… وعليه فإن أولى القطب ستنفك عن هذا التحول النصراوي .

-  في البعد الثاني، فإنه وعلى الرغم من إضفاء الصبغة الإسلامية المتشددة على طريقة إخراج هذا التحول، أو حتى تلك الوثيقة - المنهج التي أخرجهتا هذه الجبهة بالأمس، والتي تتناقض كلياً مع علمانية الدولة السورية، والمتفق عليها أممياً، إلا أن ذلك التوجه  لن يكون السبب الرئيس في جعلها موضع الاستهداف التلقائي، فهي لم تستهدف عندما كانت رسمياً فرعاً للقاعدة، وذلك بمجرد تعليقها العمل بما تؤمن به لناحية الجهاد العالمي، وذلك أثناء انشغالها في الداخل السوري، فالإعتقاد النظري لدى أميركا لم يمنع من فرض الحماية ضمن القرار 2268، على جماعات جيش الإسلام وأحرار الشام والزنكي وغيرها من حاملي المعتقد الإسلامي الأصولي المشابه، إضافة إلى أن البند السادس من ميثاق هذه الجبهة، يتحدث حول الدعوة إلى تحكيم شرع الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

القادم من الأيام سيحمل الإجابة على مدى التحول العقيدي البراغماتي عند هذه الجبهة..

 في البعد الثالث: لا شك أن خريطة طريق التفاوض السياسي للبحث عن حلولٍ للأزمة السورية بمحطات جنيف ستنطلق عاجلاً  أم آجلاً.. من هنا فإن هذه الجبهة المتحولة، ستكون أمام اختبار الموقف من ذاك التفاوض، وبناء على مدى البراغماتية التي ستظهرها في هذا الجانب، سيتحدد مدى التفاعل الخارجي أو حتى الداخلي معها، وتحديداً من قِبل الفصائل المشاركة في هذا المسار السياسي، ولعل أسلوب التعاطي سيكون الفيصل هنا، فالإشتراك المستبعد له مفاعيله الداخلية على هذه الجبهة، وكذا مدى سعة الرفض، وآليات ترجمته الميدانية  سيكون محط الأنظار أيضاً، وذلك ليبنى على الشيء مقتضاه .

بخلاصة الحديث، فإن هذا الإنسلاخ الذي قامت به جبهة النصرة وكيفية ترجمته ميدانياً وعقيدياً وحتى سياسياً، سيزيح الستارة عن الكثير من القطب المخفية وراء ذلك، وبالتالي فهل هذا الذي حدث  لهو مقدمة لرفد المعتدلين؟ أو حتى الدواعش؟ أم الإثنين معاً؟ أم أن حماية جغرافيا الجماعات المسلحة من الكسب الجغرافي لصالح روسيا وتحالفها قبيل الاتفاق النهائي مع أميركا، لهو السبب الرئيس لذلك؟

الأيام كفيلة بالإجابة.