عن نبتة القلب التي تذوي

أنت فعلت ذلك لشعورك بالألم. ألم يستحيل على هيئة قبضة يد ضخمة تمسك بالقلب وتعمل فيه اعتصاراً. اعتصار تشعر معه أن قلبك أضعف بكثير من مقارعة تلك القبضة الهائلة، وأنها على شفير أن تطحنه. لكنك، وأنت في حمأة هذا الشعور، تعمد إلى ذرف الدمع. ومضة وحيدة تتخلل حشوة القلب، تحدثك أن الخلاص في الدمع. جناحاك. معبراك إلى ألم سيتذرر ما أن تمسح وجنتيك.

ستتوقف عن تتحسس قلبك، وسترنو إلى تلك الراحات مفتوحة لأنها تستعد لحمل الهواء، كما لو أن أصحابها مترفون غارقون في السعادة
هل حدث وأن تحسست جدار قلبك مرة؟ أن رفعت يدك بأصابع متباعدة، ثم هبطت بها فوق تلك البقعة التي تحت الجلد؟ من المؤكد أنك فعلت. ستتذكر وأنت تقرأ هذه السطور أن هذا حصل لمرة أو مرتين وربما أكثر، لكنه في كل مرة كان يصير لبرهة. سواء كنت مطروحاً في سريرك أو جالساً في السيارة أو وافقاً عند ناصية شارع مزدحم. على أي حال، لا يحتاج الامر كثيراً من الوقت. هو وقت وجيز جداً يشبه نسمة عابرة، تطمئن فيها أن القلب لا يزال في مكانه. وأن خوفك من النبض الذي لا تشعر به موازياً في الرأس، ربما يلزمه وقت ليتدفق خارجاً من جداول القلب.

أنت فعلت ذلك لشعورك بالألم. ألم يستحيل على هيئة قبضة يد ضخمة تمسك بالقلب وتعمل فيه اعتصاراً. اعتصار تشعر معه أن قلبك أضعف بكثير من مقارعة تلك القبضة الهائلة، وأنها على شفير أن تطحنه. لكنك، وأنت في حمأة هذا الشعور، تعمد إلى ذرف الدمع. ومضة وحيدة تتخلل حشوة القلب، تحدثك أن الخلاص في الدمع. جناحاك. معبراك إلى ألم سيتذرر ما أن تمسح وجنتيك.

فيما أنت جالس مطبقاً جفونك، بعد تعب نهار طويل، ستحدث نفسك بصوت خافت أنك بالأمس كنت غيرك. قبل سنة أو سنتين من الآن. تقول أمساً لأنك تفتعل، على جري عادتك، أن تكوّم أيام السنة مثل صرّة، حتى تستحيل يوماً بتفاصيل كثيرة. يوم واحد تنتشله من قعر الاشهر الرتيبة، ثم تمنحه المعنى. تفعل هذا فيما تتذكر كيف كنت تشرد رانياً بمقلتين مترقبتين، إلى عقارب الساعة التي تنهش الوقت الفار من بين أهدابك، ثم تزفر أنفاساً طويلة متتابعة.

بالأمس كنت غيرك. لن تكون ما كنته البارحة. هذا كان قرارك. سعيت لأن تكون أكثر قدرة على صدّ الألم. لم ترد أن تبتلع الألم ثم تصرّفه. ما فعلته كان أسهل من هذا. غالباً ما تختار أيسر الخطى إلى أي سبيل في هذه الدنيا البائسة. ولذلك فقد ارتأيت أن تشيّد جداراً ثم مضيت به سوراً حول القلب. سياج سميك. سور متين يكفي لأن يرتطم به كل ما يجود به الجياع والمتألمون من صراخ، ثم يرتدّ في وجوههم. جدار يجنبك أن تظل ترفع يدك إلى قلبك لأنك لم تستطع رد أصواتهم التي تنسل إلى أمديته وتستقر. هكذا تنظر إلى راحات المتسولين المفتوحة أمامك، ثم تكذب على نفسك، لتراها في صورة أخرى. تقرر في تلك البرهة من الوقت أنك ستتوقف عن تتحسس قلبك، وسترنو إلى تلك الراحات مفتوحة لأنها تستعد لحمل الهواء، كما لو أن أصحابها مترفون غارقون في السعادة. هكذا أيضاً، ستستحيل عيون الاطفال أمامك مرايا بكماء، تحدق إليك ولا تجد بداً من إشاحة وجهك. على العكس، سيظل رأسك ثابتاً وستنظر إليها بعينين واسعتين وتعتزم أنك لن ترى فيها شيئاً يستدعي رفة عين أو زمّ شفتين أو عبّ هواء. ستسير وشيء من السرور يعتمل في صدرك من أنك أصبحت قوياً بما يكفي. سيرتفع حاجباك وتمطّ شفتيك تعجباً.

ستمضي إلى بيتك وتشاهد التلفاز، هذا الذي تعرف مسبقاً أنه يعج بأخبار الدم المسفوك بلا طائل. سترى خرائب الديار والاعمار أمامك ولن تشعر بشيء. ستقول في نفسك "لقد اعتدت كل هذا!"، وتدري أي وحش ينمو في داخلك. وحش لن يكون له أدنى قدرة على القتل بيده، لكنه كذلك لأنه لا يصرخ لمشهد قتل أو ذبح أو سبي أو اغتصاب. لكن كل هذا لن يمنعك من الخوف. خوف من أن ينهار جدار قلبك فجأة. لأنك عندها، عندها فحسب، تعلم أنك ستتجرع كل رجع صدى ذلك الصراخ الذي توهمته تكسر. ستتوجع كثيراً لأنك لم تولد مثل أولئك، أولاد الــ ....، الذين خلقوا بلا نبتة الشعور في القلب. أولئك الذين يعيشون طويلاً ولا يصيبهم مكروه أبداً. أولئك الذين غالباً ما يقررون مصائر البشر. يجلسون خلف مكاتبهم ويرسمون شكل حياة هذا العالم، الذي ننوء بثقله. ستتألم لأنك لست مثلهم. ستتألم أكثر لأن الوقت طال بك كثيراً حتى نزعت من قلبك تلك النبتة الإلهية.