في الطريق إلى سوتشي أشباح أتاتورك التي تُطارِد أردوغان

مع تركيا العدالة والتنمية، ومع روسيا بوتين، وبسبب الصعود الروسي كقوة عُظمى من جديد، دخلت العلاقة في طور جديد، أقل توتّراً من أجواء الحرب الباردة، وأكثر ردعاً لتركيا من حقبة روسيا يلتسين. دخلت العلاقة في طور من الوحدة والصراع، التبادل الاقتصادي ازداد بتسارُع -بما فيها تبادلات "الحقيبة" غير المسجلة-. جرى التفاهم على اعتبار البحر الأسود منطقة نفوذ خاصة بالدولتين، وليس بالناتو، مع الإشارة إلى أزمة سفن الناتو التي مرّرتها تركيا وأجبرتها روسيا على المغادرة. تم الحديث عن خط الغاز الجنوبي، والذي تستفيد منه تركيا كناقل للغاز الروسي إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه تحاورت روسيا مع بلغاريا واليونان كخطة بديلة.

مع تركيا العدالة والتنمية، ومع روسيا بوتين، وبسبب الصعود الروسي كقوة عُظمى من جديد، دخلت العلاقة في طور جديد، أقل توتّراً من أجواء الحرب الباردة

لم تكن العلاقة التاريخية بين الأتراك والروس، منذ عهد الدولة العثمانية والقيصرية الروسية في حال حسنة، فقد تحاربت الامبراطوريتان أكثر من عشر مرات على مدار أربعة قرون، كانت آخرها حرب 1878م في البلقان،  في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، الأيقونة المفضّلة في أدبيات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان. وكانت آخرها أيضاً الحرب العالمية الأولى، مع اضمحلال وهبوط الامبراطوريتين وتلاشيهما؛ فالرجل المريض تهاوى أمام هيمنة الغرب، والقيصرية الروسية سقطت على يد الثورة البلشفية في الداخل.

بعد انهيار القيصرية الروسية انسحبت روسيا البلشفية من الحرب، وحُسِمت الحرب لصالح الحلفاء، وطالب الغرب أتاتورك بتسريح القوة المُتبقية في الأناضول ضمن شروط الهدنة، وكانت مآلات الحرب تودي بالدولة التركية الناشئة إلى مساحة أصغر مما نعرفها اليوم. استمرار أتاتورك في القتال، والدعم المباشر من روسيا فلاديمير لينين هو الذي شكّل الجغرافيا الأوسع للدولة التركية، والتي يترأسها أردوغان اليوم !

خيِّم الهدوء النسبي على العلاقة بين الطرفين طيلة الفترة بين الحربين العالميتين. بعد وفاة أتاتورك واندلاع الحرب العالمية الثانية، وظهور الاتحاد السوفياتي كقوة عُظمى في العالم، وولادة عصر الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، انضمّت تركيا إلى حلف الناتو عام 1952م، ووسّعت قواعده فيها على يد عدنان مندريس، الأيقونة الثانية في أدبيات أردوغان، وبذلك أصبحت تركيا الذراع الغربية لاحتواء تمدّد الروس.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم ينخفض منسوب التوتّر بين الدولتين؛ تركيا وروسيا الاتحادية هذه المرة؛ أسّست تركيا مؤسّسة تيكا، وتجمع الدول الناطقة باللغة التركية في محاولة لتعزيز النموذج التركي في القوقاز وآسيا الوسطى وإضعاف النفوذ الروسي هناك. فرضت تركيا قيوداً على حرية الملاحة في البحر الأسود، ولم يكن أمام روسيا حينها إلا اللجوء إلى الهيئات الدولية التي لم تنصفها بسبب الدعم الغربي لتركيا. انتقدت تركيا روسيا في المعارك ضد الشيشان وخرجت تظاهرات موالية للشيشان في المدن والقرى التركية. دعمت تركيا أذربيجان، في حين دعمت روسيا أرمينيا في ناغورني كاراباخ. عارضت روسيا تدخّل الناتو في يوغسلافيا حين دعمته تركيا. أيّدت تركيا توسيع نفوذ الناتو في شرق أوروبا حين أثار ذلك قلق روسيا.    

مع تركيا العدالة والتنمية، ومع روسيا بوتين، وبسبب الصعود الروسي كقوة عُظمى من جديد، دخلت العلاقة في طور جديد، أقل توتّراً من أجواء الحرب الباردة، وأكثر ردعاً لتركيا من حقبة روسيا يلتسين. دخلت العلاقة في طور من الوحدة والصراع، التبادل الاقتصادي ازداد بتسارُع -بما فيها تبادلات "الحقيبة" غير المسجلة-. جرى التفاهم على اعتبار البحر الأسود منطقة نفوذ خاصة بالدولتين، وليس بالناتو، مع الإشارة إلى أزمة سفن الناتو التي مرّرتها تركيا وأجبرتها روسيا على المغادرة.  تم الحديث عن خط الغاز الجنوبي، والذي تستفيد منه تركيا كناقل للغاز الروسي إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه تحاورت روسيا مع بلغاريا واليونان كخطة بديلة. عام 2001م وتحت إشراف جورج دبليو بوش وقّعت تركيا مع أذربيجان وجورجيا اتفاقية لمد خط نفط باكو –تبليسي – جيهان، ما أثار مخاوف الروس من كسر نفوذهم في مجالات توزيع الطاقة، وبالذات مع خصمهم الجورجي آنذاك. 

لحقت بكل ذلك الأزمة السورية، ودعا أردوغان  الرئيس السوري بشّار الأسد للتنحي، ودعم المجموعات المسلّحة، وأسقط طائرة روسية تسبّبت في أزمة كبيرة مع روسيا. رعت تركيا مؤتمر "أصدقاء" سوريا، وطالبت الغرب بنشر صواريخ باتريوت على الحدود مع سوريا، ونشر محطة رادار تركية لتعقّب الصواريخ البالستية.

الأزمة السورية الآن في طريقها إلى الحل، وداعش تلفظ أنفاسها الأخيرة، لم يغنم الأتراك بالموصل أو بقطعة من شمال سوريا،، تماماً كما لم يظفروا بأي نفوذ إضافي في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. تهديدات الكرد تطارد الأتراك اليوم أكثر من العراق وسوريا. كل وعود الغرب بتركيا أوسع وأكثر أمناً ذابت مجدّداً كتمثال ملح !

الحياد في سوريا وآسيا الوسطى والبحر الأسود وأن تخفّف تركيا من شهيّتها المُفرطة في الشرق قد تكون الوصفة الأنسب للوصول إلى علاقة معقولة مع الروس - وإن لم تكن تعني تأكيداً على طلاق  الناتو- ولربما تكون جائزتها حصّة مُرضية من شبكة خطوط الغاز.

في طريقه إلى سوتشي، هل قلّب أردوغان دفاتر الماضي، وفكّر كيف يمكن أن يجعل التاريخ المُتخَم بالخلافات أكثر رشاقة؟

هل يستيقظ مُبكراً على أشباح أتاتورك : " قبل فوت الأوان،، اقترب من الروس أكثر" ؟