كوبا واليسار اللاتيني الذي يغيب ويعود!

خاض اليسار الجديد في أميركا اللاتينية تجربته الخاصة من دون شرطين مهمين أحاطا بالثورة الكوبية؛ لا كوميكون ، ولا فسحة وقت تنقل الثورة تماماً من النظام إلى المجتمع؛ ما يعني أن هذه الأنظمة مضطرة للدخول في شروط اللعبة التي خرجت منها كوبا ما يقارب ثلاثة عقود، وهذا أيضاً ما يجعلها عُرضة للأزمات والضغوطات الأميركية من وقت لآخر، كحصار صادراتها من المواد الخام، وتصنيع التضخّم في أسواقها عبر حجْب البضائع عن شبكات التوزيع، الأمر الذي يصنع معه أيضاً الاحتجاجات والتظاهرات والمعارضة.

المختلف في التجربة الكوبية عن بقية الأنظمة في القارة اللاتينية أنها تحرّكت منذ البداية خارج شروط اللعبة الأميركية

بعد عام على رحيل كاسترو، لا يمكن اختصار الحديث عنه في كوبا؛ فهنالك حصّة منه للقارة اللاتينية، وأخرى للشرق وفلسطين، وثالثة لتيارات المقاومة في كل العالم. ولكننا هنا نتحدّث عن حصّة واحدة فقط؛ كوبا والقارة اللاتينية بعده..

صحيح أن كوبا هي الدولة الوحيدة في القارة اللاتينية ، التي صمد نظامها المُعادي للسياسة الأميركية منذ عام 1956م في وجه الهجمات المتتالية للكاوبوي الشمالي، وصحيح أن الكثير من الأنظمة التي عادت الولايات المتحدة الأميركية في القارة اللاتينية قد تبدّلت، سواء كان عداؤها من منطلقات الأيديولولوجيا العميقة مثل السلفادور الليندي في تشيلي، أو من منطلقات المبادئ الوطنية البسيطة مثل عمر توريخوس في بنما، إلا أن كوبا نفسها تعرّضت طيلة عقود لحصار وتهديدات جدّية، وتعاملت معها – على خلاف ما تروّج الصحافة العالمية – بمرونة وذكاء، متّبعة في ذلك منطق سيقان البامبو؛ تنحني للعاصفة وتهتزّ ولكنها لا تنكسر.

المختلف في التجرية الكوبية عن بقية الأنظمة في القارة اللاتينية، أنها تحرّكت منذ البداية خارج شروط اللعبة الأميركية، لا أسعار صَرْف ولا دولار ولا شركات تسيطر على الاقتصاد ولا خصخصة ولا صناديق اقتراع بالمعنى الُمتعارف عليه، ولا جيش وأجهزة أمن بالشكل الكلاسيكي (ويمكن ملاحظة ذلك في مراسم جنازة كاسترو، شعبه على مقربة من جثمانه ومن رؤساء دول صديقة من دون تشديدات أمنية ملحوظة).

منذ انتصار الثورة إلى تخوم الانهيار العالمي الكبير في المنظومة الاشتراكية، وكوبا تعتمد في 85% من وارداتها على منظمة الكوميكون التي ضمّت دول المنظومة الاشتراكية من الاتحاد السوفياتي إلى تشيكوسلوفاكيا وهنغاريا وبلغاريا وفيتنام وغيرها، وتعتمد في الداخل على إنتاج ما يمكن إنتاجه، ومن ذلك التراكتورات الزراعية، والاهتمام بالأدوية وتقنيات الزراعة. أكثر من ربع قرن من الحركة خارج شروط اللعبة الأميركية، وهذا بالتحديد ما أسعف فيديل أن تتجاوز ثورته حدود بناء نظام مستقل إلى بناء منظومة شعبية، أي بناء مجتمع مقاوِم، بوعي شعبي مختلف.

هذا الوعي المتراكم هو الذي شكّل منظومة الصبر المجتمعي والعام في كوبا عندما اختنقت في التسعينات، وانهارت المنظومة التي زوّدتها بأغلب احتياجاتها؛ اهتزّت كوبا، واحتاجت للعملة الصعبة كي تستورد، وتداولت داخلياً بالدولار للمرة الأولى منذ الثورة عام 1993م، وفتحت الباب بحذر للاستثمار من دون الاستغناء عن القطاعات الأكثر حيوية للدولة.

مع عدم مساس الدولة بقوانين العمل وبرامج الرعاية الاجتماعية، ومع رصيد الوعي الشعبي المتراكم، صمدت كوبا إلى حين وصول اليسار إلى القارة، بقيادة هوغو تشافيز من كاراكاس، ما أحيا شبكات اعتماد متبادل في الاقتصاد من جديد.

خاض اليسار الجديد في أميركا اللاتينية تجربته الخاصة من دون شرطين مهمين أحاطا بالثورة الكوبية؛ لا كوميكون ، ولا فسحة وقت تنقل الثورة  تماماً من النظام إلى المجتمع؛ ما يعني أن هذه الأنظمة مضطرة للدخول في شروط اللعبة التي خرجت منها كوبا ما يقارب ثلاثة عقود، وهذا أيضاً ما يجعلها عُرضة للأزمات والضغوطات الأميركية من وقت لآخر، كحصار صادراتها من المواد الخام، وتصنيع التضخّم في أسواقها عبر حجْب البضائع عن شبكات التوزيع، الأمر الذي يصنع معه أيضاً الاحتجاجات والتظاهرات والمعارضة.

في فنزويلا خسر البوليفاريون في الانتخابات البرلمانية بسبب أسعار النفط والتلاعُب بالأسواق. في الأرجنتين انتصر رجل الأعمال الليبرالي ماكري على حساب ممثلة اليسار كريستينا فرنانديز، مع أن ماكري هو التعبير الأكثر فظاظة عن الحقبة التي أدخلت الأرجنيتن بوحل الديون والفقر المدقع. في الأكوادور كان انتصار لينين مورينو صعباً وشاقاً. في البرازيل ضجّت البلاد بالتظاهرات والاحتجاجات مع هجوم ضار على ديلما روسيف، وبذلك انتقلت البرازيل من يسار الوسط إلى اليمين. كل ذلك حدث قبل وفاة فيديل كاسترو بقليل!  

في العالم تنوّعت الحالات التي واجهت المشروع الاستعماري الحديث للولايات المتحدة الأميركية، فعندما يُعادي الشرق الولايات المتحدة تبرز نماذج قومية مثل عبدالناصر، إو إسلامية مثل حزب الله، وعندما تُعاديها أوروبا تنتصر المبادرات اليسارية بطابعها الإصلاحي الأوروبي، أما عندما تُعاديها القارة اللاتينية، فينتصر اليسار الثوري الشعبي. وهذا الأخير لا يُكتب له الاستمرار طويلاً من دون شروط الثورة الكوبية؛ نسخة -  ولو مصغّرة - من الكوميكون، وفسحة من الوقت تنقل الثورة تماماً من السلطة إلى المجتمع، والاعتماد على الداخل بدلاً من الاستثمار الخارجي قدر الإمكان.

أخبار تبدّل اليمين باليسار واليسار باليمين ليست جديدة على فيديل كاسترو، وكان الرجل متفائلاً دائماً بعودة اليسار مع كل خسارة يتعرّض لها؛ ولكن ذرّات جسده المنثورة في هواء هافانا ربما تصفر في الريح، رسالة للمحور الصاعد في العالم لمواجهة الولايات المتحدة: "كوبا والقارة اللاتينية تحتاج الآن القليل من النجدة"..