الحديدة: خسارة المعركة من أجل البقاء

اللجنة الفرعية للصليب الأحمر الدولي في الحديدة تدقّ ناقوس الخطر عبر "الميادين نت" وتقول إن سكان الحديدة وملايين اليمنيين يخوضون اليوم معركة من أجل البقاء موثّقة المعاناة التي يعيشها اليمنيون والعوائق التي تواجه المنظمات الإنسانية لا سيّما نقص الأدوية والوقود اللازم لتشغيل مضخات المياه الصالحة للشرب.

اليمنيون يعانون للحصول على المياه الصالحة للشرب (رالف الحاج)

هنا في بعثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) في الحديدة، نحاول تحسين لغتنا العربية. كما هو الحال في أي مهمة أخرى، نودّ التواصل مع الأشخاص الذين نعيش بينهم والذين نعمل معهم لتحسين الوضع الإنساني.

بعضنا يتعلّم اللغة أسرع من البعض الآخر، على يدي أستاذ صبور للغاية وهو مدرّس في إحدى المدارس الابتدائية في المنطقة. هو شخصٌ بشوش عادة، لكن منذ بضعة أيّام أخبرنا أن إثنين من زملائه قد انتحرا.

كيف أدّى بهما الحال إلى الانتحار؟ يموت اليمنيون جرّاء القصف الجوّي والهجمات الصاروخية والأمراض التي يمكن الوقاية منها. ينزفون حتّى الموت قبل أن يتمكّنوا من الوصول إلى المستشفى. ولكن إن تمكنا من النجاة من جميع هذه الأهوال، لماذا يقدم شابان على إنهاء حياتهما؟ قد يعود ذلك إلى الرغبة بتفادي الموت البطيء الذي يعاني منه الشعب اليمني نتيجة النزاع.

لطالما كانت الحديدة من أفقر المدن اليمنية لكنها كانت مفعمة بالحياة والألوان، وتدعى أحياناً بـ"ملكة البحر الأحمر". سكّانها منفتحون ولطفاء ومشهورون بمرونتهم. وهم بحاجة إلى التحلي بهذه الصفة اليوم أكثر من ذي قبل، وهو الأمر الذي يزداد صعوبة يوماً بعد يوم.

وما فاقم الأوضاع التي كانت بالأصل كارثية في الحديدة، إغلاق مرافئ اليمن البحرية والجوية، والارتباك حول تاريخ الإذن بوصول البضائع مجدداً. وحتّى قبل هذا الإغلاق، أدّى التأخير وانعدام الأمن والحرب إلى إلحاق الضرر بالبنى التحتية للمرافئ وقلّة البضائع التي تصل إلى الحديدة مع أنها مرفأ اليمن الأساسي.

وتعتمد الحياة اليومية في الحديدة وجميع أنشطة اللجنة الدولية على دخول المستلزمات إلى البلد، لكن بدأت تنفد معظم الموارد الأساسية وأهمها الوقود الذي بدونه لا تعمل محطّات ضخ المياه ولا تُحفظ اللقاحات مبرّدة ولا تتوفر الإنارة في غرف العمليّات.

على مدى أشهر عملنا جاهدين مع زملائنا اليمنيين من دون كلل لمكافحة أسوأ حالة تفشي لمرض الكوليرا شهدها التاريخ. في البداية كان يصل زهاء 800 مريض يومياً إلى إحدى المستشفيات التي ندعمها. وكان الناس يتمددون على الأرض في الأروقة لساعات من دون الحصول على العلاج.

خلال الأسابيع الماضية، رأينا بصيص أمل بانحسار الكوليرا، لكن بسبب انقطاع الوقود توقفّت واحدة من محطتي ضخّ المياه في الحديدة عن العمل بشكل كامل بينما تعمل الأخرى بتقطّع. حيث لا يحصل قرابة 200 ألف شخص على المياه النظيفة فيما غرقت الشوارع بمياه الصرف الصحي. بما يجعلنا نراجع أعداد حالات الكوليرا في كل صباح متوقّعين بأن تزيد من جديد.

بحوزتنا القليل من الكلور لتنقية المياه لكنّها جرعات مركّزة وتستخدم لمحطات ضخ المياه. لكن نظراً لعدم عمل المحطتين بسبب نقص الوقود، أصبح هذا الكلور عديم الجدوى. فقمنا بطلب أقراص الكلور التي يمكن للأشخاص استخدامها لتنقية كل 20 ليتر من المياه على حدة، بيد أن هذه الأقراص لا تزال عالقة عند الحدود ونأمل أن تدخل قريباً.

عندما طلب منّا مدير محطّة الحديدة لضخّ المياه مساعدته لإعادة تشغيل المحرّك قمنا بما في وسعنا لطمأنته. كنّا على يقين بأنه يشعر باليأس وقلّة الحيلة ووعدناه بإيجاد حلّ لهذا الوضع. لكن ما العمل؟

الحلّ الوحيد هو أن تشتري اللجنة الدولية الوقود لتشغيل محطّة ضخ الحديدة، لكنّه حل مؤقت. فاتخذنا هذا القرار الصعب بغياب خيار آخر. إذ ارتفعت أسعار كميات الوقود المحدودة بشكل خيالي والمجالس البلدية الفقيرة أصلاً، كالمجلس في الحديدة، باتت عاجزة عن شرائه. بالنسبة للّجنة الدولية هذه الاستراتيجية استثنائية وغير مستدامة لكنها ضرورية لتفادي تفشي الكوليرا.

إلى جانب هاجس انتشار الكوليرا من جديد، يبرز الخوف من مرض الخناق. وهو مرض تسهل الوقاية منه بفضل اللقاح لكنّ عدداً كبيراً من الأطفال في اليمن غير محصّنين فباتت تصاب أسر بأكملها به. يؤدي الخناق إلى تشكّل غشاء سميك يعيق المجرى الهوائي. من أجل إنقاذ المرضى، على المستشفيات في الحديدة أن تُجهّز بأنابيب القصبة الهوائية، وقد طلبوا منّا مساعدتهم في هذا المجال. وكم نتمنّى أن نتمكّن من ذلك، لكنها غير موجودة في الحديدة، ونظراً للتأخر الدائم باستيراد الأدوية والمعدّات، سيتطلّب الحصول عليها وقتاً طويلاً.

نحاول أيضاً استئناف خدمات غسيل الكلى في الحديدة لكنها ليست بالمهمة السهلة. فانقطاع الوقود يعني أن آلات غسيل الكلى قد تتوقّف في أي وقت، ويجب استيراد جميع السوائل. إذاً لن نبدأ بالعمل قبل ستّة أشهر مع ما يعنيه ذلك من خطر يتهدد حياة المرضى حتّى ذلك الحين جرّاء الفشل الكلوي.

ولا يصل المرضى المحتاجون إلى العلاج إلى المستشفى نظراً لنقص الوقود الضروري لنقلهم. لذلك، بدأت اللجنة الدولية بتزويد الهلال الأحمر اليمني بالوقود مباشرةً من مخزنها من أجل سيّارات الإسعاف التابعة له في الحديدة. لكن الوقود الذي لدينا يكفي لتسعة أسابيع فقط، ونأمل أن يتحسّن وضع الاستيراد إلى ذلك الحين.

نرى أعداداً كبيرة من المرضى الذي يعانون من سوء التغذية الحاد. وسواءً كانوا مصابين جرّاء الحرب أو مصابين بمرض، فقدرتهم على التعافي مقيّدة بسبب نقص الغذاء. لا نعتقد إذاً أن توقعّات حدوث مجاعة مبالغ بها.

وتحت وطأة هذه الظروف، يحاول سكّان الحديدة جاهدين المضي قدماً بحياتهم. لم يتقاضَ موظّفو القطاع العام أجورهم منذ أكثر من سنة، لكن ما زال كل من الممرضين والأطباء ومهندسي المياه وفنيي الكهرباء والمدرّسين يرتادون أماكن عملهم. يدفعهم التزامهم بمحاولة إبقاء مدينتهم على قيد الحياة بالرغم من ظروفهم الصعبة. ويجبرهم نقص الوقود على المشي إلى عملهم بين القمامة التي لم تعد تجد من يجمعها. وعندما ينتهون من عملهم، يكافحون لتأمين المياه النظيفة والطعام لأسرهم. 
يواجه السكان تحديّات جديدة وسبلاً جديدة للتأقلم مع بزوغ كلّ فجر. وبدأت بعض المجتمعات في أحياء معيّنة مشاريع لجمع التمويل إذ يتعاونون لشراء الوقود لتشغيل وحدات صغيرة ومحلية لتنقية المياه. هؤلاء الأشخاص بنظرنا أبطال، هم منارة أمل في اليمن. لكننا بدأنا نستشعر أن الأمر بلغ ذروته في كل مكان. أنهك الناس وباتوا يفقدون الأمل شيئاً فشيئاً. فنرى أطباء يضطرون لإخبار أهالي ينتحبون أنهّم لا يستطيعون إجراء العملية التي قد تنقذ حياة طفلهم نظراً لعدم توفّر المعدّات الجراحية أو لأنها لا تعمل أو لغياب المخدّر. ونرى أمهّات يتخلّين عن طعامهن ويعطين ما تيسّر لهن لأولادهنّ لأن شحنة القمح التي كانت من المفترض أن تصل ما زالت في عرض البحر منتظرةً إذن دخولها إلى المرفأ. ونرى مهندس مياه كان يتفاخر بتزويد حيّه بالمياه النظيفة يقول لأبناء مجتمعه إنه لا يعرف متى ستعود المياه مجدداً أو إن كانت ستجري أصلاً.

إلى متى يمكن لشعب أن يصمد في ظل تلك الظروف؟ إلى متى سيتأقلمون؟ إلى متى يمكنك أنت أن تتحمّل؟ أما المدرّسان اللذان انتحرا فلم يتقاضيا أجرهما منذ بضعة أشهر، ولم يستطيعا تأمين قوت أسرهما أو تخيّل مستقبل يمكنّهما من ذلك. انطفأت جذوة الأمل وتضاءلت قدرتهما على الصمود. ففارقنا شابان متعلّمان من مدرسة واحدة لم يكتب لهما القدر أن يشاركا بمستقبل اليمن كما ينبغي.

يجب السماح بدخول المساعدات الإنسانية فوراً إلى اليمن. لكن المساعدات وحدها لن تحلّ الأزمة. فما تقوم به اللجنة الدولية أو غيرها من منظّمات الإغاثة لن يكفي أبداً. إذ يجب أن تفتح مرافئ اليمن وخاصةً مرفأ الحديدة وأن تبقى مفتوحة أمام الشحنات التجارية من الوقود والطعام والأدوية. فسكان الحديدة، والملايين من اليمنيين في باقي أنحاء البلاد، يخوضون معركة من أجل البقاء.

إعداد:

دييغو كامينو ساستري Diego Cameno Sastre - رئيس البعثة الفرعية للّجنة الدولية في الحديدة

كاتارينا أوبيرج فيشتل Katarina Oberg-Fichtel - مندوبة من قسم الصحة، بعثة اللجنة الدولية الفرعية في الحديدة

كريستيان لينز Christian Lenz - مهندس من قسم المياه والسكن، بعثة اللجنة الدولية الفرعية في الحديدة