في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية عن مثلّث "الشهيد والحكيم والأسير"
التنظيمات الفلسطينية تزخر بقادة عِظام قدّموا أرواحهم شهداء وأفنوا زهرة شبابهم في سفر النضال الوطني الطويل في سجون الاحتلال من أجل فلسطين. فكان نصيب كبير للجبهة الشعبية، ومن يقرأ التاريخ جيداً يعرف أن الاحتلال يضرب الجبهة بلا رحمة وبلا موانع ابتداء من اغتيال رأس الثقافة الوطنية غسان كنفاني سنة 1972.
إن الهجمة الشرسة من قِبَل الاحتلال على الأسرى الفلسطينيين وقيادتهم بأبشع أنواع القهر والعذاب والعزل الإنفرادي وسياسة التفتيش المُذل وبوسطة النقل –بوسطة العذاب- ، وعلى الشعب الفلسطيني وقياداته من خلال اغتيال الأمناء العامين للتنظيمات واعتقالهم ما زالت مستمرة ومتواصلة. فقد اغتالت إسرائيل الشهيد المفكّر فتحي الشقاقي سنة 1995 في مالطا، والشيخ الشهيد أحمد ياسين سنة 2004، والرئيس الشهيد ياسر عرفات سنة 2004، ومئات القادة وآلاف الشهداء، ومازال أكثر من سبعة آلاف أسير فلسطيني وعربي في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
إن التنظيمات الفلسطينية تزخر بقادة عِظام قدّموا أرواحهم شهداء وأفنوا زهرة شبابهم في سفر النضال الوطني الطويل في سجون الاحتلال من أجل فلسطين. فكان نصيب كبير للجبهة الشعبية، ومن يقرأ التاريخ جيداً يعرف أن الاحتلال يضرب الجبهة بلا رحمة وبلا موانع ابتداء من اغتيال رأس الثقافة الوطنية غسان كنفاني سنة 1972، وعملاق العنف الثوري وخطف الطائرات الدكتور وديع حداد سنة 1978، وعشرات القادة الشهداء، ليصل سقف الاغتيالات للأمين العام القائد الوطني والقومي الشهيد أبو علي مصطفى في مكتبه في رام الله سنة 2001، الذي استطاع تجسيد الروح الكفاحية والوحدوية على المستوى الشعبي والوطني وعلى المستوى الرسمي من خلال علاقاته المتينة مع الرئيس الشهيد عرفات ، حيث كان الرفيق أبو علي مصطفى على يقين وقناعة تامة بأن الرئيس عرفات لا يمكن أن يتنازل عن الثوابت. وهذا ما تأكّد عندما زاد الضغط على الرئيس الشهيد عرفات من قِبَل أميركا والغرب وإسرائيل والعرب والبعض الفلسطيني للقبول بالعرض الأميركي-الإسرائيلي. فعندما حدث لقاء على عَجَل بناء على طلب من الرئيس بأبو علي مصطفى، وعاد الرفيق إلى مكتبه وكتب للمكتب السياسي بأن الرئيس عرفات لايمكن أن يحمل القلم ويتنازل عن الثوابت الوطنية مهما كلّف الثمن حتى لو قتلوه. فبعد أن رفض الرئيس عرفات التنازل والتوقيع بدأ مسلسل الاستهداف، وصولاً لتصفيته جسدياً.
وبمناسبة ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية الخمسين سأتناول نبذة مختصرة عن أمناء الجبهة العامين– مثلّث النقاء الثوري- عن حكيم الثورة الفلسطينية والشهيد أبو علي مصطفى والأسيرالقائد الثوري أحمد سعدات. إن الكتابة عن هذا المثلّث الثوري لا تفي بحقهم، فكل الكلمات تقف عاجزة أمام هؤلاء القادة الذين قدّموا حياتهم من أجل الوطن. أخطّ هذه السطور بناء على تجربتي وعملي المباشر مع الشهيد أبو علي والأسير سعدات ومن خلال الاتصال مع الحكيم بحُكم عملي، إضافة لما كنت أسمعه وأطّلع عليه بخصوص الحكيم. فحكيم الثورة هو الذي جسّد وشقّ مفهوم الوحدة الوطنية وأسّس دعائم العمل الوطني وأعطى الدروس في ذلك، ولعلّ حادثة تمثيل الثورة الفلسطينية والطلب من الحكيم إلقاء كلمة الثورة الفلسطينية بظل وجود القائد ياسر عرفات، إلا أن الحكيم عندما صعد للمنصّة في قاعة اليونسكو في بيروت قال جملته الشهيرة "إن كلمة الثورة الفلسطينية........لا يلقيها إلا أخي ورفيق دربي قائد الثورة الفلسطينية ياسرعرفات"، هذا هو الحكيم الذي خطّ مع رفاقه النهج الثوري والوحدوي، حكيم الثورة الذي تعرّض للعديد من محاولات الاغتيال والخطف من قِبَل الاحتلال والمُضايقة والاعتقال من قِبَل الرجعية العربية. الحكيم الذي قدّم الاستقالة الطوعية ليكون الأمين العام الفلسطيني الأول الذي يتنازل طوعاً عن ترؤس الحزب من أجل فتح المجال أمام القيادات الشابة في قيادة الجبهة. الحكيم الذي قدّم استقالته وبقي بقلب الجبهة والوطن يتابع ويتّصل ويطمئّن على الجبهة والرفاق والوطن والشعب وأخبار المقاومة والأسرى والعدوان على القطاع الحبيب. وقد اتصل الحكيم في يوم من الأيام من الصباح الباكر قبل خروجنا إلى المكتب ويطلب من الرفيق أبو علي الحذر وأن يفكّر جدياً بما يطلبه الرفاق –الاختفاء- ولكن الضحكات تعالت وردّ عليه أبو علي بأن أخبارنا ستكون مفرحة وسنلقّن شارون درساً قاسياً إذا أقدم عليها، وأنت ياحكيم تعرف بأن الجبهة لا تفرّط بقادتها.
أما الشهيد أبو علي مصطفى الذي تعرّض لمحاولتي اغتيال قبل استشهاده واعتقل في السجون العربية، واشتهر بعبارته الشهيرة عندما عاد للوطن تطبيقاً لقرار الجبهة الشعبية سنة 1999 "عدنا لنقاوم لا لنساوم" هذا هو القائد الوحدوي الذي قدّم حياته للوطن، كان يقول للرفاق عندما يطلبون منه الاختفاء "تبقى من عمري ثلاث سنوات أعطيها للشعب " ملغياً بهذه المقولة سنوات حياته الستين في العمل الثوري الشاق.
أبو علي القائد الشعبي البسيط الحاسِم الصارِم يختلف بكل شيء عن القادة الفلسطينيين يذهب للحسبة يشتري بنفسه يسير في الشارع. وهنا أذكر عندما خرج المرافقون معه وهم يحملون السلاح، قال لي "ماهذا أنا ماعندي مشكلة مع الشعب وهذا السلاح لا مبرّر له أبداً والاحتلال عندما يريد الوصول لنا لا أحد يمنعه" ، هذا هو أبو علي يطبخ بغياب زوجته ويرتّب البيت، أنيق ومنظّم ووقته موزّع بدقّة ولا يحب إلا الجدّ والاجتهاد، دقيق في مواعيده، حنون يُحضِر لنا الطعام من منزله للمكتب. يسأل عن الرفاق وأهاليهم والمُطاردين وأحوالهم ويتصل بأهالي الشهداء، وعندما تنتهي المكالمة يبكي أبو علي، إنه مدرسة بكل شيء.
أبو علي مصطفى إنسان متواضع بكل شيء، قنوع يعيش حياته بتقشّف يطلب قبل نهاية الشهر سلفة من أجل استكمال باقي الشهر، راتبه لا يتعدّى راتب موظف عادي في NGOs، وبيته مستأجر وحياته بسيطة، لا يوجد عنده خدم وحَشَم هو مَن يُحضّر الطعام في غياب زوجته، كل شيء عنده في مكانه، الأشياء والكلمات والمواقف كلها في مكانها، والعلاقات السياسية ركيزة في حياته مثله مثل الحكيم.
وعلى نفس المنوال، القائد أحمد سعدات الذي اشتهر بمعادلته الشهيرة "العين بالعين والسن بالسن والرأس بالرأس" التي أطلقها في ذكرى تأبين الشهيد أبو علي مصطفى، عندما خرج من مخبئه في رام الله.هذا هو سعدات مثله مثل الحكيم والشهيد أبو علي ومثل أي رفيق وأي موظّف فلسطيني قبل نهاية الشهر يستلف مئتين أوثلاث مئة دولار من أجل إكمال الشهر، حيث أن راتبه لا يتجاوز راتب موظف عادي، وبيته مستأجر وحياته تقشّف، فقد أمضى حياته في الاختفاء وفي السجون الإسرائيلية والفلسطينية. وهو أول أمين عام في عهده تتم تصفية وزير إسرائيلي، والأمين العام الوحيد الذي اعتقل في سجون السلطة الفلسطينية، وبقيت بوصلته موجّهة نحو الاحتلال على الرغم من تجرّعه مرارة الموقف الفلسطيني الرسمي للسلطة.
حقيقة ساطعة أن مثلّث النقاء الثوري متساوي الأضلاع بكل ماهو عظيم، فهؤلاء القادة لا يمكن تكرارهم في تاريخ الثورة الفلسطينية ، وهذا المثلّث (الحكيم والشهيد والأسير) هو نادر التكرار حتى في تاريخ الجبهة، فالجبهة كانت ومازالت محظوظة لتداول الأمانة العامة بالحكيم والشهيد والأسير، والاحتلال يدرك هذا جيداً وعلى هذا الأساس كان ومازال يستهدف الضلع الصامد المُتبقي من هذا المثلّث الثوري العصيّ على التطويع أو الكسر.
وعند التعريج على ميزات الجبهة نجد أنها تمتلك ميزات نوعية تختلف عن بقية الأحزاب السياسية، من ضمنها الطابع القيادي حيث تتميّز بمجموعة قيادية يشهد لها العدو قبل الصديق ، ابتداء من دائرة الأمانة العامة التي امتدت من البداية التأسيسية أي بالحكيم الذي صنع فهماً حقيقياً في الممارسة الديمقراطية الحزبية، وأبو علي مصطفى الذي رسم بدمائه وحدة الجبهة والنهج الثوري المقاوِم، وأبو غسان الذي قبل لنفسه ما لا يقبله أي قائد فلسطيني وجسّد روح المقاومة والفعل الثوري وتحمّل المسؤولية التاريخية بإعادة الاعتبار للجبهة والوطن، ولم يقبل كل الطلبات بعدم الانتقام لدماء الشهيد أبو علي في ذلك الوقت، ووقف في تأبين الأربعين ووجّه معادلته الثورية للجناح العسكري للجبهة. فكانت كتائب الشهيد أبو علي مصطفى عند حُسن الظنّ حيث وضعت حداً لحياة الوزير المتطرّف رحبعام زئيفي ، ليبدأ فصل جديد من الاستهداف للجبهة الشعبية وقيادتها حتى انهالت الضربات القاسية على رأس الجبهة بكل مستوياتها وغدت الجبهة مطاردة من قِبَل الاحتلال وأميركا وبريطانيا والسلطة الفلسطينية. وتكالب وتآمر العديد من الأجهزة على الجبهة وطالت كل المستويات وكل الميادين سواء السياسية أو العسكرية وحتى الجماهيرية ، فتم اعتقال الأمين العام سعدات من قبل السلطة بعدما عجزت إسرائيل وأميركا وبريطانيا من الوصول إليه. وكان الاعتقال بطريقة الغدر التي لا نريد هنا الحديث عنها، ومن ثم تم اعتقال الرفاق المتهّمين بوضع حد لحياة زئيفي ووضعهم مع العميد فؤاد الشوبكي تحت الحراسة البريطانية والأميركية إلى أن تم هدم سجن أريحا من قبل الاحتلال واعتقالهم ومازالوا في السجون الإسرائيلية، وبنفس الحملة المسعورة على الجبهة آنذاك تم اعتقال نائب الأمين العام السابق عبد الرحيم ملوح وأعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية والكادر الوسطي وكل من يمّت للجبهة ، واستطاع الاحتلال تعطيل عمل هيئة فرع الضفة الغربية ولو صبّت كل هذه الضربات على جبل لتكلّم ولكن الجبهة صمدت بوجه الاحتلال.
لقد جسّدت الجبهة الشعبية عبر العقود الخمسة من عمرها المبادئ والمواقف الثابته رافضة التنازل عنها أو المساومة عليها، رغم الاستهداف والتحديات والضغوط التي واجهتها، بقيت متمسّكة بثوابتها، وقدّمت من أجل الوطن أثماناً باهظة من دماء قادتها وكوادرها وفي مقدّمهم الأمين العام الشهيد أبو علي مصطفى، ومئات الأسرى الذين مازلوا في زنازين ومعتقلات الاحتلال، وعلى رأسهم الأمين العام المناضل أحمد سعدات.