هزيمة حلف بغداد جديد .. حسابات الربح والخسارة في الانتخابات اللبنانية
هل نحن على أعتاب ثورة أهلية جديدة؟ أم أن حسابات الربح والخسارة ستكون دائماً لصالح رأس المال البورجوازي الذي قاد أوروبا بعد ثورتها على الأرستقراطية؟ أم أن لبنان يبني فعلياً الوجه النهائي له، والذي ناضلت من أجله فئه كبيرة من أبنائه منذ استقلاله في العام 1943 وحتى اليوم؟
لم تعد المعركة الانتخابية في لبنان اليوم، معركة تداول السلطات ما بين القوى المعروفة كما في جميع بلدان العالم. إنها معركة للإطاحة بنظام لصالح نظام جديد. أو على الأقل هذا ما يبدو حتى الآن. هذا الصراع ليس وليد الصراع من 2009 وحتى اليوم، بل هو من تداعيات الصراع الذي جاء بالحرب الأهلية في العام 1975 وحتى اليوم. وبالتالي إذا افترضنا أن الحرب الأهلية هي ثورة في مضمونها الداخلي فهل من الممكن أننا ما نزال حتى اليوم نشهد تداعيات هذه الثورة.
ولكن: "لا يمكن حساب الربح والخسارة في الثورة إلا بعد مرور وقت من الزمن عليها. والأمر الثاني الذي يتعلّق بالثورات، أنها ليست مجرد أفكار تُطرح في المقاهي، لأنه في اللحظة التي ينزل الناس فيها إلى الشوارع فإن المرء يضع حياته موضع رهان لا تعرف عواقبه"[1]. هذا الكلام يمكن أن ينطبق تماماً على ما حدث في لبنان إبان الحرب الأهلية. والتي لم تكن تلك المرة الأولى التي يتواجه فيها معسكران ينتميان إلى أفكار سياسية مختلفة في الشارع اللبناني.
فالمواجهة الأولى كانت في العام 1958، حيث نزل التيار العروبي في لبنان في مواجهة اتفاق بغداد 1955، يوم وقفت نيوجرسي مقابل شواطئ بيروت من أجل حماية النظام الداعِم لها ، والذي تمثّل بشخص كميل شمعون آنذاك. اندلعت المواجهات، التي كانت وقودها الفئات المهمّشه في شمال وجنوب لبنان وسكان أحزمة البؤس في بيروت وخاصة في النبعة. انتهت المواجهة، والتي يمكن قراءتها على أنها ثورة على الأوضاع المُزرية، حملت في مضمونها أبعاداً اجتماعية واقتصادية وجنوحاً نحو الخلاص من الوضع البائس، الذي ترك قسماً كبيراً من اللبنانيين خارج نطاق الدولة. فعلى سبيل المثال لم تدخل الكهرباء إلى قرى الجنوب حتى منتصف الستينات، وذلك بحسب روايات كبار السن من الجنوبيين. استطاع فؤاد شهاب، الذي تنبّه إلى خطورة الوضع، أن يؤسّس لبعض مؤسّسات الدولة مثل: مجلس الخدمة المدنية، وتعاونية الموظفين، ومجلس الإسكان، ومصرف لبنان. وهي مؤسّسات مكّنت أبناء المناطق المحرومة الدخول إلى ملاك الدولة بعد أن كانت حكراً على فئة طائفية محدّدة من اللبنانيين. غير أن شهاب وللأسف حورب من قِبَل البورجوازية والنظام الإقطاعي التقليدي، الذي قرأ في شهاب هدّاماً للنظام السياسي والمالي الذي يتمتّع به.
في العام 1975، بعد عشرين عاماً تقريباً من الثورة ضد شمعون، عادت الظروف الدولية والاجتماعية لتُعيد نسخ ذاتها من جديد. خاضت كل من سوريا ومصر حرباً ضد إسرائيل في العام 1973 محقّقة انتصارات، من خلال اجتياح مرصد جبل الشيخ، واستعادة القنيطرة على الجانب السوري، واجتياح خط بارليف على الجانب المصري. وابتدأت المواجهات تزداد ضراوة من الجنوب اللبناني ما بين الفدائيين الذين أتوا من مختلف الدول العربية، وخاصة من لبنان وما بين إسرائيل من خلال عمليات نوعية، استخدم فيها الفدائيون حرب العصابات. جاءت المواجهة الثانية في وقت كانت فيه الحاجة لتخفيف الضغط عن إسرائيل. وإذا اعتبرت المواجهة الثانية قد جاءت من خلال الحرب الأهلية اللبنانية. لم تكن الحرب كما هي في الشكل فقط حرباً دولية متمثّلة بالكتائب ضد الوجود الفلسطيني والمقاوِم للمشروع الصهيوني. لقد كانت ثورة أخرى قائمة ضد النظام الذي يحكم في لبنان وعاد من خلال الحرب الأهلية لتشكيل الاصطفافات السياسية بشكلها السابق: مقاومة لإسرائيل وللغرب والتميّز العنصري ضد جزء من الشعب اللبناني وما بين السلطة التقليدية واصطفافاتها إلى جانب الغرب وأهدافه في لبنان مهملاً لما كان يتعرّض له الجنوب منذ العام 1948.
ولكن لم يكن الصراع الدولي هو السبب الوحيد الذي أجّج الحرب الأهلية، لقد مثّلت الحرب واصطفافاتها جبهتين: واحدة تمثل النظام السياسي القائم، وأخرى تمثل اضطهاداً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً لمن هم في مواجهة النظام. انتهت الحرب الأهلية في لبنان باتفاق الطائف في العام 1989 والذي أرسى قواعد نظام سياسي جديد وأعاد توزيع السلطات في لبنان. ولكن نعود هنا لكلام "خان"! فحسابات الربح والخسارة لا يمكن قراءتها إلا خلال فترة من الزمن، والذي يبدو من خلال القراءة الأولى، أن نظاماً سياسياً جديداً قد أرسيت قواعده في لبنان، ولكن النظام الاجتماعي والاقتصادي لم يتغيّر وبقي المواطن يرزح تحت نفس الضغوط الاقتصادية والاجتماعية، الدولة، بعد 29 عاماً من انتهاء الحرب الأهلية، لم تكن قادرة على تقديم الخدمات الأساسية: ليس هناك بنى تحتية، أو نظام تعليمي أو صحّي أو اجتماعي يضمن المواطنين، هذا بالإضافة إلى تهجير معظم الكفاءات على مختلف الأعمار.
خلال الـ 29 عاماً الماضيه، شهد لبنان حدثين هامين: الأول هو تحرير الجنوب في العام 2000 وخروج الإسرائيلي من دون قيد أو شرط. والثاني، هو الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، والتي كان هدفها القضاء على المقاومة. ولكن أهم حدث ضد السلطة كان أحداث 7 أيار في العام 2007، والتي جاءت من أجل حماية نظام المواصلات السلكية المتعلّق بالمقاومة، والذي أمّن لها التواصل الآمِن ما بين أفرادها طوال فترة المقاومة ضد الصهيوني. تكرّر في مشهد 7 أيار الصراع نفسه ما بين اتجاهين الأول يمثل حلف بغداد الجديد والثاني يمثل حلف القاهرة الذي وقف في مواجهة حلف بغداد، وللمرة الثالثة. ولكن ما اختلف هو أن الطرفين مُثّلا في الحكومة وفي مجلس نواب 2009.
وانتخابات العام 2018 بعد اعتكاف إجباري عن الانتخاب لمدة تسع سنوات، والذي أريد منه الحفاظ على نوع من التوازن في لبنان لم يعد مُجدياً وبات يهدّد ما يُسمّى بالديمقراطية اللبنانية. غير أنه، تمثل الانتخابات صراعاً جديداً ما بين القوى الدولية والاقليمية في لبنان، في مشهد تتكرّر أهدافه: الأول مُعاد لإسرائيل والآخر باحِث عن التسوية. وأما في الداخل اللبناني فهو إما النظام المالي العالمي الذي سيعود ويستنزف المواطن المقهور ويحارب المقاومة، ويُخصخص مرافق الدولة ويلغي إنجازات فؤاد شهاب وخصوصاً الضمان الاجتماعي ومجلس الخدمة المدنية، الذي ينتظر الناجحون في امتحانات مجلس الخدمة المدنية قرارات التوظيف المعلقة لأسباب تتعلّق بالتوزيع الطائفي وهو ما يتنافى مع القانون. أو ستكون النتائج لصالح الفريق الآخر الذي سيُبقي على المعادلة الذهبية: الجيش والشعب والمقاومة في حماية لبنان. هذا الفريق الذي سيستعين بالخبرات الإيرانية والروسية والصينية في تحسين بناه التحتية، والذي سيؤذن بنهاية السلطة الغربية على لبنان. وأما التوازن في نتائج الانتخابات أو في الإبقاء على توازن القوى وحتى الخاسرة، فلن يبق البلد على التوازن الذي ساد منذ العام 2009. فالضغط الاقتصادي والاجتماعي بات أكبر من أن يستوعبه الضغط السياسي، فهل نحن على أعتاب ثورة أهلية جديدة؟ أم أن حسابات الربح والخسارة ستكون دائماً لصالح رأس المال البورجوازي الذي قاد أوروبا بعد ثورتها على الأرستقراطية؟ أم أن لبنان يبني فعلياً الوجه النهائي له، والذي ناضلت من أجله فئه كبيرة من أبنائه منذ استقلاله في العام 1943 وحتى اليوم؟
[1] بول خان أستاذ القانون الدولي في جامعة ييل، نقلاً عن فلاح رحيم في كتابه أزمة التنوير العراقي.