النكبة والفرصة

إننا أمام عدو مُتغطرس إحلالي استيطاني عدواني وعنصري ، ومفتوح الشهيّة على مزيد من التنازلات ، لنكون هنوداً حمر جدداً، نعيش في محميات، ولا نملك من أمرنا وأرضنا شيئاً، إننا أمام معادلة وجودية (نكون أو لا نكون )، فمن أجل أن نكون لا بد من إعادة النظر بكل المسيرة السابقة.

كفى هدراً وامتيازات في سلطة وهمية، فقد آن الأوان أن نحيل نكبتنا إلى فرصة للنهوض

سبعون عاماً على اغتصاب الأرض وتشريد شعبنا الفلسطيني، سبعون عاماً من المُعاناة المتواصلة لثلاثة أجيال ما زالت تتجرّع الألم ويسرق المحتل أحلامها، سبعون عاماً من الاضطهاد والتشويه، فلا أذن عالمية غربية تسمع ولا عين عربية ترى، سبعون عاماً على قرارات أممية لا تسوى الحبر الذي كتبت به، وسبعون عاماً من العربدة الصهيونية بدعم بريطاني وفرنسي وأميركي وغربي مجرم، وبعد سبعين عاماً تتكشف وجوه ذوي القربى فإذا بهم حلفاء الشيطان ومناصرين للباطل ومتآمرين على حقوقنا وتاريخنا ومستقبلنا، وسبعون عاماً بل وأكثر من النضال المستمر بأشكال مختلفة من هذا الشعب العظيم، الذي لم يبخل بقوافل الشهداء والجرحى والمعتقلين ومناضلي الحرية، وعاهد الله ألا ينسى فلسطين حتى قيام الساعة.

فبعد هذه السنوات يحق للشعب الفلسطيني، الذي جرّبت فصائله ومنظماته العديد من الوسائل سواء الكفاح المسلّح أو التفاوض أن يتساءل: لماذا هذا التراجع من المطالبة بفلسطين التاريخية وتحريرها إلى المطالبة بدويلة هزيلة على مساحة أقل من 18% من مساحة فلسطين ؟ولماذا التخلّي عن جزء أصيل من شعبنا ؟ولماذا التخلّي عن الميثاق القومي والوطني وتغيير بعض بنوده بما ينسجم وهذا التراجع ؟ ماذا نقول لشهداء الثلاثاء الحمراء (عطا الزير ومحمّد جمجوم وفؤاد حجازي )؟ وماذا نقول للشيخ المجاهد إبن جبلة الشيخ عزالدين القسّام وإلى الشيخ فرحان السعدي وأبو درة وعبدالقادر الحسيني؟ وماذا نقول لأبي جهاد وأسرة الدوابشة التي أُحرِقت في منزلها، وإلى قوافل الشهداء وعائلاتهم؟؟

أليس من حق شعبنا أن يتساءل أيضاً: لماذا لم تقم منظمة التحرير بوقفة تقييمية بعد كل هذه السنوات ، وتعمل جردة حساب أين أخفقنا أو نجحنا، لنعزز ماهو إيجابي ونتلافى ما هو سلبي، حيث أن كل مؤسسة لديها جرد حساب سنوي لتعرف الربح من الخسارة ، فكيف الحال إذا كانت هذه المؤسسة مسؤولة عن شعب ومستقبل أجيال؟؟ فهل وقفنا على أسباب الخروج من الأردن ولبنان والتشتّت في بقاع الأرض، وانطفاء الانتفاضة الأولى والثانية؟؟ وقيّمنا مسيرة التفاوض العبَثي، وكذلك الانقسام؟؟ وإذا كان ذلك فما هي النتائج، وما هي العبر والدروس المستفادة من ذلك؟؟؟

هناك العديد من الأسئلة التي من حق شعبنا أن يعرف إجابتها، ومن خلال تحليل الواقع قد تقفز للذهن تساؤلات  أخرى ، فاليوم يعيش في فلسطين التاريخية ستة ملايين فلسطيني، ومثلهم تقريباً في الشتات، مقابل ستة ملايين صهيوني مستعمر يحمل ملايين منهم جنسيات أجنبية ويتواجدون خارج فلسطين المحتلة، فهل فكرنا بتفعيل هذه (القنبلة الديموغرافية ) التي كان يخشاها العدو ،هل فكرنا بإعادة الاعتبار لقضيتنا بأنها قضية وطن واحد لشعب واحد موحّد، غير قابل للقسمة أو التجزئة، ومن حقه الحياة والحرية والعيش بكرامة كباقي شعوب الأرض ،على تراب وطنه بعد كل هذه العقود من الألم والمعاناة والتشرّد والتقسيم والظلم والاضطهاد والتآم؟

ألم ندرك بعد أن هذا العدو هو مستعمر اقتصادي، وأداة وظيفية لقوى الاستكبار العالمي، يعيش حياة رغيدة في بلاد جميلة وبمستوى أوروبي، وعليه فإن جعل فلسطين بيئة طارِدة له، وتحويل حياته إلى جحيم لا يطاق، بما يتناسب وعيش شعبنا في مخيمات الضنك، يستدعي العمل الكفاحي المستمر وليس الموسمي، فليس هناك هدنة مع مثل هكذا عدو، بل مطلوب ألا ندع هذا العدو يرتاح يومياً، وذلك من خلال ضرب بناه التحتية وتعطيل اقتصاده واستنزافه مادياً ونفسياً، وهذا سيقرّبنا من التحرير والعودة المظفّرة، بل وسيريح شعوب عالمنا العربي والإنسانية جمعاء من هذه الغدّة السرطانية البغيضة وتفرّعاتها الخبيثة.

ألا يحق لنا أن نتساءل: هل الثورة المعاصرة، التي امتلكت العديد من الأموال والعديد من المقاتلين والسلاح ، قد كانت على مستوى التحدّي المفروض، باستراتيجيتها وتكتيكاتها ،أم أنها انغمست سراً ومبكراً في استراتيجية الدول العربية الرامية إلى (إزالة آثار العدوان لعام 1967) وبالتالي لم يرق الفعل المقاوم إلى زعزعة أركان الكيان الغاصِب، فكان عبارة عن خدوش يتمكّن العدو من التعايش معه ،(كما قال كيسنجر وزير خارجية أميركا سابقاً ) حيث شاهدنا أن هذا العدو قد تمكّن من استيعاب أكثر من مليون مستعمر جديد من روسيا وغيرها إبان الثورة المعاصرة ، كما ازداد دخل الفرد اليهودي أضعاف ما كان عليه، بدلاً من أن يتناقص وانفتحت علاقة الكيان الدبلوماسية والتجارية مع العديد من الدول في العالم بما فيها دول كانت مقاطِعة له في مرحلة معينة ، ألا يعني هذا فشلاً سياسياً ودبلوماسياً لسياستنا وفعلنا ، حتى عندما اعتبرت الحركة الصهيونية حركة عنصرية بموجب قرار للأمم المتحدة رقم  3379 لسنة 1975 لم نستطع الحفاظ عليه، وصرفه واستثماره في السياسة والتحريض.

وأيضاً يحق لنا أن نتساءل :هل هناك ثورة في العالم ، انتظرت شعوباً أخرى أو دولاً أخرى لتحرّر لها وطنها، فهل اعتمدت الصين أو فيتنام أو كوبا أو الجزائر أو اليمن أو جنوب إفريقيا على غيرها أم اعتمدت على قواها الذاتية بالدرجة الأولى ، وعلى فعلها المقاوم وتضحياتها وبالتالي على دعم الأصدقاء والحلفاء مادياً وسياسياً وإعلامياً؟ وجميع هذه الثورات أنجزت تحرّرها، بينما نحن نشكو دائماً يا وحدنا، أو ننادي بالقرار الوطني المستقل ونلوم الآخرين لعدم التدخل ،علماً أن هذه الثورة المعاصرة حظيت بالدعم والإسناد العربي والعالمي من قِبَل الشعوب الحرة ، أكثر من تلك الثورات المذكورة ، ولكن سوء الإدارة بالإضافة إلى عوامل خارجية أخرى، لسنا بصدد بحثها الآن، قد قلّصت هذا الدعم أو أصبح مشروطاً لدى بعض الداعمين بتنازلات أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه من تراجع عن أهدافنا الرئيسية، المشفوعة بالحق التاريخي، والعدل الإنساني والمعمّدة بالدماء الزكية الطاهرة منذ أوائل القرن الماضي.

إننا أمام عدو مُتغطرس إحلالي استيطاني عدواني وعنصري، ومفتوح الشهيّة على مزيد من التنازلات، لنكون هنوداً حمر جدداً، نعيش في محميات، ولا نملك من أمرنا وأرضنا شيئاً، إننا أمام معادلة وجودية (نكون أو لا نكون )، فمن أجل أن نكون لا بد من إعادة النظر بكل المسيرة السابقة، وبكل الوسائل السابقة، بمعنى أن تكون لنا رؤيا واضحة مبنية على العلم والمعرفة بقوى العدو وقوانا الذاتية، وأن تكون لنا رسالة وبنك أهداف في إطار برنامج عمل واضح، ففلسطين وطننا التاريخي عبر آلاف السنين، وهي أرض الرسالات وبوابة السماء، وهي أرض الأجداد والآباء، فلا يحق لأيٍ كان أن يتنازل عن شبر واحد من ترابها المقدس، لا تحت شعارات الواقعية السياسية أو المرحلية أو الفهلوة السياسية أو أي شعار آخر، حيث أن عدواً صلفاً ومتغطرساً كهذا لا يفقه إلا لغة القوة، فالحوار معه هو حوار النار بالنار، وطالما لدينا شعب أبيّ ومعطاء، لم يبخل يوماً بدفع فاتورة الدم من أجل استرداد حقوقه بوطنه، فمن الواجب والالتزام والحكمة ألا نخذل هذا الشعب العظيم، وألا نبدّد أحلامه بالتحرير ، بل يدعونا الواجب القومي والوطني والديني والأخلاقي أن نعمل بدأب وكفاح متواصلين من أجل تحقيق طموحاته وأمانيه، فهذا الكيان الغاصب من الممكن أن يُقهَر وأن يُهزَم، وهو كما قال عنه سيّد المقاومة السيّد حسن نصر الله (أوهى من بيت العنكبوت)، وهو فعلاً كذلك، حيث يعيش أزمة وجودية لم يسبق لها مثيل، فإذا أتقنا الفعل المقاوِم والمنظّم والمدروس علمياً، على كامل مساحة فلسطين، وجعلنا فلسطين فوق كل اعتبار، وفوق المصالح الفئوية والحزبية، التي أرهقت شعبنا وقسّمته أفقياً وعمودياً، فإن هذا الكيان لن يصمد أمام أرادتنا وفعلنا المقاوِم. وهنا لا بد من التذكير أن الثورة وعي وإرادة وإيمان قبل أن تكون سلاحاً، وبالوعي والفعل الإرادي فإن شعبنا قادر على ابتكار الوسائل الكفيلة بهزيمة هذا الكيان اللقيط ، حتى بالوسائل البسيطة ذات المفعول الفاعل، وبالأسلحة المختلفة التي لن نعدم من اختراعها أو وصولها إلينا كما وصلت لغزّة المحاصرة سواء من سوريا أو من الجمهورية الإسلامية في إيران، بالإضافة إلى العديد من أشكال الدعم فكفى صراخاً (يا وحدنا)، وكفى تباكياً وتسوّلاً، وكفى هدراً وامتيازات في سلطة وهمية، فقد آن الأوان أن نحيل نكبتنا إلى فرصة للنهوض والتقدّم والتحرير والعودة. وأن نحسم خياراتنا بلا تردّد مع محور المقاومة المعادي للامبريالية الغربية والصهيونية.