الفلسطينيون يقلبون الطاولة
راهن الجميع بمن فيهم إدارة ترامب وحلفائه المُطبّعين في المنطقة على أن الفلسطينيين قد انهاروا ضمنياً؛ نتيجة التخاذُل العربي, وبأنهم وبكل بساطة سينهارون معنوياً وسياسياً لا محالَ, وبأن صفقة القرن سوف تصبح نتيجة حتميّة بعد عملية نقل السفارة إلى القدس, وبذلك سوف ينعم الإسرائيليون بالسلام الوهمي مع العرب بإخراجهم الفلسطينيين خارج المُعادلة وأكل حقوقهم واحداً واحداً ومن دون أي نوع من المقاومة.
الفلسطينيون شعبٌ حيّ, وقد أثبتت معادلات التاريخ أنهم في أيٍ من المراحل الحَرِجة وبعد حالات الجمود الطويلة في قضيتهم يخرجون دفعة واحدة للدفاع عن قضاياهم, التي تمثل لهم ضمنياً أساسَ وجودهم, فمن خلال صدورهم العارية يُثبتون للعالم أنهم باقون على ثوابتهم بالدفاع المُستميت عن الأرض والإنسان أمام جيشٍ هزيل لا يملك سوى القوّة في قمع متظاهرين سلميين, وقد أُعطي هذا الجيش الضوء الأخضر لقمع الفلسطينيين بوحشيّة ممَن يقفون خلفه داعمين ولاهثين للتطبيع معه.
ليس غريباً عمن استنسخوا التجربة الإسرائيلية في قصف غزّة وأسقطوها على اليمن, أنهم لم يقدّموا أبسط أبجديات السياسة بالإيحاء بأي نوع من التعاطف مع المدنيين العُزّل الذين يُقتلون, وهل من الغريب أن الدول الأوروبية مثلاً قد كان موقفها متقدماً عن الموقف العربي برمّته, وهل هو غريب فعلاً قيام جنوب أفريقيا باستدعاء سفير إسرائيل لديها على ضوء المجزرة على حدود غزّة, بينما على المقلب الآخر عرب الخليج قبل أيام قليلة يشاركون في سباق للدراجات الهوائية في القدس المحتلة, فهذا السباق هو نفس سباقهم للتطبيع ونفس سباقهم للتسلّح لضرب اليمن ونفس سباقهم للخيانة.
لقد قام الفلسطينيون في جميع أماكن تواجدهم بقلب الطاولة وفتح المعادلة الجديدة والتي تقضي بأن أية محاولة للمساس بقضاياهم الرئيسية من القدس واللاجئين, هو مساس بكينونتهم وفلسطينيتهم أينما كان من يحاول فرض الحلول عليهم؛ حتى ولو كانت الولايات المتحدة مُتسلّحة ببعض المُطبّعين من خلفها, وبأن الدم الفلسطيني هو مَن يغسل العار العربي في ضوء ما يحدث بالمنطقة من حال ارتهان وضعف, وحال اللامبالاة التي حصلت تحديداً بعد ثورات الربيع العربي, حيث أصبح الدم العربي من السهل استباحته, فهذا الدم النازِف يُعيد تذكير العرب بأهمية الإنسان العربي كإنسان قبل أن يكون عربياً, وأن التحرّر دائماً مقرون بتكلفة غالية وهي دماء شُجاعة مُقاتلة, تقاتل ببسالة بأبسط المقدّرات أمام قوّة عنجهية قاتِلة مُحتلة. هؤلاء الذين يقاتلون في الأراضي المحتلة هم الذين يُعيدون توجيه البوصلة, ليس فقط بوصلة العرب بل بوصلة حركات التحرّر في العالم أجمع, فهم يرسمون مساراً جديداً للمضيّ قدماً اتجاه التحرّر الفلسطيني من الاحتلال, وتقرير المصير , وعودة اللاجئين لقراهم ومدنهم التي هُجِّروا منها؛ من دون أية محاولات للمُهادنة في هذه القضايا المصيرية.