ترامب وفوضى السلام من إيران إلى كوريا

فيما ينتظر العالم اللقاء المُرتَقب للرئيس الأميركي دونالد ترامب بالزعيم الكوري الشمالي على قاعدة إحلال السلام في شبه الجزيرة الكورية وجعلها خالية من الأسلحة النووية، أعلن وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو عن استراتيجية خاصة بإيران والتي ترتقي إلى مستوى إعلان الحرب عليها من بوابة إلغاء الاتفاق النووي وبفرض "العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة"...

قدّم ترامب بانسحابه من الاتفاق رسالةً خاطئة حتى بالتوقيت تلقّفها كيم

لقد دحرجت واشنطن كرة الثلج بين أرجل الدول الأوروبية خصوصاً تلك المُستفيدة من الاتفاق بعدما منحهم ترامب ما لا يزيد عن 180 يوماً لتجميد نشاطاتهم في إيران.
لقاءاتٌ واتصالاتٌ مكثّفة أرّقت مضاجع الدول الأوروبية، ودفعتهم إلى التحرّك والتخبّط ما بين محاولة إقناع ترامب بالتراجُع عن موقفه وما بين الانزياح بعكس مصالح شركاتهم المُتضرّرة وضد الدولة الإيرانية، فقد أظهرت بعض الدول الأوروبية مواقف فردية بدت مختلفة تماماً عن موقف الاتحاد الأوروبي الذي كان واضحاً لجهة دعم الاتفاق واستمرار العمل بموجبه، فيما أتت مواقف فرنسا وبريطانيا وألمانيا بما يزرع الشك حول تبادل أدوارٍ محسوبة تهدف لإجبار إيران على تقديم التنازلات على طاولة ترامب، مقابل استمرار العمل بالاتفاق واستمرار مصالحهم..
وبحسب ما طرحه بومبيو، بدا واضحاً أن المطلوب من إيران استسلاماً صريحاً لا تغييراً في السلوك أو تعديلاً في الاتفاق، فالتخصيب ممنوع والدفاع عن النفس واستمرار البرنامج الصاروخي الدفاعي ممنوع، والدور والنفوذ الإقليمي ممنوع، ودعم المقاومة اللبنانية والفلسطينية ممنوع، والمساهمة في الحرب على الإرهاب ودعم صمود الدولة السورية ممنوع، وخلاصة المطلوب منع أي تهديد للكيان الإسرائيلي الغاصب بهدف وقف تمدّده وتعميمه عصراً صهيونياً يُفرَض على دول المنطقة.
كلامٌ أميركي مباشر صدر وأُفهم علناً، فالدولة الإيرانية وُضِعت تحت مرمى الاستهداف الأميركي الذي يعتقد فيه رجل الصفقات أن استبداله المنافسة بالتهديد والمواجهة العسكرية سيمنحه رهاناً جديداً يحصد من خلاله مالاً أوروبياً  واستسلاماً  إيرانياً عبر تفادي العقلاء والشركاء حروباً عالمية جديدة مُحتملة على شرف إيران أو كوريا الشمالية أو حتى روسيا...
لم تقف إيران مكتوفة الأيدي، وبدأت حملة الدفاع عن نفسها واتفاقها وحقوقها وكرامتها، ولم يتأخّر الرد الإيراني الأول عبر الرئيس حسن روحاني، تبعه إحراق لنص الاتفاق من قِبَل برلمانيين إيرانيين وتظاهرات غاضبة في عدة مدن إيرانية، فيما أكد علي لاريجاني أن "ترامب لا يفهم سوى لغة القوة"، واعتبر المُرشد الإيراني كلام ترامب "سخيف ومتدني المستوى"، وتتالت المواقف من الداخلية والخارجية الإيرانية والحرس الثوري والمجلس الأعلى للأمن القومي، ومنظمة الطاقة الذريّة الإيرانية، فيما أكد الرئيس روحاني في 22\5\2018 أن "إيران لا تخشى التهديد وهي أكبر من ترامب وبومبيو وبولتون"، بالتوازي مع تأكيد اللواء محمّد باقري أن "قواتنا في ذروة اقتدارها وجهوزيتها"... فيما طرح المُرشد السيّد علي خامنئي على الدول الأوروبية سبعة شروط لالتزام إيران بالاتفاق، تضمن حقوق إيران وتحدّ من مراوغة وخداع الأوروبيين ولإثبات أنهم لن ينكثوا العهد كالسابق.. هذه المواقف الشعبية والرسمية وعلى كافة المستويات السياسية والعسكرية والهيئات العلمية والدينية العليا، تؤكد صلابة الجبهة الداخلية والخارجية واستعداد القوات المسلحة للدفاع عن الحقوق والقرار السيادي الإيراني.
لقد قدّم ترامب بانسحابه من الاتفاق رسالةً خاطئة حتى بالتوقيت تلقّفها الزعيم كيم، وهو يرى ترامب- وعلى خُطى رؤساء أميركيين قبله– كيف وأنه لا يحترم الاتفاق مع إيران، في الوقت الذي يسعى فيه لإبرام اتفاق إذعان يُجرّد ويحرم كوريا من حقوقها ومكامن قوّتها وأسلحتها الصاروخية البالستية وطموحاتها، مقابل رفع العقوبات الأميركية ومساعداتٍ مالية لا تتجاوز بضعة دولارات... وعليه أتى عقاب الزعيم كيم لعنجهيّة وغطرسة ترامب وإداراته في طريقة التعاطي مع القضية الكورية كشعب وحكومة لها من الكرامة الوطنية ما يكفيها للدفاع عن نفسها... فقد أوقف كيم اندفاعة وغطرسة ترامب وقلّل من شأنه ودفعه إلى اتخاذ قرار إلغاء اللقاء الذي كان يحلم به وعينه على جائزة نوبل للسلام، ما اضطره لابتلاع لسانه وإعلانه استمرار إمكانية عقد اللقاء إذا ما رغب كيم بذلك!.
وعليه... لم يُفاجأ العالم بقرار ترامب بانسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع طهران، فقد أتى تتويجاً لسلسلة مواقف أميركية سبقت مجيئه إلى السلطة، اجتهدت لتحضير بيئة الصراع والمواجهة الجديدة في الشرق الأوسط، ليحلّ صراع التحالف العربي–الإسرائيلي ضد إيران محل الصراع العربي الفلسطيني-الإسرائيلي، كمقدمة للنيل من القضية الفلسطينية ولتصفيتها عبر ما يُسمّى بصفقة القرن، في وقتٍ بدأ فيه محور المقاومة يقف سداً منيعاً في وجه هذا المخطط، وبدأ يرسم الملامح الجديدة لوجه المنطقة بعد سلسلة انتصارات استراتيجية في معارك الوكيل الإرهابي والأصيل الأميركي- الإسرائيلي، ما أعاد الخطر الوجودي للكيان الغاصب إلى الواجهة، ومن بوابة الانتصارات في سوريا والعراق والصمود في اليمن، وباعتبار أن إيران – الثورة - قدّمت ومنذ أربعين عاماً نموذجاً جديداً للدعم الحقيقي للشعب الفلسطيني ولمقاومته ولكافة الشعوب المظلومة في المنطقة... لهذا اعتُمِدت استراتيجية شيطنة الدور الإيراني في كامل المنطقة العربية وحتى في دول أميركا اللاتينة وربما في كواكب أخرى!, واعتَبرت الولايات المتحدة الأميركية أن إيران هي الدولة الأولى الداعمة للإرهاب وللجماعات الإرهابية في العالم، وفرضت عليها حزمات من العقوبات المتنوّعة على شكل جرعات وموجات تصاعدية، ومع الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي بدأت الحكومة الأميركية بحثها الجدّي عن سياساتٍ وآلياتٍ جديدة لمواجهة دور ونفوذ الدولة الإيرانية بتشجيعٍ كبير من قادة العدو الإسرائيلي والأنظمة الخليجية.
يبدو أن شروط المُرشد السبعة وأيامها الستة، دفعت الأوروبيين لتوخّي الحذر ولجديّة الحياد والتخلّي عن جزء من المرواغة، فكان لقاء الـ 4+1 في فيينا إيجابياً وعزّز فُرَص استمرار الاتفاق، لكنه أجبرهم على البحث صراحةً عن التنازلات الإيرانية في اللقاء مع بوتين، ولم تبتعد مطالبهم عن تنازلات إيرانية في الملف السوري بشكل حصري، ما يؤكد عدم استقلالية القرار الأوروبي واستسلامه للإرادة الصهيو– أميركية.
لقد بات واضحاً أن الضغوط والعقوبات والتهديدات تتزايد على الدولة الإيرانية داخلياً واقليمياً وعالمياً وتبدو الأمور مرشّحة نحو المزيد من التصعيد الاقتصادي والسياسي وربما العسكري... فالأحلام والأوهام والأطماع تبدو مشرّعة على مصراعيها في كامل المنطقة ومن الصفقة الكبرى إلى المواجهة الكبرى، في وقتٍ أصبح فيه تعقّل العالم خيالياً مع قادة وأعداء أميركيين وأوروبيين وإقليميين وعرب وإرهابيين يبحثون عن الفوضى والدماء والخراب، في زمنٍ تغيب فيه القِيَم الأخلاقية والعدالة ويبتعد السلام.