انغلاق كياني رغم الاعتراف بانقلاب المُعادلات
لم تكن التجربة الكيانية اللبنانية رائدة في ما حقّقته للبنانيين، لا بل إن تركيبة الكيان كانت وبالاً على شعبه، وعلى شعوب المنطقة، فمنها تسرّبت مختلف أصناف الحروب، حيث عاش البلد منذ رسمت خطوطه العريضة 1918، والنهائية 1943، في مسلسل حروب وتوتّرات منعت تطوّره كدولةٍ ومجتمع، وصولاً إلى اليوم حيث بات اليأس يضرب مختلف الأجيال اللبنانية.
ومنذ نشأته، كان لبنان بلداً مُستباحاً ترتع فيه كل أصناف التيارات، والأجهزة الاستخبارية، وتغيب فيه الرقابة على مختلف الأمور، من كل الأصناف والمستويات. فقط في المرحلة التي يحب "الأربعة عشر آذاريون" تسميتها بـ "الوصاية السورية"، توقّفت استباحة البلد لمختلف الطروحات، وأجهزة الاستخبارات، ولم تكن إلا أسابيع معدودة بعد خروج آخر جندي سوري من لبنان 2005 حتى عادت الأجهزة تتغلغل كما في خمسينات وستينات القرن الماضي، يوم كانت بيروت توصَف كوكرٍ للجاسوسية العالمية ب"هونغ كونغ" الثانية.
وإذا كان بين اللبنانيين مَن يريد تأبيد الكيان اللبناني، والاعتقاد بتجذّره في عُمق التاريخ، في حالٍ أشبه ما تكون بالشاعرية الحالمة القائمة على بطولة مُصطنعة تعزيزاً لموقف إيديولوجي وسياسي معيّن، فإن بين اللبنانيين مَن يعتقد بشهادة التاريخ الحديث، أن لبنان أقامه الغرب الاستعماري في مرحلة صعوده موطىء قدم ليشنّ منه مخطّطاته على العالم العربي، وكانت أولى المواطىء التدخّل في أول انتخابات رئاسية أحلّت كميل شمعون محل حميد فرنجية سنة 1952، وكان المسعى بريطانياً بوضوح تمهيداً للآتي.
حُيِّد لبنان في الصراع بين مصر الناصرية العروبية في العدوان الثلاثي على مصر 1956، وكان برئاسة شمعون الذي جرّ لبنان إلى حلف بغداد المُعادي للناصرية، وبالتالي إلى أحداث 1958 التي عُرِفت بالثورة.
في مراحله المختلفة، لم يتوقّف الكيان اللبناني منطلقاً لقوى سياسية فيه، للعب دور مُعادٍ لتطلّعات شعوب المنطقة، والدفاع عن حقوقها، فكانت الحروب الطويلة ضد المقاومة الفلسطينية تحت الشعار الواهِم "الاحتلال الفلسطيني" للبنان، ثم الحروب المُتتالية بصِيَغٍ مختلفة ضد سوريا بدءاً من معارك بشير الجميّل يوم كان قائد ميليشيا حزب "الكتائب" و"الجبهة اللبنانية"، وذلك سنة 1977، ولم يكن مضى أكثر من عام على دخول قوات الردع العربية لإنقاذ "الجبهة اللبنانية" من الانهيار، والمناطق المسيحية من الاجتياح.
الاجتياح الإسرائيلي 1982 استهدف من لبنان جبهتين عربيتين في آن، الفلسطينية والسورية. نتذكّر أيضاً حرب التحرير ضد القوات السورية، وصولاً إلى الزلزال الكبير الذي استهدف في خلفيّاته الداخل السوري من الخاصرة اللبنانية، وهو اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
لذلك، بالمُجمل العام، شكّلت قوى الغرب الاستعماري الصاعِدة في حينه، الكيان اللبناني، ووضعت له إيديولوجيته التي يتبنّاها غالب اللبنانيين اليوم، لكن منهم مَن يتبنّاها على صداقة مع الداخل العربي، ومنه سوريا، ومنهم من يتبنّاها على أساس أن لبنان حال تاريخية سياسية ثقافية قائمة بذاتها، رغم أنه من الاستحالة ترصّد الحال اللبنانية في أية مرحلة من التاريخ. وعندما كانت تحين الفرصة للقوى الدولية الفاعِلة على الساحة اللبنانية، استخدمته منصّة هجوم على أشقائه العرب تحت ذرائع مختلفة، يعرف مُعدّو الهجوم تهيئتها، وتحضيرها، ويفصّلونها على قياس المرحلة. فكان الهجوم على مفهوم مركز هو "الاحتلال الفلسطيني" قبل الحرب الأهلية 1975، وخلالها، أو على العروبة التي تقضي على الكيان بتركيبته الديمغرافية ذات الغلَبة المارونية ما قبل الطائف، أو للتحرير من "الوصاية السورية" ما بعد الطائف، وال2005.
مُعدّو الكيان وظفّوه في استراتيجياتهم يوم كانوا قوى صاعدة، مسيطرة بلا مُنازع بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية. لذلك لم تهدأ الحرب في لبنان، ولم تمر عشر سنوات سلاماً فيه.
في ظلّ التركيبة الكيانية، نشأت تيارات رافضة للتفاعُل مع العالم العربي، كرّستها علاقات هؤلاء بدول وقوى خارجية، كفرنسا (الأمّ الحنون)، وإنكلترا ، والولايات المتحدة الأميركية، ووصولاً للتفاعُل مع الكيان الإسرائيلي. وفي كل الاحتمالات، ومهما كان شكل الهجوم، أو إطاره العام، فإن كل هذه القوى لعبت الدور عينه، أن تُهيّىء لبنان منصّة للقوى الخارجية للانقضاض على الداخل العربي، خصوصاً سوريا، وهذا ما شاهدناه ما بعد اندلاع الأحداث السورية سنة2011.
اليوم تظهر حالات متجدّدة، مُستنسَخة عن السابق، بصِيَغٍ مختلفة، منها ما يُعرَف ب"حرّاس الجبل"، تذكيراً ب"حرّاس الأرز" إبان الحرب الأهلية مُنتصف السبعينات، وما شابهها من تنظيمات عشّشت في الساحة المسيحية، ادّعت "الحرية"، و"الحفاظ على الهوية"، وتفعيل الخوف الأقلوي من الأكثرية المسلمة.
تنبعث صيغة "حرّاس الجبل" على صيغة "حرّاس الأرز" التي تربّت في كنفين، "الجبهة اللبنانية" المُتصالحة ضمنياً لفترةٍ من الزمن، وعلناً في فترةٍ لاحقة، مع الإسرائيلي، وفي الكنَف الإسرائيلي مباشرة في مراحل أكثر تقدّماً، وبات الظهور واضحاً لبعض الزعامات اللبنانية في فلسطين المحتلة تستقبلهم سلطات الاحتلال، وجوهاً تتصدّر الشاشة اليوم، وتنبعث من جديد.
يقول موقع "ليبانون فايلز" الالكتروني إن "حرّاس الجبل تنظيم يدعو لاستقلال جبل لبنان، والتفاهُم مع إسرائيل ضد العرب والمسلمين، ويحمل شعار عَلَم فرنسا وعليه صليب اللورين، وهو رمز للقوات الفرنسية الحرّة المُرتبط مع الوطنية الفرنسية وخاصة في صراعها مع ألمانيا".
كما تنبعث تجمّعات تتبنّى "الآرامية" وهي اللغة الأمّ التي انبثقت عنها الكنعانية، والسريانية، والعبرية، وسواها من لهجات القرون الوسطى، ولا تزال "معلولا" السورية، وبعض قرى أخرى قربها، تنطق بها إلى اليوم إلى جانب العربية. وبدلاً من أن تعتمد هذه الظاهرة النادرة تجربة ثقافية تطعن في عُمق التاريخ، ويجب الحفاظ عليها، وفَهْم الماضي من عناصر الحاضر، تعتمد مجموعات على اللغة الآرامية لتكوين حالة انفصالية تعزّزها النزعات التي تغذّت بوفود الغرب إلى بلادنا معتمداً على الأقليات موطئاً له. إحدى وسائل الإعلام اللبنانية وصفت هكذا تجمّعات ب "جواسيس لإسرائيل خلف قناع الآرامية"، وقد قام الأمن العام اللبناني بتوقيف فاعلين في هذا التجمّع، المُتّهم بالتواصُل مع العدو الإسرائيلي في السويد.
تكرّس لبنان نزعة انفصالية، رهيفة الحساسية أزاء الداخل العربي. بات من السهل على قوى مختلفة، ومُتباينة، أن ترفع السلاح بوجه العربي، إرضاء لسيّدٍ أجنبي. ولم يكن ينقصه إلا التعبئة المُعادية للعروبة، خصوصاً لسوريا، ومحاولة تكريس الكيان اللبناني حالة أبدية، مُتمايزة، قائمة بذاتها، مُتناسية أنها لم تولد إلا من رحم أسوأ اتفاقية مُعادية لشعوب المنطقة "سايكس- بيكو"، وقد تجلّى كل ذلك في ظهور الحركة الملوّنة "14 آذار"، مع كل الشحن الذي مارسته ضد السوري، بروحيّة ذروة في عنصريّتها، كأن سعادة السفيرين "سايكس"، و"بيكو" يرسمان اتفاقيتهما الآن، بكل زخمهما، وزخمها.
انقلبت موازين القوى في سوريا في الحرب الحالية، وينهزم بكل وضوح مشروع القوى القيّمة على اتفاقية سايكس-بيكو. وتداعيات الانقلاب آتية لا محالة إلى لبنان، لكن رئيس الحكومة اللبنانية يُصرّح بكل عدوانية تعصّبية أنه "مستحيل أن تروني في سوريا حتى ولو انقلبت كل معادلات المنطقة"، وبذلك يحاول جرّ بلد برمّته لنزعته الانفصالية التي تربّى عليها كثير من القوى اللبنانية، فهل بهكذا روحية يمكنه تشكيل حكومة؟ ومتى؟
ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، وكأنه لم يعد له ما يخسره، يحاول إرضاء زائره الفرنسي الرئيس السابق ساركوزي بتصريح، ربما لم يعرف ساركوزي مغزاه، يظهر مدى نزعته الانفصالية المُكرّسة بتقسيم المنطقة، بما لم يعد الفرنسي مُستعدّاً للنُطق به، وإن عبّر ذلك عن شيء، فإنما عن الانخراط الجنبلاطي المعروف في "الفرنساوية" الراحلة. يقول: "(أخاف) أن نغرق في خلافات ربما قد تجرّنا إلى إلغاء لبنان الكبير، وإنشاء سوريا الكبرى"، لغة أشبه ما تكون تهكّمية، من ال1918، تستقر كرصاصة منطلقة منذ ذلك الحين في ال2018، لكنها.. هل تؤذي إلا مطلقها؟
في عالم نحا في السنوات الماضية نحو المزيد من الوحدة، كما الاتحاد الأوروبي، وينحو اليوم نحو توحّد آسيوي واسع، وقد يكون أورو-آسيوي، ما يزال بعض قادتنا في سكرتهم الانفصالية، بينما يتقدّم الجيش السوري لضرب آخر معاقل المؤامرة على سوريا والمنطقة، ولم يبق إلا أن يواصل تقدّمه لاستعادة لبنان إلى حضنه الأمّ، ويحرّره من موبقات عصر سيطرة سعادة السفيرين "سايكس" و"بيكو".. فتتشكّل إذ ذاك الحكومة اللبنانية المرجوّة، المُتناسبة مع "انقلاب مُعادلات المنطقة"، حسب وصف الرئيس الحريري.