هل أعلنت قمّة "هلسنكي" نهاية الحرب السورية؟
في مثل هذه القمم يقع الجهد الرئيسي على عاتق اللجان التحضيرية التي تلتقي مراراً، وتقوم بمناقشة كلّ المواضيع التي سيتم طرحها بما فيها البروتوكولية منها، تاركةً للرئيسين مناقشة المواضيع التي لم تتوصّل اللجان إلى التفاهم حولها. وهنا نلاحظ أن الاتفاق على عقد مؤتمر صحفي هو دليل على أن الرئيسين قد توصّلا إلى تفاهمٍ حول معظم القضايا الّتي تم طرحها.
سواء كان الاعتراض الأميركي الداخلي على القمّة الروسيّة الأميركيّة هو اعتراض حقيقي أو كان مجرّد مسرحيّة، فهي لم تقنعنا بفشل تلك القمّة، أو بوجود تيّارات قويّة ترفض انعقادها بذريعة ضعف التحضير. بمعنى آخر، فإن الملفّات التي كانت في حوزة الرئيس الأميركي لم تكن كافية في مواجهة رئيس دولة بحجم وقوّة ودهاء الرئيس الروسي. وهذا ما انعكس ضعفاً في الأداء والحضور الأميركي كان نتيجته تسليم الملفّ السوري بشكلٍ شبه كامل للقيادة الروسية، والاعتراف ولو بشكلٍ غير ظاهر بعودة الثنائية القطبية لقيادة العالم، مقابل مطالب أميركية لم ترقَ إلى مستوى هذه القمّة وهذه التنازلات.
ولو تركنا موقف المُعارضين جانباً، نرى أنّ المطالب الأميركية هي قيد الإنجاز، وأهمّها هو ضمان روسيا لأمن إسرائيل، والتعهّد بعدم السماح برفع سعر النفط عالمياً، وتحديد الصادرات النفطية الروسية إلى أوروبا كي تترك هامشاً للنفط الصخري الأميركي، والأهمّ هو ما صرّح به الرئيس الروسي بأنّ روسيا وعلى المستوى الرسمي لم تدعم حملة "ترامب" الانتخابية، وإنّها مستعدّة للتعاون مع لجان تحقيق أميركية بهذا الخصوص، وهذا يُعتَبر تبرئة لترامب من تهمة التدخّل الروسي لصالحه.
وبالتأكيد، فإنّ مَن يتابع مجريات الحرب على سوريا، يرى بأنّ التسليم الأميركي للملفّ السوري ليس وليد النصر في معركة الجنوب، بل كان تسليماً تراكمياً متسلسلاً، بدأ مع نهاية معركة تحرير حلب وتواتر بخطوة أميركية إلى الوراء مقابل كلّ خطوة تحرير للجيش السوري.
أمّا ما يدفعنا إلى هذه القراءة فهو عدّة نقاط لا بدّ من التوقّف عندها:
- أولاً: في مثل هذه القمم يقع الجهد الرئيسي على عاتق اللجان التحضيرية التي تلتقي مراراً، وتقوم بمناقشة كلّ المواضيع التي سيتم طرحها بما فيها البروتوكولية منها، تاركةً للرئيسين مناقشة المواضيع التي لم تتوصّل اللجان إلى التفاهم حولها. وهنا نلاحظ أن الاتفاق على عقد مؤتمر صحفي هو دليل على أن الرئيسين قد توصّلا إلى تفاهمٍ حول معظم القضايا الّتي تم طرحها.
- ثانياً: كان لافتاً في المؤتمر الصحفي استحضار قراراتٍ أمميةٍ كاد العالم أن ينساها: القرار 242 عام 1967 والذي ينصّ على انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها في النزاع الأخير (الجولان وغيرها). والقرار 338 عام 1974 والذي ينصّ على وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل والبدء بمفاوضات سلامٍ شاملٍ.
- ثالثاً: سحب عصابة الخوذ البيضاء من سوريا بشكلٍ سريعٍ ومفاجئٍ. وهنا نستطيع أن نلاحظ من طريقة تنفيذ الانسحاب وسرعته بأنّ الأميركي أراد وبأيّة وسيلة إنقاذ أدواته التي أصبحت تحت الخطر السوري، وطمس معالم ارتباطه بها بعد أن انتهى مستقبلها على الأرض السورية. وهذا مؤشرٌ على نيّة أميركا بالانسحاب نهائيّاً من اللعبة السورية، بينما يريد الروسي أن يكون هذا الانسحاب فضيحة للأميركي ودليلاً دامغاً على علاقته مع منظّمة الخوذ البيضاء الإرهابية.
- رابعاً: إصرار الرئيس الأميركي على عقد قمّة مُغلَقة تقتصر عليه وعلى الرئيس الروسي فقط. تلك الخلوة التي تجاوزت الزمن المُتّفق عليه، أظهرت الرئيس الأميركي بمظهر الضعيف الذي يستجدي شيئاً، ربّما كان مساعدة روسية في الانتخابات الأميركية القادمة.
- خامساً: بحسب التسريبات، فإنّ الرئيس الروسي طرح مسألة انسحاب إسرائيل من الجولان السوري المحتل مقابل انسحاب إيران وحزب الله من سوريا.
- سادساً: زيارة وزير الخارجية الروسي إلى إسرائيل برفقة وفدٍ عسكريٍ يرأسه رئيس الأركان الروسي. هذه الزيارة أوحت بأنّ هناك نقاطاً عسكرية يجب الاتفاق عليها، وهذا ما صرّح به مسؤولون إسرائيليون عندما قالوا بأنّهم لم يرفضوا الطرح الروسي، ولكنّهم طرحوا مطالبهم بالمقابل. أمّا مسألة إسقاط الطائرة الحربية السورية بنفس توقيت الزيارة، فما هي إلّا رسالة طمأنةٍ للداخل الإسرائيلي مفادها أنّ الموقف الإسرائيلي لم يزل قويّاً، وأن المفاوضات مع الروس تستند إلى هذا الموقف، وهذا يتناقض مع مُجريات الأحداث على الأرض.
وهنا لا نستطيع إلا أن نبقي حيّزاً للمكر الأميركي الذي يمكن أن يدفعه للتنصّل من أيّ اتفاق وقتما يشاء. ما يدفعنا إلى هذا القول هو الأسلوب الأميركي الواضح في محادثات الفصائل الكردية مع الحكومة السورية، والتي قد يكون هدفها الأساس هو تحويل الاهتمام السوري إلى إدلب بشكلٍ كاملٍ، بعد أن كان هذا الاهتمام يتوزّع بين إدلب وبين مناطق الاحتلال الأميركي في الشمال الشرقي. ولقد ظهر هذا جليّاً في مقابلة الرئيس السوري بشّار الأسد بتاريخ 31 / 5 / 2018 مع شبكة "روسيا اليوم" الإخبارية حيث هدّد قائلاً "إن لم نعش مع بعضنا باعتبارنا سوريين، فسوف نلجأ إلى تحرير تلك المناطق بالقوّة. هذه أرضنا، ومن حقّنا، ومن واجبنا تحريرها، ويجب على الأميركيين أن يغادروا المنطقة، وسوف يغادروها بطريقة أو بأخرى".
الأميركيون الذين أصبحوا يعرفون ماذا يعني كلام الأسد، أخذوا هذا التهديد على محمل الجد، بعد أن وصلتهم الرسالة بأنّ الوجهة الشمالية الشرقية للجيش السوري قد أصبحت ضمن البرنامج العسكري القريب، وما على الأميركيين وأدواتهم سوى الالتزام بتعهداتهم والانسحاب من الحرب على سوريا، أو انتظار القرار العسكري السوري الذي لم يخطئ حتى الآن.