بداية التحرّر من الدولار.. ختام حروب التحرير الوطنية

حتى السبعينات، كانت الأمور تسير على ما يرام بهذه الاتفاقية، إلى أن وقعت "صدمة نيكسون" حيث أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها لن تستطيع تسليم الذهب بمقابل الدولار، وراحت بعد ذلك تطبع أوراق الدولار النقدية من دون تغطية بالذهب، واكتشف العالم آنذاك أن الولايات المتحدة اشترت ثروات الشعوب، وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبياً لها.

اكتشف العالم آنذاك أن الولايات المتحدة امتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء

في الصراع من أجل التحرّر الوطني، أي التحرّر من السيطرة العسكرية والسياسية التي مارستها الولايات المتحدة الأميركية منذ تولّيها قيادة العالم الرأسمالي في الحرب العالمية الثانية، وانكفاء بريطانيا وفرنسا المُنهكتين بحربين عالميتين، وبهزيمة ألمانيا، جرت عمليات مد وجزر واسعة، وشنّت الولايات المتحدة العديد من الحروب على دول العالم، وأقامت مئات القواعد العسكرية، وأبرزها القاعدة الصهيونية في فلسطين بهدف تكريس سيطرتها العسكرية والسياسية، وكسب المزيد من السيطرة على اقتصاد العالم، مُستخدمة تقنيات وبنوكاً وصناديق بأشكال متلوّنة في خدمة هذه السيطرة.

عاش العالم الغربي فترة واسعة من الرخاء الاقتصادي، والبحبوحة الداخلية في أقطاره، بسبب سيطرة بعض دوله على العالم، واستغلال المجتمعات، ونهب ثرواتها، ما جعل اقتصادياتها متقدّمة وقوية، وقادرة على تأمين رفاهية لشعوبها.

في خضّم الصعود الامبريالي الأميركي، وسيطرة الولايات المتحدة الأميركية الواسعة على مناطق وبلدان شاسعة، ورغم الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي قبل انهياره أوائل التسعينات، وضعت الولايات المتحدة الأميركية خطة استشرفت فيها مستقبل هيمنتها الاقتصادية على العالم، وهي غاية الهيمنة العسكرية والسياسية، والخطة وضِعَت عام 1944 في ما عُرِف ب"اتفاقية برتون وودز"، وجوهرها  جَعلُ الدولار المعيار النقدي الدولي لكل عملات العالم.

بموجب هذه الاتفاقية، أكّدت الولايات المتحدة الأميركية لكل الدول المعنية بأنها تمتلك غطاء من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات، ونصّت الاتفاقية على أن مَن يُسلّم أميركا 35 دولاراً تُسلّمه أميركا "أوقية" من الذهب، فاطمأن العالم إلى قوّة الدولار الذي اكتسب لقب "العملة الصعبة"، وتحوّل الدولار بنظر العالم غطاء بديلاً من الذهب، وقامت الدول بجمع أكبر قدرٍ من الدولارات في خزائنها على أمل تحويل قيمتها إلى الذهب في أيّ وقت تريد.

حتى السبعينات، كانت الأمور تسير على ما يرام بهذه الاتفاقية، إلى أن وقعت "صدمة نيكسون" حيث أعلنت الولايات المتحدة الأميركية أنها لن تستطيع تسليم الذهب بمقابل الدولار، وراحت بعد ذلك تطبع أوراق الدولار النقدية من دون تغطية بالذهب، واكتشف العالم آنذاك أن الولايات المتحدة اشترت ثروات الشعوب، وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبياً لها.

هكذا تحوّلت الدولارات، وما زالت، إلى مجرّد أوراق نقدية تطبعها الماكينات الأميركية.

خلال حروبها، ووجهت الولايات المتحدة الأميركية بمقاومة مختلفة الأشكال، ودخلت الحرب السورية، وبين مدٍ وجزرٍ، تشارف الحرب السورية على الانتهاء، وفي خضمّ الصراع فيها، وفي ظلالها، حدثت تطوّرات كبيرة، حيث عادت روسيا-وريثة الاتحاد السوفياتي- للعب دور كبير على مستوى العالم، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، بالتحالف مع الصين كواحدة من أقوى اقتصاديات القرن، وتكرّست إيران كدولة صاعدة على كل الصعد، وأرسيت في السنوات الأخيرة سياسات أكثر استقلالية من قبل مختلف الدول، وأبرزها دول "البريكس" التي بدأت تتّخذ، بالتدرّج، منحى الاستقلال الاقتصادي عن الدولار، واعتماد العملة الوطنية للتبادُل التجاري، والذهب كاحتياط. وتتّسع المشاركة الدولية في هذا المنحى، بدفعٍ من المحور الشرقي، حيث تتّجه تركيا كدولة استراتيجية في مُنتصف الطريق بين الشرق والغرب، لاعتماد سياسة "البريكس" الاستقلالية، وربما الانضمام إليها، وتأتي قمّة قزوين لتنظف وسط آسيا من الوجود الأميركي.

في عنوان "نهاية البترو دولار تلوح في الأفق بوقف الاعتماد عليه من قبل الصين وحلفائها"، أعلن أحد كبار خبراء الاقتصاد الدوليين ل"رويترز" أيلول 2017، أن الصين بدأت إجراءات تعتمد "اليوان" الصيني، القابل للتحوّل إلى ذهب، في عقود النفط الخام، وقد يؤدّي اعتماد الخطة إلى بروز مؤشّر آسيوي جديد للنفط الخام، ينافس البرانت، وسواه من مؤشّرات، كما تسعى فنزويلا لتجنّب التعامُل بالدولار في تجارتها النفطية، لتلافي العقوبات الأميركية المفروضة عليها.

ويرى الخبير أن السياسة الأميركية تعتمد الضغط على الدول عند وقوع خلاف معها، وصولاً إلى إفلاس هذه الدول، ولذلك تعتمد بعض الدول المُلمّة بالأمر كروسيا والصين  ودول أخرى، سياسة إبعاد التجارة العالمية، والتبادل المالي العالمي عن سياسة الولايات المتحدة، ويعطي الخبير مثالاً عن الصين كأكبر زبون للنفط الخام ، أن الدول بإمكانها الاعتماد على اليوان الصيني في تعاملها التجاري مع الصين إذا أرادت تلافي العقوبات الأميركية، ويرى الخبير أن عدداً من الدول بدأ اعتماد هذا المبدأ كروسيا والصين وفييتنام وإيران وباكستان، ودول آسيوية أخرى.

ويؤكّد الخبير أن هذا الاتجاه جارٍ لكنه يسير ببطء، والتحوّل بعيداً من الدولار سيتسغرق وقتاً، متوقعاً

 أن يجري التحوّل من الدولار إلى العملات الوطنية في التعاملات التجارية بطريقةٍ أسرع من التحوّل من السترلينغ الإنكيزي نحو الدولار، فيومئذ، لم يكن أحد مستعجلاً لتحقيق هذا التحوّل، أما اليوم، فإن روسيا والصين وإيران ودول أخرى عديدة، ترغب في ذلك بقوة"، ولذلك، يتوقع الخبير أن يتم التحول بطريقة أسرع، وأن يظهر ذلك بوضوح أكثر في السنوات العشر المقبلة.

برز هذا الاتجاه بقوّة أكبر من السابق في سياق الحرب السورية خاصة، وفي ظل الانتصارات التي حقّقها المحور الشرقي في سوريا، والهزيمة التي يُلحقها بمشروع التحالف الأميركي في المنطقة، وكلما كان المزيد من الانتصارات يتحقّق، كان المزيد من الدول يتجرّأ على البدء بالتحوّل للاعتماد على العملات الوطنية، وعلى الذهب كاحتياط، بادئة بالتحرّر من سيطرة الدولار، وسيطرة الولايات المتحدة عليها بواسطته.

ومن هنا، فرضت كل من الصين وإيران عملاتهما الوطنية في عمليات التبادل التجاري بالنفط، وقد يكون هذا الاتجاه الذي مضت فيه قطر بطريقةٍ نسبيةٍ مع إيران والصين، عاملاً من عوامل الضغط الذي تعرّضت له، والتهديدات التي تلقّتها من محورها السابق، بزعامة سعودية في الخليج.

وفي زيارته الأخيرة إلى تركيا أواسط آب الجاري، قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن "هناك مساعٍ لتداول العملة الوطنية في التعاملات التجارية بين تركيا وروسيا وإيران" وذلك إثر دخول تركيا أزمة اقتصادية بسبب توجّهها الاستقلالي عن الدولار الأميركي.

على مشارف نهاية قرن من حروب التحرّر الوطنية، في البدايات على المستويات العسكرية والسياسية، واليوم على المستوى الاقتصادي استكمالاً لتلك الحروب، وترجمة لها، نشهد بداية نهاية السيطرة الامبريالية على العالم بتراجع الدولار، علّنا نحتفل بنهاية القرن من الصراع، أي بعد نحو عشر سنوات، بنهاية هذه السيطرة، ودخولنا عالماً جديداً أكثر حرية، وعدالة، والأهم، أكثر سلاماً على شعوب العالم قاطبة.