الهواجِس التركية شرق سوريا والبحث عن حلول

إنشاء منطقة عازِلة ليس طرحاً تركياً جديداً، استجدّ على ضوء المُتغيّرات السياسية والعسكرية المُتعلّقة بالشأن السوري، فمع بداية الحرب المفروضة على سوريا، سعى أردوغان لإنشاء منطقة عازِلة شرق سوريا، لكن طموحات أردوغان اصطدمت برفض جميع الأطراف الفاعِلة في الشأن السوري، ومع تداعيات القرار الأميركي الخبيث في الانسحاب من سوريا.

ستافريديس: إن ما نحتاجه في وقتنا الحالي هو إنشاء نوع جديد من الحواجز بين تركيا وسوريا

ضمن نظريات البحث عن مُعادلات إقليمية جديدة تؤمّن الحد الأدنى من المكاسب السياسية، تحاول تركيا بلوَرة جُملة من الأهداف الإقليمية، لا سيما تلك المتعلّقة بالكرد، فضلاً عن محاولة تأمين موقع مُتقدّم في أية مفاوضات تُمهّد للبدء بالحل السياسي في سوريا، لكن ومع قرار ترامب المُتعلّق بالانسحاب من سوريا، يبدو أن تركيا باتت الحلقة الأضعف في سلسلة التناقضات والتعقيدات المُتعلّقة بالقرار الأميركي، فاستراتيجية اللعب على الحِبال لم تؤمِّن لتركيا حقيبة سياسية يمكن البناء عليها، أو حتى طرح ما تحتويه من أوراق قوّة سياسية، ضمن هذا السياق، تسعى تركيا أردوغان لإيجاد مركب يؤمّن لها الخروج الآمِن من المستنقع الجيوسياسي في سوريا، وهي بهذا تبدو في إطار البحث عن مُعادلات جديدة لإعادة فَرْض نفسها كقوّة إقليمية، وحَجْز مقعد تفاوضي مستقبلي، وبالتالي سيحاول أردوغان مُجدّداً اللعب على القوى الفاعِلة في الشأن السوري، لا سيما تعميق التحالف مع روسيا وإيران، اللتان ستمهّدان لفتح أبواب دمشق للضيف التركي النادِم، على أن يتمّ ذلك وفق توقيت دمشقي يتناسب وحجم الانتصار السوري، لكن في مقابل هذا التحوّل المُفترَض.

من المُرجَّح أن يؤثّر التحوّل التركي على استمرار سياسة واشنطن الجديدة في سوريا، من هنا ينبغي أن تفكّر واشنطن وتعمل على تأمين حلول تُرضي الحليف الأطلسي، لذلك استشعرت الإدارة الأميركية إمكانية التحوّل الأردوغاني، لتقوم بإرسال السيناتور الأميركي ليندسي غراهام إلى أنقرة في وقتٍ سابق، وفي جعبته تطمينات تُبدِّد هواجس أردوغان القَلِق، ما يُفسِّر تصريحات غراهام عقب لقائه أردوغان ووزيريّ الخارجية مولود جاويش أوغلو، والدفاع خلوصي أكار، إذ شدَّد غراهام على ضرورة حلّ مشكلة التنظيمات الكردية التي أحدثتها واشنطن لتركيا في سوريا، وقال غراهام: "عندما علِمت بخطّة تسليح التنظيمات الكردية من قِبَل الولايات المتحدة عرفت جيّداً ما يعنيه هذا الأمر بالنسبة لتركيا"، وتابع : "علينا حماية تركيا وحلّ مشكلة التنظيمات الكردية التي أحدثناها لها في سوريا".
الواضح أن تصريحات غراهام تحمل في جزئيّاتها المزيد من التعقيدات والتحديات بالنسبة لأردوغان، َبيْد أن ترامب يسعى جاهِداً في مقابل ذلك، لإثبات أن الانسحاب من سوريا لن يكون على حساب المصالح الأميركية في المنطقة، بل على العكس، سيحافظ على تحالفاته بتطبيق سياسة العصا والجزرة مع حلفائه الكرد والأتراك، فقد أعرب "ترامب"، بأنه لن يكون هناك أيّ تهديد للجماعات الكردية السورية الموالية لواشنطن عقب انسحاب قوات بلاده من سوريا، ولفت إلى أن تركيا ستواصل هجماتها العسكرية على تنظيم داعش الإرهابي، إلا أن هذا التفاؤل لم يستمر طويلاً، فلقد قامت القوات التركية بالانتشار على الحدود الجنوبية، وأصبح من الواضح أن "أنقرة" تعتبر الجماعات الكردية القاطِنة بالقرب من الحدود الشرقية تهديداً على مصالحها أكثر من تنظيم "داعش" الإرهابي، وبالتالي محاولات الساسة الأميركيين لم تُفلح في تحديد آليات تعمل على إزالة المخاوف التركية، ليتمّ لاحقاً طرح نظرية إنشاء منطقة عازِلة تضمن مصالح واشنطن وتبدّد هواجِس تركيا.

إنشاء منطقة عازِلة ليس طرحاً تركياً جديداً، استجدّ على ضوء المُتغيّرات السياسية والعسكرية المُتعلّقة بالشأن السوري، فمع بداية الحرب المفروضة على سوريا، سعى أردوغان لإنشاء منطقة عازِلة شرق سوريا، لكن طموحات أردوغان اصطدمت برفض جميع الأطراف الفاعِلة في الشأن السوري، ومع تداعيات القرار الأميركي الخبيث في الانسحاب من سوريا، في مقابل حشد عسكري تركي للانقضاض على شرق الفرات والقضاء على الكرد، أجبرت هذه المُعطيات أميركا على الرضوخ للمطالب التركية، والموافقة مبدئياً على إنشاء منطقة عازِلة ومنح أردوغان القَلِق كل الضمانات اللازمة بأن الكرد لن يشكّلوا أيّ تهديد على أمن الحدود التركية.

"جيمس ستافريديس" الأدميرال المتقاعد والقائد السابق في قوات حلف الناتو قال: "إن ما نحتاجه في وقتنا الحالي هو إنشاء نوع جديد من الحواجز بين تركيا وسوريا، بحيث تتمكّن قوات تابعة للأمم المتحدة من القيام بدوريات في تلك المنطقة، أو أن تكون تلك المنطقة تحت مُراقبة أميركا وروسيا، ويمكن للأتراك أن يكونوا في جهة والكرد السوريون في الجهة الأخرى، ولهذا فإننا في النهاية سنحتاج إلى إنشاء منطقة عازِلة".
التصريحات والمخاوف الأميركية التركية شي، والتطبيق الواقعي على الأرض شيء آخر، وبصرف النظر عن هواجِس أردوغان وطموحات ترامب، الواقع أن تركيا تقوم بتمثيل دورها السياسي جيّداً، إذ تسعى من خلال المنطقة العازِلة إلى قَضْم الجغرافية السورية، وإعادة خَلْط أوراق الانتصار السوري، والعمل على رسم ملامح استراتيجية جديدة ضمن مشهديّة الشرق السوري، لكن في مقابل ذلك، فإن الدولة السورية وحلفاءها ينظرون بعين الثقة للتحرّكات الأميركية والتركية وأحلامهم الخائِبة، فالحماقة الأميركية التركية لم تعِ بأن إنشاء المنطقة العازِلة يحتاج لقرار أممي لن ينجو من فيتو روسي، وأيّ سيناريو أميركي تركي خارج الأروقة الأممية سيصطدم أيضاً بفيتو عسكري سوري، فالزُخم الهجومي الذي بات يمتلكه الجيش السوري سيُبدِّد أحلام ترامب وأردوغان على السواء.
في جانبٍ آخر، لا يمكن اعتبار أن القمّة التي جمعت بوتين وأردوغان في موسكو، مختلفة شكلاً ومضموناً عمّا سبقها من لقاءات، فالواضح أن أردوغان دائماً ما يصطدم بصلابة الموقف الروسي المُدَّعم بقرار سيادي سوري، وعليه فإن أردوغان أثناء بحثه عن أيّ مكسب سياسي هنا أو هناك، لا يكون ذلك إلا مناورة ربع الساعة الأخير، فموسكو تُدرك جيّداً بأن تركيا أردوغان تُجيد اللعب على حبال السياسية، ومن الضروري استيعاب هواجس أردوغان الباحِث عن مخرج مُشرِّف يُبقيه على تلّة أوهامه العثمانية.