المعارضة في فنزويلا تستحضر أحداث 1958

رفضَ البرلمان استقبال أداء القسَم للرئيس مادورو، على اعتبار أنه "رئيس غير شرعي". في هذه الحال، ينصّ الدستور الفنزويلي على أن الكلمة الفصل تكون للمحكمة العليا التي أقرّت بشرعية مادورو، وطلبت منه تأدية القسَم في مقرّ المحكمة بدلاً من البرلمان. ردّت المعارضة على ذلك بعدم الاعتراف أيضاً بشرعية المحكمة العليا، وأعلنت عن تأسيس محكمتها الخاصة.

فنزويلا تمثّل أصل الأزمة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية منذ وصول هوغو تشافيز إلى السلطة

يمكن اعتبار الثالث والعشرين من كانون الثاني، يوماً قابلاً للتأويل استناداً إلى أحداث نفس اليوم من عام 1958م، حيث تمكّنت الحركة المدنية وبالتحالف مع الجيش من إسقاط ماركوس خامينيث، والبدء في التحضير لتشكيل حكومة مُنتخَبة، على النقيض من حكومة خامينيث التي وصلت إلى السلطة عبر انقلاب عسكري.
تُجمِع المعارضة وحكومة الثورة البوليفارية في فنزويلا، على أنه يوم يستحق هذا الحجم الكبير من الاستعادة، فلذلك أغرق فيه المؤيّدون للطرفين شوارع كاراكاس.
اعتبر هوغو تشافيز هذا اليوم خلال حُكمه، يوماً لمراجعة المسؤولين بصرامة، ولتأكيد الحوار الشعبي الذي اعتبره الدعامة الرئيسة للديمقراطية، وهو ما أسماه الديمقراطية التشارُكية، على أن الديمقراطية ليست زيارة موسمية إلى صناديق الاقتراع، تحدث مرة كل أربع أو خمس سنوات، وبعدها يعود المواطن إلى نمط الحياة السلبي المُعتاد. ما كان يعنيه تشافيز بالديمقراطية التشارُكية، هو دَمْج المجتمع في القرارات والتنفيذ، وتشكيل الهيئات المحلية لإدارة موازناتها الخاصة، وتنفيذ المشروعات. جعلَ تشافيز من الثالث والعشرين من كانون الثاني يوماً لتأكيد هذه الديمقراطية التشارُكية.
المعارضة نزلت كي تستحضر الذكرى عبر مُقاربتها الخاصة؛ أن تحالف الجيش والحركة المدنية أسقط الديكتاتور خامينيث عام 1958م، واليوم يريد "التحالف نفسه" إسقاط مادورو. تنطوي هذه المعالجة على قياسٍ فاسدٍ يتمثل في عنصرين أساسيين؛ الأول أن مادورو وصل إلى السلطة عبر انتخابات أدارتها نفس الهيئات التي جاءت بالبرلمان، والثاني أن تحالف القوى المدنية والجيش الذي أطاح بخامينيث ليس حاضراً في حال مادورو، استناداً إلى أن بيان الجيش قد رفض إعلان غوايدو رئيساً مؤقتاً للجمهورية، وأن الحشود المؤيّدة للحكومة البوليفارية في فنزويلا تعتبر - هي الأخرى – أن الذكرى تعنيها.
على قمّة رأس الهرم في الصراع بين الفقراء ورجال الأعمال في فنزويلا، تدور معارك وجِدالات دستورية بين الأقطاب السياسين الثلاثة؛ رئاسة الجمهورية والبرلمان والمحكمة العليا. فقبل العاشر من كانون الثاني، وهو اليوم المُخصّص كي يؤدّي الرئيس المُنتخب نيكولاس مادورو القسَم امام البرلمان، شكّل البرلمان المؤلّف من أغلبية مُعارضة هيئة رئاسية جديدة، وأعلن عن رئيس جديد، اختير بعناية كي لا يمثل وجهاً معارضاً فاقعاً، إن غوايدو يعمل بمثابة الواجهة الناعمة لتيارات المعارضة، التي فشلت في الاتفاق على مرشّحٍ رئاسي واحدٍ خلال الانتخابات الماضية، الأمر الذي فرَض عليها خيار المقاطعة.
رفضَ البرلمان استقبال أداء القسَم للرئيس مادورو، على اعتبار أنه "رئيس غير شرعي". في هذه الحال، ينصّ الدستور الفنزويلي على أن الكلمة الفصل تكون للمحكمة العليا التي أقرّت بشرعية مادورو، وطلبت منه تأدية القسَم في مقرّ المحكمة بدلاً من البرلمان. ردّت المعارضة على ذلك بعدم الاعتراف أيضاً بشرعية المحكمة العليا، وأعلنت عن تأسيس محكمتها الخاصة.
على قمّة رأس هرم الصراع والجدال السياسيين بين الأقطاب الثلاثة، ترتسم ملامح الصراعات الدولية،، فما تحاول المعارضة فعله الآن هو بناء مؤسّسات بديلة عن مؤسّسات الدولة التاريخية، ومحاولة إفقادها شرعيتها، وعبر الدعم الأميركي لهذه الخطوة تؤسّس لصراع داخلي حاد يقدّم المُبرّر الكافي للولايات المتحدة للتدخّل والخلاص النهائي من العقدة الكأداء في طريقها التي زرعها هوغو تشافيز منذ نهاية التسعينات إلى اللحظة. رفضت دبلوماسية الولايات المتحدة الأميركية مغادرة فنزويلا بعد إعلان مادورو قطع العلاقات معها، مُعتبرة أن الطلب جاء من طرفٍ غير رسمي، وإن كان يسكن ميرافلوريس إلى اللحظة، ومع ذلك غادر الدبلوماسيون الرئيسيون لاحقاً.
يُعبّر نائب الرئيس الأميركي، بنس عن دعمه للمعارضة الفنزويلية في احتجاجاتها، ويُعتبر تصريحه هذا نيابة عن الشعب الأميركي، الذي أرسل مثقّفوه سابقاً رسالة إلى هوغو تشافيز يقدّمون له الاعتذار عن التدخّل الأميركي في شؤون بلاده ومحاولة الهيمنة عليها، إبان محاولة الانقلاب عام 2002م. لم تتّخذ الولايات المتحدة موقفاً في غاية الوضوح من انقلاب 2002م، كما تفعل الآن وكأنها تُديره بنفسها؛ وعبر جميع الهيئات الدولية تحاول عزل الدبلوماسيين الفنزويليين، واستصدار قوانين ضد فنزويلا.
في منظمة الدول الأميركية (OAS) رفعت الناشطة ماديا بنجامين لافتة تكتب عليها "لا تدعموا الانقلاب في فنزويلا"، في إشارة إلى رفض مشروع القرار، الذي تحاول الولايات المتحدة تمريره، والقاضي بإدخال المساعدات الإنسانية لفنزويلا، التي ستحمل معها ما تحمل من التدخّل وتهيئة أوضاع جديدة. إنه لمِن الغريب حقاً أن تبدأ الولايات المتحدة في الحديث عن المساعدات الإنسانية، في نفس الوقت الذي تفرض فيه العقوبات على فنزويلا، وتمنع دخول السلع إلى البلاد عبر علاقاتها مع رجال الأعمال في المعارضة، وتحاصر النفط الفنزويلي، وتحجز على مليارات الدولارات في البنوك العالمية. أيّدت هذا المشروع 16 دولة من أصل 34 دولة في المنظمة، وفي سياق ممائل، رفضت 18 دولة في مجلس الأمن التدخّل في شؤون فنزويلا.
تُقدّم الولايات المتحدة الأميركية كل الإغراءات الممكنة لنزع الشرعية عن دبلوماسيي فنزويلا الرسميين، أو محاولات توجيه مواقفهم، كإعلان الملحق العسكري في واشنطن اعترافه بغوايدو، أو العرض الذي قدّمه غواديو نفسه لعناصر الجيش بإعفائهم من العقوبات السابقة جميعاً في حال عدم الاعتراف بمادورو.
فنزويلا تمثّل أصل الأزمة بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية منذ وصول هوغو تشافيز إلى السلطة، لذلك أحاطتها مؤخّراً بطوْقٍ من أنظمة اليمين في القارة اللاتينية، وساهمت عبر العقوبات وتوليد التضخّم الاقتصادي في خلق أزمة حادّة في الداخل، يُطلَب من النظام حلّها في ظلّ شروط مُعقّدة.