قمّة سوتشي 2019: نحو حلف قوي صاعد و صامد

إن منطقة الشرق الأوسط برمّتها تعيش تحت بركان هائج قابل للإنفجار في أي وقت ممكن بحيث تشهد تلك المنطقة تصاعداً متواصلاً في لهجة الوعد والوعيد مع التهديد والتصعيد. أما في المقابل فنلاحظ هرولة نحو التطبيع الذي أصبح علناً بين الدول الخليجية وإسرائيل مع السعي للتكتل في حلف وارسو المشكل للناتو العربي الجديد ضد سياسات إيران في المنطقة وخاصة منها ضد حقها لإمتلاكها للسلاح النووي.

من قمة سوتشي بين بوتين وروحاني وإردوغان (أ ف ب)

إنعقدت مؤخراً في مدينة سوتشي الروسية قمّة إقتصادية وأمنية بين الحلف الثلاثي الإستراتيجي المتكوّن من روسيا الإتحادية وتركيا العثمانية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. فبالتوازي مع مؤتمر وارسو, إنعقدت في المقابل هذه القمّة وفقاً لأجندة بعيدة الأمد لتقف سداً منيعاً أمام حلف الشرق الأوسط أو بالأحرى حلف الناتو العربي-الإسرائيلي- الأميركي. فهذه القمّة لم تأت من فراغ بل كان لها تخطيط مسبق يشمل ملفات إستخباراتية لدراسة الأوضاع العسكرية, السياسية  والإقتصادية بمنطقة الشرق الأوسط. فالرئيس فلادمير بوتين شديد الحرص على توطيد علاقاته مع شركائه وحلفائه الدائمين في المنطقة مع تشبّثه بتثبيت التواجد الروسي في المنطقة مهما كان الثمن و لو كان ذلك بالضربة القاضية  والساحقة. أما مخرجات هذه القمّة فكانت في مجملها تراهن على حلف صاعد إقتصادياً و صامد عسكرياً شملت ملفات التعاون المالي والتجاري وأيضاً التعاون الأمني والعسكري البعيد الأمد. بالإضافة إلى ذلك رفعت قمّة سوتشي نفس الشعارات التي رفعت في مؤتمر وارسو وقمّة ميونيخ وهي بالأساس الراهن على السلم و الأمن.

التعاون المالي و التجاري

مما لا شك فيه تعدّ روسيا دولة قوية لا تُقهَر في منطقة الشرق الأوسط ويمتد نفوذها المالي والتجاري على معظم تلك الدول خاصة منها سوريا وإيران وتركيا. أما إنتمائها إلى مجموعة البريكس فهو يعزّز من قوّتها مع الإقتصاديات الصاعدة التي تحقّق نِسَب نمو إقتصادية مرتفعة جداً مقارنة مع بقية دول العالم. فهذا الفضاء الذي يجمع البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا يمثل قطباً إقتصادياً قوياً ومنافساً حقيقياً للإقتصاد الأوروبي والأميركي. بالنتيجة جاءت ولادة هذا الحلف الثلاثي الجديد لتعزيز نواة القوّة الإقتصادية الصاعدة و الواعدة بالمنطقة خاصة منها في مجال المبادلات التجارية في قطاع الطاقة أو المواد الإستهلاكية والصناعية والنسيج وغيرها. إن هذا التعاون في مجال الطاقة كالنفط  والغاز بين تركيا و إيران وروسيا يعتبر قوة مستقبلية ضاربة في مختلف المبادلات التجارية والتعاون الدولي. كما أن الممرات الإستراتيجية لأنابيب الغاز والنفط في المنطقة تمثل المحور الأساسي للتعاون بين تلك الدول في منطقة تشهد فوضي عارمة وحروباً طال أمدها خاصة في سوريا واليمن. إن رهان الكرملين على تلك الرؤية الإستشرافية في مجال التعاون المالي والتجاري المنصهر في هذا الحلف الجديد يعدّ ثمرة نجاحات إستراتيجية تحقّق المردودية العالية والنجاعة الفاعلة. كما يساهم هذا الحلف الصاعد في رفع نسق التنافسية الإنتاجية الإقليمية ويساهم أيضاً في تطوير البنية التحتية خاصة منها في مجال الطاقة والتكنولوجيا التي تعتبر مصدر تراكم الثروة الوطنية الهامة لدى روسيا وإيران. أما في المقابل فتمثل تركيا المعبر الرئيسي لجميع المبادلات التجارية التي تربطها مع روسيا الإتحادية من جهة وبمنطقة الشرق الأوسط من جهة أخري.

التعاون الأمني و العسكري

ركزت قمّة سوتشي بالأساس على حفظ الإستقرار بالمنطقة الآمنة بمدينة إدلب السورية مع مد خط تعاون عسكري إقليمي خاصة علي الحدود التركية الروسية من جهة والحدود التركية السورية من جهة أخرى. كما تناولت هذه القمّة ملف إنسحاب القوات الأميركية من سوريا بحيث كانت التقارير العسكرية سلبية لدي مكتب بوتين والتي تشير معظمها إلى عدم الخروج الكلي للقوات العسكرية الأميركية من المنطقة مع تزايد ضعف التغطية الدفاعية بالقواعد الجوية الروسية السورية المشتركة. إن التعاون الأمني والعسكري بين هذا الحلف الصامد يمثل قوّة الردع والدفاع عن المصالح الإستراتيجية البعيدة الأمد في المنطقة. بالتالي يعتبر الملف السوري جزءاً لا يتجزّأ من الصراع الإقليمي على النفوذ وبقاء الرئيس الأسد في السلطة هو بالأساس مرهون بالتواجد الإيراني والروسي في منطقة الشرق الأوسط. إن تعزيز التواجد الروسي بالقواعد العسكرية في المنطقة يمثل جوهر التعاون المستقبلي بين إيران, روسيا وتركيا خاصة منها التغطية الجوية الدفاعية  والتنسيق الإستخباراتي على أرض الميدان. كذلك تراهن هذه القمّة على دحر قوات تنظيم النصرة الإرهابي والقضاء تماماً على ما يسمّى بتنظيم الإرهاب الدولي داعش الذي كان داهساً على نفوس السوريين بحيث قتلهم وشرّدهم في مخيمات اللاجئين بالدول المجاورة أو الأوروبية. عموماً يعتبر هذا الحلف الثلاثي القوي رداً واضحاً و صارخاً علي مؤتمر وارسو الذي يعتبر إيران عدواً خطير ويجب الحشد الدولي ضده. إذ تبيّن للعالم أن إيران لها إمتداد إقليمي في الخليج الفارسي وتحظى بتعاون عربي شامل وكامل ما عدا من قبل دولتين تكّن لها العداء الشديد وهما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية. إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لا تشكّل خطراً إقليمياً على أيّ طرف وذلك بإعتراف روسي بل هي حليف إستراتيجي تسهر على حماية المصالح الإقليمية المشتركة وتساهم في قوّة الدفاع عن حلفائها عبر حرسها الثوري المنتشر في أغلب دول الشرق الأوسط.

من سوتشي..إلى وارسو وميونيخ

لم تأت قمّة سوتشي 2019 من فراغ ولم تكن هي أيضاً بعيدة عن طاولة المفاوضات التي كانت تدور في كواليس مؤتمر وارسو أو ميونيخ. إذ ولو إختلفت الأهداف والمحتوي بين تلك القمم, إلا أن جوهرها كان واحداً وهو تعزيز الأمن والسلم العالمي والذي كان شعاراً موحداً بينها. إن مخرجات قمّة سوتشي خلصت إلى نتيجة أن إيران دولة مسالمة لا تشكل تهديداً للأمن الإقليمي وهي تسعى إلى تعزيز السلم عبر تواجد قواتها الدفاعية فقط في تلك المنطقة. إذ يحرص الرئيس بوتين على حق إيران لإمتلاكها للطاقة النووية لأغراض سلمية منها إنشاء مولّدات كهربائية تعمل بالطاقة النووية أو لأغراض علمية وبحثية. أما تطويرها لقاعدة الصواريخ البالستية وغزوها للفضاء يمثل لها حقاً مكتسباً لا يتعارض مع قرارات الأمم المتحدة. ووصولاً إلى قمة وارسو التي لم تشارك فيها ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والتي كانت مقتصرة فقط على الحضور الخليجي والإسرائيلي كانت تمثل في مضمونها توجيهاً للإتهامات المغرضة حول البرامج العلمية النووية الإيرانية. بالإضافة إلى ذلك كان لشيطنة الأعمال الإيرانية في المنطقة الركن الهام من الحوارات السرية المغلقة عبر تلك الأسطوانة التي كان يردّدها نتنياهو دائماً وهي "أن إيران هي البعبع المخيف في المنطقة والمحتلة لأربع دول عربية ولا تعترف بمبادئ الديمقراطية والحرية". بالتالي كثرت الشياطين في المنطقة والمواطن العربي أصبح لا يعرف من هو الشيطان الحقيقي. فإيران تعتبر إسرائيل وأميركا هما الشيطان الأرعن أما في المقابل فتعتبر إسرائيل وحلفها الشرق الأوسطي الجديد المعروف بالناتو العربي أن إيران وروسيا هما الشيطان المرعب. ففي كل دولة يوجد الصالح والطالح ولا أحد يشكك في النوايا السيئة لبعض الجهات بحيث أصبحت الخيانة في كل مكان عبر ذلك التطبيع المسموم والتخلي الكلي من الجانب العربي عن نصرة القضية الفلسطينية. عموماً من خلال هذا المشهد من الأحداث المأساوية المتراكمة تتجه منطقة الشرق الأوسط نحو المزيد من التشرذم والتشتت في المواقف والعلاقات ونحو التكتلات الإقليمية. فالصراع على النفوذ الإقليمي يعدّ جرس إنذار مبكر للإنجراف نحو المجهول عبر مؤشّرات ملامح حرب إقليمية أو عالمية قادمة في الأفق, إذا فشلت مجهودات التسوية السلمية. أما الإلتزام بالإتفاق النووي الإيراني السابق أو التحضير لمؤتمر جديد يحدّد مفاهيم  وطموحات إمتلاك إيران للطاقة النووية السلمية يعتبر هو الضامن الوحيد للحفاظ على الأمن والسلم بمنطقة الشرق الأوسط.

إن منطقة الشرق الأوسط برمّتها تعيش تحت بركان هائج قابل للإنفجار في أي وقت ممكن بحيث تشهد تلك المنطقة تصاعداً متواصلاً في لهجة الوعد والوعيد مع التهديد والتصعيد. أما في المقابل فنلاحظ هرولة نحو التطبيع الذي أصبح علناً بين الدول الخليجية وإسرائيل مع السعي للتكتل في حلف وارسو المشكل للناتو العربي الجديد ضد سياسات إيران في المنطقة وخاصة منها ضد حقها لإمتلاكها للسلاح النووي. عموماً إذا إستمر هذا التصعيد والتهديد وهذه التكتلات بين حلف سوتشي القوي والصاعد إقتصادياً والصامد عسكرياً ضد حلف وارسو المشكل للناتو العربي-الإسرائيلي-الأميركي والذي يسعي بدوره إلى شيطنة الأعمال الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط مع تكريس مبدأ التخلّي عن القضية الفلسطينية بتعلّة مبادرة صفقة القرن للسلام تحت الرعاية الأميركية, فبالنتيجة الأمور في مجملها ستتجه نحو العنف والتصادم والدخول في دوامة الأزمات الدبلوماسية. أما قمّة ميونيخ في ألمانيا تحت شعار الأمن والسلم فجاءت هي أيضاً لتساهم في نسف الإتفاق النووي الإيراني بالكامل وبتحريض أميركي تدعو فرنسا وبريطانيا وألمانيا للتخلي عن هذا الإتفاق المقيت والسيئ  والإتجاه نحو الإندماج في التكتل الجديد المشكّل لحلف ناتو وارسو. عموماً كل هذه المؤشّرات الأولية تشير إلى أن حرباً إقليمية قادمة في الأفق ولربما ستتحوّل إلى حرب عالمية, إذا فشلت الحوارات العقلانية لتسوية مختلف القضايا العالقة بالطرق السلمية.