احتجاجات الجزائر
لا شك أن ترشّح الرئيس بوتفليقة لمدة جديدة وهو يعاني ما يعانيه من وضع صحي سيّىء، مؤشّر سلبي لجهة قدرة الدولة الجزائرية على تجديد بنيتها، فعندما تضطر الدولة للاعتماد على شرعية رجل تجاوز الثمانين، أقعدته أزماته الصحية، فقط لأنه المُتبقي من رجالات الثورة الجزائرية، فإن هذا يعني أن الرئيس الجزائري لا يمتلك ما يكفي من رصيد الشرعية ليحوّله إلى غيره، كما فعل الزعيم الكوبي "فيديل كاسترو" مثلاً خلال الأيام الأخيرة من حُكمه عندما، تخلّى عن السلطة لأخيه راؤول، أو كما فعل الزعيم الفنزويلي "هوغو تشافيز" الذي عهد عندما ألمّ به المرض إلى "نيكولاس مادورو" بأمانة وراثة زعامته.
الحق يُقال أن جزائر بوتفليقة ليست هي جزائر الستينات والسبعينات لناحية ثوريّتها وانحيازها لقضايا التحرّر في دول العالم الثالث، والتزامها دعم دولة المواجهة المتبقية في وجه الكيان الصهيوني "سوريا"، فلا هي تقوم اليوم بتمويل صفقات السلاح لصالح مَن يقاوم إسرائيل كما فعل رئيسها الراحل بومدين قبل حرب 1973 ، عندما طار إلى موسكو ووضع شيكاً مفتوحاً أمام وزير الدفاع السوفياتي لتسليح سوريا ومصر، ولا هي حتى جزائر الثمانينات التي اشترت باخرة مُحمّلة بالقمح في البحر وأرسلتها إلى سوريا التي كانت تعاني من العقوبات والحصار الأميركي الخانق، إثر دورها في دعم المقاومة اللبنانية التي طردت المارينز من بيروت عام 1983.
ولعلّ لهذا التراجع في الروح الثورية له أسباب عالمية لا تخصّ الجزائر وحدها، بل تتعلق بانحسار حركة التحرّر في العالم الثالث، وبصعود الثورات المضادة المدعومة من الغرب في وجهها، كما رافق هذا النكوص في الالتزام بقضايا شعوب العالم الثالث، تراجع موازٍ داخلياً على صعيد مشاريع النهوض الكبرى الصناعية والزراعية التي وضعت في الثلاجة، ونموٌ فطري لبيروقراطية حكومية ولمستفيدين قريبين من السلطة، همّهم الوحيد مراكمة الثروات الشخصية.
ما سبق يشكل كله نقاط ضعف في شرعية السلطة، سيستخدمها لا شك مَن يسعى إلى تطبيق مخطّط إسقاط الدولة والبلد وليس السلطة فقط، وهذا بالضبط ما تمّ في ليبيا المجاورة، إذ لا يستلزم أن تكون تقدّمياً أو ثورياً حتى يستهدفك النظام العالمي المُهيمَن عليه من قِبَل واشنطن، بالفوضى والدمار، بل يكفي فقط أن تكون خارج المظلة الأمنية الأميركية، وثرواتك غير خاضعة مباشرة للسيطرة الغربية، حتى يتمّ استغلال أية أزمة داخلية لتفتيت بلادك وزرعها بالجماعات المسلّحة المُتقاتلة، فالقذافي ورغم ما قدّمه في آخر سنوات حُكمه من تنازلات للغرب، وتظيفٍ للأموال الليبية في الصناديق الاستثمارية الغربية، لم يسلم من مخطط الفوضى «الخلاّقة» ذاك.
لذلك نحن أمام أيام حاسِمة فإما أن تجتاز الجزائر هذا الظرف العصيب كما اجتازت في التسعينات، أحداث العشرية الحمراء، وإما أننا سنكون على موعدٍ مع جزائر أخرى لا نعرفها، جزائر كغيرها من دول «النظام الرسمي العربي» ، لن نسمع عن تحفظّها عن قرارٍ أميركي-عربي هنا أو رفضها لتدخلٍ أجنبي هناك، بل سوف تُعادي سوريا وإيران والمقاومة كما يفعل الجميع، ولن تُمانع أبداً في بناء قاعدةٍ أميركيةٍ في صحراءها ، ولن ترفض تدخّلاً أجنبياً في جوارها أو بعيداً عنها، وسوف تتّجه لصندوق النقد الدولي بُعَيْد أول انخفاض لأسعار البترول، وسوف تُحوِّل ثرواتها إلى مشاريع استثمارية فرنسية أو أميركية، ولن تتعامل يومها لا مع روسيا ولا مع الصين ، سوف يصبح الحديث عن القطاع العام لغة خشبية بالنسبة إلى مسؤوليها، ولن يكون التطبيع مع إسرائيل مؤجّلاً لما بعد حلّ قضايا القدس واللاجئين والجولان، وسيحترق تراث ثورتها التحرّرية، التي شكّلت نموذجاً لقدرة الشعوب على كسر الإرادة الاستعمارية الغربية.