ظواهر الاحتجاجات في انتخابات طرابلس الفرعية

ليس غريباً على الطرابلسيين الانتفاضة المكعبة، فالمدينة تعرف بتحركاتها الشعبية التاريخية رفضاً للإهمال، والتهميش، والفقر، وهذا ما شهدته المدينة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكانت الأسباب عينها دافعاً لبروز حركات تمرد متعددة في المدينة,

ساعة التل وسط مدينة طرابلس اللبنانية

ثلاث ظواهر احتجاجية شهدتها العملية الانتخابية الفرعية في طرابلس التي جرت منذ نحو أسبوعين على خلفية الطعن بنيابة ديما جمالي، تمثلت بعدد الأوراق البيضاء، وعدد الأوراق الملغاة، والنسبة المنخفضة من الاقبال على الاقتراع.

انتهت العملية الانتخابية، وأظهرت النتائج، مؤشراً إلى أن سوءاً ما يكمن في خلفية المجتمع الطرابلسي تشكل محطة سؤال يعبر عن الكامن الذي يقف وراء النتيجة المتعمق في المجتمع، الذي يدل على حالة مأساوية بحسب دراسة وضعها قسم "السكن التابع للامم المتحدة" (UN-Habitat) ٢٠١٦-٢٠١٧، وتزداد الحال سوءا وترديا فيما بعد.

فأولى مظاهر الاحتجاج كانت العدد غير المسبوق من الأوراق البيضاء التي بلغت الـ1951 ورقة، وقد يصعب تعقب ظاهرة مماثلة في أيّ معركة انتخابية لبنانية سابقة.

تفسير الظاهرة امتعاض قوى، وفئات مما يجري في المدينة، وأغلب الظن التحالفات غير المرضي عنها بين زعماء وتيارات قوية، تنافست مراراً، وخاضت معارك مواجهة شرسة لإثبات كل واحد منها قوته، وهي تحالفت في العملية الحالية رغم شبه انعدام المنافسة على الجبهة الأخرى، فكل المترشحين الآخرين هم وجوه غير معروفة، ولا حيثيات سياسية لهم بالإجمال، ما عدا المرشح مصباح الأحدب الذي كان نائبا، لكنه لم يعد بوضعية تهدد كتلا سياسية كبيرة، وهذا ما أظهرته نتيجته.

المعركة الانتخابية العامة سنة ٢٠١٨ شهدت حماوة طاحنة بين تيار المستقبل (الحريري)، وتيار العزم (ميقاتي)، وأسفرت المعركة عن انتصار كبير لميقاتي، حيث نال لوحده ما يناهز ثلاثة أضعاف ما ناله المستقبل تقريبا، في حال اعتُبر النائب محمد كبارة، حليف الحريرية، حالة مستقلة، فلم يكن ممكناً جمع أصواته لصالح لائحة المستقبل إلا في رفع الحاصل الانتخابي، فالقانون النسبي الذي اعتمد، فرض تسجيل رقم خاص لكل مرشح يظهر فيه قوته الحقيقية.

الامتعاض من التحالفات لم يقتصر على قواعد طرف واحد محدد، فثمة حيز كبير من الأصوات من المستقبليين لم يكونوا راضين عن التحالف مع ميقاتي بصفته خصمهم اللدود، وحيز كبير من الميقاتيين لم يكن أيضا راضيا عن التحالف مع المستقبل بعد أن حقق ميقاتي انتصارا كان بالإمكان تكراره في العملية الأخيرة.

الحيزان في "المستقبل" و"العزم" لا يستطيعان المقاطعة، وعدم التوجه إلى صناديق الاقتراع، فآثرت نسبة عالية من الناخبين التصويت بورقة بيضاء بحسب مراقبين باحثين، ومعنيين بالشأن الانتخابي. مع العلم أن العزميين يعتبرون أن ما تتعرض له مدينتهم من تهميش وإهمال هو أمر تتحمل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة التي كانت أغلب الأحيان حريرية.

الأوراق الملغاة شكلت بحد ذاتها ظاهرة غير مسبوقة أيضاً، فالإلغاء طاول ٢٦٤٨ ورقة، وبالتأكيد لم تكن كلها مغلوطة. ثمّة من تابع عمليات الفرز ميدانياً، وأفاد أن كماً كبيراً من هذه الأوراق عبٌرت عن مزاج الشارع الطرابلسي الذي وجد كثيرون من أبنائه فرصة للتعبير عن غضبهم من البطالة، والفقر، والعوز التي يعانون، فاتخذوا من عملية الاقتراع مجالا للتعبير بأصناف عبارات لاذعة بحق سياسيين متنوعي المشارب.

نسبة الإقبال الضعيفة على الاقتراع، كانت متدنيّة نسبياً إذ سجلت ١٢,٥٥٪ من الناخبين بحسب ما أعلنته وزارة الداخلية كنتيجة رسمية.

في هذا الشأن عزى البعض عدم الاقبال إلى أن المعركة الفرعية عادة لا تستقطب أعداد مقترعين كثراً، فما يوظف فيها من عمليات للاستقطاب تكون قليلة، ولا يزج فيها مال انتخابي وافر على صعد التعبئة، والإعلام، والمندوبين، وأمور أخرى. لكن النتيجة الطرابلسية كانت الأدنى بين سائر العمليات الفرعية التي جرت في دوائر مختلفة من لبنان منذ دورات الـ2009 وما بعد.

ليس غريباً على الطرابلسيين الانتفاضة المكعبة، فالمدينة تعرف بتحركاتها الشعبية التاريخية رفضاً للإهمال، والتهميش، والفقر، وهذا ما شهدته المدينة في ستينات وسبعينات القرن الماضي، وكانت الأسباب عينها دافعاً لبروز حركات تمرد متعددة في المدينة، تبدأ بانتفاضة علي عكاوي في الستينات في حركة عرفت بحركة "الغضب"، ثمّ حركة ٢٤ تشرين التي قادها فاروق المقدم أواخر الستينات وأوائل السبعينات، وعصيانه على السلطة دعما للثورة الفلسطينية، إضافة إلى بروز حركة أحمد القدور، التي عرفت بـ"دولة المطلوبين" في الأسواق القديمة، وظلت الظاهرة عصية على الدولة بين ١٩٧٤ و١٩٧٥.

وفي أحداث ١٩٧٥ وما بعد، شهدت طرابلس إقامة سلطات بديلة في غياب الدولة، مثل "المقاومة الشعبية" في باب التبانة بقيادة خليل عكاوي، شقيق علي عكاوي محرك حركة "الغضب، وتلتها "حركة التوحيد الإسلامي" التي سيطرت على المدينة بين ١٩٨٢ و١٩٨٥، ورغم أن هاتين الحركتين قامتا بغياب السلطة بسبب الأحداث، لكنهما قامتا على خلفية معاداة السلطة اللبنانية للأسباب عينها التي أدت إلى حركات التمرد ما قبل الأحداث.

ما تعنيه الإشارة إلى هذه الحالات من التمرد على السلطة أن طرابلس قلما كانت يوما من اهتمام سلطة الكيان اللبناني الذي نشأ على يد الفرنسيين بين تاريخ اتفاقية سايكس- بيكو ١٩١٨، وإعلان دولة لبنان الكبير المستقلة ١٩٤٣. السبب أن كثيرين من الطرابلسيين رفضوا المحاولات الفرنسية للانفصال عن عالمهم العربي الإسلامي، ولم يتعاون مع الفرنسيين إلا عائلات قليلة، لذلك يعتقد أن أحد أسباب اختيار بيروت عاصمة للبنان، واستبعاد طرابلس عن هذا الخيار، يكمن في هذا المعطى.

كانت طرابلس تنعم في النصف الأول من القرن العشرين بحركة اقتصادية وثقافية ناهضة، وبدأت بالتراجع مع بروز تطورات عامة على الساحة اللبنانية، يذكر منها ثورة ١٩٥٨ الناصرية، ثمّ الأحداث المتعاقبة التي أفضت إلى دخول الثورة الفلسطينية بقوّة إلى لبنان عقب حرب ١٩٦٧.

بدأ الفقر والتهميش يضرب أطنابه في المدينة، وما إنشاء معرض طرابلس الدولي أوائل الستينات على مساحة مليون متر مربع، وعلى يد أهم مهندس عالمي، ثم إهماله منذ ذلك الحين حتى اليوم إلا دليل على نظرة السلطة اللبنانية الدونية للمدينة. ثم تأتي الأحداث المتعاقبة بدءا من ١٩٧٥، لتتفاقم أوائل الثمانينات صراعا بين جبل محسن وباب التبانة، ثمّ في أعوام ٢٠٠٨ ومابعد حتى دخول طرابلس مرحلة الأحداث السورية، فدمرت اقتصاد المدينة، وحياتها الاجتماعية.

بنتيجة تلك النظرة لا بد من العودة إلى دراسة "الأمم المتحدة" وما خلصت إليه، فالدراسة تفيد أن نسبة الفقر في المدينة تبلغ 57%، ودخل الفرد الواحد اليومي هو أقل من أربعة دولارات أو ستة آلاف ليرة لبنانية، أيّ أقل من الحد الأدنى المطلوب فقط للطعام. وفي هذا السياق، تصف أبحاث سوسيولوجية وضع طرابلس بأنها المدينة الأفقر على المتوسط.

وتتناول الدراسة الكثافة السكانية التي قد تعتبر من الأعلى على المستوى العالمي بحسب باحثين في علم الاجتماع، فبحسب دراسة الأمم المتحدة، هناك ١٧٣٧٤ نسمة في الكيلومتر المربع، ومساحة طرابلس السكانية هي ٢٠,٢٣ كلم مربع.

وتوضح الدراسة أنّ التحديات والمشاكل المدينية التي تعاني منها البلاد عامة، منتشرة بطرابلس على نطاق أوسع، وأن طرابلس تنفرد بنسبة كثافة الفقر غير القابلة للمنافسة من قبل أي موقع آخر، كما أنها تتصف بتعمق انحدار اوضاعها منذ ما قبل الحروب الأهلية الاقليمية المحورية، ويقصد بها الأحداث في سوريا.

وتذكر الدراسة أن التطورات التاريخية التي مرت بطرابلس، ممزوجة بنسبة الفقر العالية على حدود البيئات المستضافة، واللاجئة أثمرت سلة من الصراعات الاقتصادية-الاجتماعية، والمذهبية، مع العلم أن طرابلس تستضيف مائة ألف نازح سوري، عدا عن الأعداد غير المسجلة، كل ذلك بحسب الدراسة عينها.

المساحات المكتظة بالسكان في طرابلس تبدأ من البحصاص جنوبا، وحتى البداوي شمالاً، ومن البحر غرباً، وحتى القبة وأبي سمراء شرقا. ويقسم المدينة بولفار يعبر وسطها، ومنه شرقاً توجد حالات الفقر المدقع في باب التبانة، ومحيطها، وفي القبة، والأسواق القديمة، وباب الرمل، وسواها، وتقيم آلاف العائلات في بيئة مزرية، وفي منازل من غرفة او اثنتين، تآكلت مع مرور الزمن، أو بسبب التعرض لنيران الحروب، لا ترى الشمس، تحوطها المياه الآسنة غالباً، وتغيب عنها الحشرات، والجرذان، والقطط لعدم قدرتها على تحمل الواقع المتردي، والبائس الذي لا يمكن تحمله إلا من السكان الطرابلسيين الذين شربوه مع حليبهم، بلعة بلعة.

وفي ظل البطالة الواسعة، يقف هؤلاء الطرابلسيين رافعي اليدين، مبتهلين لربهم ينتظرون رفدهم بقوت يومهم. روز، (٨٥ عاماً) سيدة مسيحية تقيم في مزار سيدة يونس في سوق البازركان، في غرفة قدمها لها اولياء الوقف، تقول: "أعيش بما تهبني إيّاه السيدة العذراء، واقبل بقسمتها". أمّا أرامل "الخانقاه"، الموقع الأثري الذي أنشىء لإيواء الأرامل، فيرتضين بما يأتيهن من أعمال خير المتبرعين، ويشكرن ربهن على نعمه، كما تفعل الأرملة العجوز فاطمة.

وعلى غرار روز وفاطمة آلاف العائلات، والأبناء، والأيتام، ومنهم الأيتام الذين لم يفقدوا أمهاتهم وآباءهم، لكن لا معيل لهم، وآلاف المعوقين، إن بالحرب أم بسواها، وآلاف المطلقين والمطلقات، مع أبناء أو بلا أبناء، لا فرق، عشرات آلاف الفقراء الذين لا تستوعب أمثالهم، وبهذا الحجم الكبير، وعمق الفقر، مدينة غير طرابلس.

لذلك، تخلص دراسة ال"UN-Habitat” إلى اعتبار طرابلس "مدينة في حالة الخطر" (a city at risk)، واعتبارها أنها تتضمن "كثافة احتمالات كامنة تهدد بزعزعة استقرار لبنان”، أي (Tripoli represents a cocentration of potential to destabilise the country).