صفقة القرن في طريقها للتحوّل إلى تنازُل القرن
وصل ترامب إلى سدّة الحُكم بشعار إعادة الشباب الأميركان إلى وطنهم وعدم إنفاق الضرائب التي يدفعها الشعب الأميركي على شن حروب في المنطقة. وبعد توليّ الرئاسة وجد نفسه في حالٍ يُرثى لها، حيث إنه حرم نفسه من أقوى الخيارات التي كانت على طاولة كل رئيس أميركي ، وهو خيار الحرب.
شهدت الأشهر الأخيرة تجاذبات وحال توتّر غير مسبوقة بين الدول والكيانات التي تمثل طرفي الصراع في المنطقة. حيث وصل هذا التوتّر إلى إرسال حاملة الطائرات والقوات الأميركية وتهديد إيران بالهجوم العسكري المباشر إذا ما استمرت في صمودها أمام المطالب الأميركية.
ولكن سُرعان ما فقدت هذه التهديدات بريقها، حيث واجهت جداراً متيناً من المواقف والتصريحات التي صدرت عن قادة الجمهورية الإسلامية ومن موقع القوّة وعدم التأثّر بأي لون من ألوان التهديد بالحرب الناعِمة أو الصلبة.
والدليل على ذلك أن الرئيس ترامب الذي وصل إلى سدّة الحُكم وهو يدعو إلى إسقاط الجمهورية الإسلامية في إيران ، تنازل كثيراً عما كان يدعو إليه. فبعد أن كان يرى الحل في الإطاحة بالجمهورية الإسلامية وتأسيس نظام جديد، صار يتحدّث عن المفاوضة وصرَّح أنه لايريد إسقاط النظام في إيران. بل وصل الأمر إلى قوله بأن إيران تستطيع أن تزدهر وتتقدّم في حُكم قادتها الحاليين ، وهذا تصريح خطير يؤكّد لنا أن ترامب يواجه طرقاً مسدودة في زحفه نحو إيران ما يضطره إلى التراجع و سحب كلامه.
ولكن ما الذي أوصل ترامب إلى هذه المواصيل وكيف يمكن أن نقرأ المستقبل على ضوء ما جرى؟
وصل ترامب إلى سدّة الحُكم بشعار إعادة الشباب الأميركان إلى وطنهم وعدم إنفاق الضرائب التي يدفعها الشعب الأميركي على شن حروب في المنطقة. وبعد توليّ الرئاسة وجد نفسه في حالٍ يُرثى لها، حيث إنه حرم نفسه من أقوى الخيارات التي كانت على طاولة كل رئيس أميركي ، وهو خيار الحرب. فلم يصدّقه قادة إيران عندما هدَّد بحربٍ عسكريةٍ وحتى عندما أرسل المزيد من القوات الأميركية والطائرات إلى المنطقة. بالإضافة إلى أن قادة إيران يعلمون أن ترامب رجل أعمال ويُقارن بين النفقات والأرباح ولن يُقدِم على أية حرب تكبّده خسائر كبيرة في العدّة والعتاد والمال، خاصة عندما يرى أن ردّة الفعل الإيرانية يكتنفها الغموض ولايُعلَم مداها. ومن جهةٍ أخرى فإن ترامب بحاجةٍ إلى الحصول على إنجازات سياسية تعزّز موقعه في الانتخابات الرئاسية القادمة وتساعده في الفوز بولاية ثانية ، وهذا ما لم ينجح في تحقيقه بشكلٍ مُرضٍ في قضايا المنطقة العربية والإسلامية. والحصول على اتفاق مُرضٍ للأميركيين مع إيران من شأنه أن يوفّر له جزءاً من هذه الإنجازات.
ولذلك فقد توسّل ترامب بالعديد من قادة المنطقة والعالم ابتداء من قادة عمان والعراق ووصولاً إلى رئيس الوزراء الياباني للتوسّط بين إيران وأميركا ، وإزالة التوتّرات بين البلدين، وكخطوةٍ تشكّل تنازلاً أميركياً كبيراً لصالح إيران ومحور المقاومة ، يعتزم ترامب إقصاء جون بولتون العقل المُدبِّر لأية محاولة ضد إيران.
هذه التطوّرات إن دلّت على شيء فهي تدلّ على أن المحور الصهيو أميركي لايفهم لغة الحوار لأنها ستؤدّي إلى اتفاقات لايلتزم بها هذا المحور على غرار الاتفاق النووي الذي لا تعير له إدارة ترامب اهتماماً. أما الدول الأوروبية فقد أثبتت أنها لاتعتبر الاتفاق النووي سوى أداة للحد من النشاط النووي الإيراني ولاتهتم بالتزاماتها فيه.
لكن ما هي اللغة التي يفهمها المحور الصهيو أميركي؟ هي بالتأكيد لغة المقاومة والصمود المدعومة بقوّة الشعوب والردع العسكري والاقتصادي ، وهذا ما أشار إليه السيّد على الخامنئي قائد الثورة الإسلامية في الكلمة التي ألقاها بمناسبة الذكرى الثلاثين لرحيل الإمام الخميني.
لغة المقاومة هي التي دفعت ترامب إلى القبول بالتراجع والتفاوض والاعتراف بقدرات النظام الإيراني بعد أن كان يدعو إلى إسقاطه عبر الاستهداف العسكري.
وهذه هي بداية النهاية لصفقة القرن حيث تتبنّى حركات المقاومة في المنطقة الفكر نفسه، ولا شك أن استمرار هذه المقاومة مدعوماً بالتأييد الشعبي والرسمي قدر الإمكان سيؤدّي إلى تحويل صفقة القرن إلى تنازل القرن. خاصة مع العِلم بأن المياه عادت إلى مجاريها في العلاقات بين إيران وحماس ، وركَّز الطرفان على أهدافهما الاستراتيجية لحل الخلافات الهامشية التي أصبحت في خبر كان.
تراجُع ترامب مؤشّر على إمكانية تراجُع كل المشاريع الصهيوأميركية في المنطقة وليس في العلاقات مع إيران فحسب. ما سيفتح صفحة جديدة في تطوّرات المنطقة عنوانها "تنازُل القرن".