صاروخٌ إيراني .. يضع ترامب وخصومه وحلفاءه في الزاوية
قصة ٌبدأت فصولها الجديدة مع الإنسحاب الأميركي من الإتفاق النووي مع طهران ، وتدحرجت ما بين موجات الخلافات والصراعات الأميركية الداخلية وما بين التحريض الإسرائيلي – الخليجي، واتخذت طابعاً إقتصادياً تجارياً وتهويلاً عسكرياً وبفرض عقوباتٍ قاسية غير مسبوقة ضد الدولة الإيرانية، وصلت حد منعها من تصدير نفطها إلى العالم.
هجومٌ وحصارٌ وتدخلٌ سافِر في الشؤون الإيرانية ، واجهته قيادتها ورأس هرمها السياسي وحرَسها الثوري وشعبها المقاوِم بكل شجاعة وحكمة وذكاء... أشهرٌ سبقت التصعيد الأخير لم تنفع فيها الضغوط الأميركية والمراوغة والضعف الأوروبي ، ولم تتوقف فيها إيران عن إعلان ثبات مواقفها المبدئية الرافضة للحوار مع الإدارة الأميركية ، وبتمسّكها بحقوقها في الإتفاق وبسيادتها وحرية قرارها السياسي واستعدادها للدفاع عن أرضها وشعبها وثرواتها وطموحاتها.
بدا المشهد جامداً
لفترة ولم يكن من السهل على جميع الأطراف تحريكه سلباً أم إيجاباً استغلته إيران في البحث عن بدائل لإستمرار تصدير نفطها ، فيما استغلته الإدارة الأميركية عبر تحرّكات المستشار بولتون ووزير الخارجية بومبيو في البحث عن سُبل إضافية لإخضاع إيران للشروط الأميركية وبترجمة التحريض والرغبات الإسرائيلية – الخليجية ، وإجبار الرئيس ترامب على ركوب الأمواج العاتية من بوابة وإجبار الدولة الإيرانية على التفاوض من جديد وهي تحت الضغط الأميركي.
وترافق البحث الأميركي بهزائم ميدانية جديدة لقوات العدوان والتحالف الخليجي في اليمن وسوريا وغير ساحات ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ فوجىء الجميع بحوادث وتفجيراتٍ إرهابية تعرّضت لها بعض السفن وناقلات النفط في مياه الخليج ، سارعت الولايات المتحدة الأميركية ومَن لفّ لفّها لإتهام الدولة الإيرانية ، وبأنها نفّذت وعيدها بمنع تصدير النفط عبر مضيق هرمز فيما إذا مُنعِت من تصدير نفطها ، وعلى الرغم من النفي الإيراني والتصاريح اليابانية التي أكّدت استهداف ناقلتها جواً ، إلاّ أن الإعلام المُستفيد وماكيناته الإسرائيلية – السعودية – الإماراتية ، سعوا لتأكيد ارتكاب إيران هذه الاعتداءات ، وأقلّه تمّ الإرتهان لرواية الطرف الثالث من دون التدقيق في هوية مَن هو هذا الطرف ومَن هو المستفيد، وجاءت الصواريخ اليمنية لتُخرج مطاري أبها وجيزان في السعودية من الخدمة في معرض ردّها على العدوان الهمجي المستمر إلى ما لا نهاية، ولتقوم أطراف التحريض الأميركية - الإسرائيلية – الخليجية باستغلال الحدث في تشجيع إندلاع الحرب الأميركية على إيران بمساعٍ خاصة لبولتون وبومبيو ومَن يمثلهما في مراكز صنع القرار الأميركي.
ابتلع الرئيس ترامب الطُعم مُرغماً وفق حساباته وصراعاته الداخلية ، وإعلانه حملته الإنتخابية الجديدة لولايةٍ ثانية ، ووجد نفسه يركب الموجة خصوصاً بعدما قامت الدفاعات الإيرانية بإسقاط طائرة التجسّس الأميركية المُسيَّرة RQ4, داخل الأجواء الإقليمية الإيرانية.
وبين ليلة وضحاها تدحرج التصعيد السياسي والإقتصادي والعسكري والإعلامي والتكنولوجي ، ليتصدّر الموقف مع تراشق وتبادل التّهم حول إنتهاك الطائرة الأجواء الإيرانية من عدمه ، بحسب الروايتين الإيرانية والأميركية... قدَّمت فيه إيران عديد الأدلّة والإثباتات وعلى رأسها حطام الطائرة ، ومشاهد إسقاط الطائرة وسيل المعلومات حول المكان الذي انطلقت منه طائرة التجسّس المُسيَّرة ومسار تحليقها ولحظة إسقاطها ، وكشفت عن أربعة تحذيرات وجَّهتها للطائرة ، وإنتظارها لأكثر من 20 دقيقة لحين إبتعاد طائرة أميركية ثانية تواجد فيها 35 شخصاً ، ومن ثم تم إسقاط طائرة ال RQ4, في حين لم يصدر عن الإدارة الأميركية ما يُثبت ادّعاءاتها.
وسط الذهول والإرتباك الأميركي ، سارع ترامب كعادته للتصعيد الكلامي عبر التصاريح العاجِلة والمُتضارِبة وعبر موقعه على التويتر ، واعتبر أن إيران ارتكبت خطأ جسيماً ، وأن العالم سيرى قريباً ما هو فاعِل ، وفي غضون دقائق تراجع عن مواقفه وذهب ليقول: "لديّ إحساس بأنه عمل غير مقصود وغير مُتعمَّد" ، ويعلن موقفاً إنسانياً مُضحِكاً يدَّعي فيه أنه تراجع عن قرارٍ أصدره بتوجيه ضربةٍ تشمل ثلاثة أهدافٍ إيرانية لاعتقاده بأنه قد يتسبَّب بمقتل 150 إيرانياً كحدٍ أدنى ، في محاولةٍ منه للرد بالمثل على تجنّب الإيرانيين قصف الطائرة العسكرية الأميركية وال35 راكباً على متنها ، يبدو أن ترامب يريد العالم تصديق أن الولايات المتحدة تتجنَّب القتل ، في وقتٍ يرى فيه العالم كله الجرائم التي ارتكبتها في العراق والرقة السورية وفي عشرات ومئات الأماكن حول العالم ولم تكن لتكثرت يوماً بحياة البشر.
ولا بدّ من تسليط الضوء على مُسبِّبات تراجع الرئيس ترامب ، وربطها بالذهول والمفاجأة والهزيمة التكنولوجية والإستخبارية والعسكرية والإعلامية ، أمام الدولة الإيرانية بفضل ما تتمتَّع به من قوّةٍ عسكريةٍ وبفضل ترسانتها الصاروخية المُتطوِّرة ، بالإضافة للشفافية الإيرانية وتقديمها كافة المعلومات لوسائل الإعلام الإيرانية والعالمية ، ولا بدّ هنا من الإشادة بما قدَّمته قناة الميادين من نقل وتحليل ورَصْد مباشر لكل مُستجد وخبر وتصريح ومعلومة ، مُعتمدة ًعلى حرفيّتها وحضورها وجمهورها الواسع في العالم العربي والعالم عموماً
ولا بدّ أيضاً من مراقبة الموقف الضعيف للمملكة السعودية وعبر وليّ عهدها ووزيرها عادل الجبير الذي أكَّد عدم رغبة بلاده باندلاع الحرب ، وبالصمت الإسرائيلي الشامل بحسب أوامر بنيامين نتنياهو ، والذي احتفظ لنفسه بحق إطلاق بعض العبارات غير المؤثّرة من جهة ، والتي تعكس مخاوفه من أن تجد سلطته نفسها وسط ميدان هكذا معركة ... في وقتٍ رأت فيه الصحافة الإسرائيلية أن تراجع ترامب هو هزيمة وإهانة للولايات المتحدة الأميركية ، بما يعكس خيبة أمل الداخل الإسرائيلي بكافة أطيافه ، حيث كانت اّمالهم وأحلامهم تصبّ في خانة توجيه ضربة أميركية محدودة أو جزئية أو حتى شاملة للدولة الإيرانية .
إن التحذير الروسي والأوروبي والدولي ، من اندلاع هذه الحرب والمخاوف من نتائجها الكارئية ، تحوَّلت إلى الترحيب بالهدوء النسبي أو لعدم تهوّر الرئيس ترامب ، ومع ذلك لا يزال التوتّر على أشدّه ، ولا يزال الغموض يلفّ مستقبل القادم من الأيام ، ولا يمكن التعويل أو الرهان على حكمةٍ أو تعقّلٍ أميركي ، خصوصاً بعدما تلقّى الرئيس الأميركي وإدارته بحمائمها وصقورها الصفعة الإيرانية القاسية ، ويبقى التعويل الحقيقي على قوّة وثبات الموقف الإيراني وصلابة قوّاتها المسلحة ، واستعداد محور المقاومة مجتمعاً لمواجهة أية تطوّرات سلبية واحتمالية إندلاع معركة شاملة.
من الواضح أن المواجهة الأميركية الإيرانية الحالية ، تؤكّد الوقوف على أعتاب مرحلة جديدة لصراع محور المقاومة بكافة أطرافه، أمام المحور الذي تقوده الولايات المتحدة بنفسها ، بما يؤكّد أن هذه المُستجدات والمُتغيّرات ليست عابِرة ، وسيكون لها تداعياتها على مستوى العالم... وقد تكون أول تجلّياتها تصريح ترامب حول "استعداده للتفاوض مع إيران من دون شروطٍ مُسبقة" ، وبانتظار الردّ الإيراني ، وربما بتجديد الرفض الإيراني... وعلى دول وعروش الإنبطاح والتخاذل العربي والأوروبي ، تحديد حجومها والإستفادة من الدرس الإيراني ، وتبقى العِبرة لمَن يعتبر.