أيّ علمانية في مواجهة الأصولية التكفيرية؟

تراوحت ردّات الفعل على انتشار الأصوليّات التكفيرية، بين نزعات علمانية ليبرالية وبين إعادة الاعتبار لخطاب التحرّر الوطني والقومي.

ردّات الفعل العلمانية أخذت أشكالاً من المراهقة والطفولة السياسية ولم تستحضر العلمانية كما هي
وباستثناءات قليلة، فإنّ ردّات الفعل العلمانية أخذت أشكالاً من المراهقة والطفولة السياسية، لم تستحضر أو تقارب العلمانية كما هي في مرجعياتها وفي راهنيّتها، ولم تميّز غالباً بين مسألة فصل الدين عن الدولة  وفصل الدين عن السياسة، ولا بين المدارس العلمانية نفسها (بكسر وفتح العين)، كما في المدرسة البريطانية والمدرسة الفرنسية.

كما غاب عنها كليّاً خطاب التحرّر الذي لم يتوقّف كثيراً عند العلمانية واعتبرها جزءاً من قاموس الثورة البرجوازية الديمقراطية.

وما دامت غالبية ردّات الفعل المراهقة والطفولية المذكورة تنتمي إلى اليسار وخاصة اليسار الاجتماعي، ماذا عن أهم المرجعيات اليسارية النظرية،  ومنها كرّاس ماركس (المسألة اليهودية) وكرّاس كارل كاوتسكي؟ (قبل أن يُصنّف كمرتد لمقارباته الأخرى، التي قلّلت من فكرة الثورة  ودكتاتورية البروليتاريا)

1- في كرّاس (المسألة اليهودية) يوجّه كارل ماركس نقده لبرونو باور وحلوله للمسألة اليهودية، إذ اعتقد باور أن الدين هو أساس هذه المسألة، وبالتالي فإن مواجهتها تكمن في الحرب على الدين وإشهار الإلحاد كحلّ جذريّ لذلك. 
وفي الردود على هذه الاطروحات، قارب ماركس الدين عموماً واليهودية خصوصاً ضمن سياقاتها التاريخية الموضوعية، ورأى أن اليهودية على نحو خاص عبّرت وتعبّر عن ظواهر اجتماعية طبقية جدّدت نفسها في الانتقال من الحقبة الإقطاعية إلى الحقبة الرأسمالية.

وقال أن (الربا) الذي وجد مرتعاً في هذه الحقبة هو جوهر اليهودية الحقيقي، وبالتالي فإن التحرّر من هذا الجوهر هو السبيل لتحرير اليهودي من عبودية المال، وتحرير المجتمعات أيضاً، فالرّبا حسب ماركس هو الإله الحقيقي في اليهودية.

2- في الكرّاس الثاني، يناقش كاوتسكي في (الدين والصراع الطبَقي) جذور وأسس المسيحية وبصورة مغايره للمقاربات التي كانت سائدة في عصره.

فهو كما ماركس ركّز نقده على هذه المقاربات التي تنتمي إلى ما كان يُعرف باليسار الهيغلي، والذي يبدو أن اليسار الطفولي العربي قد استعاده مجدداً.

إن المسيحية كما يلاحظ كاوتسكي ليست أيديولوجيا وحسب، بل هي تكثيف أو تعبير عن الحراك الاجتماعي في أيامها، فضلاً عن  الظلال المتجّددة التي رافقتها من عصر إلى عصر. وبالتالي فالمطلوب ليس دحضاً للأيديولوجيا بذاتها بل البنى الاقتصادية والكتل الاجتماعية التي تعبّر عنها.

3- بالمقابل، وفي الحال العربية الراهنة وبالإضافة إلى أن العلمانية المطروحة علمانية ليبرالية وجزء من قاموس الثورات البرتقالية، فإن المطلوب ليس مواجهة الأصوليات التكفيرية على طريقتها، واعتبار المعركة معها معركة دينية وتقديم  خدمة مجانية لمشغّلي هذه الأصوليات، باعتماد الخطاب البرتقالي الليبرالي لهؤلاء المشغّلين، بل المطلوب استعادة خطاب التحرّر الوطني العربي الذي لا يتعامل مع العقلانية وحقوق الإنسان والإصلاحات الدستورية وتمكين النساء كجزر وأجندات وكانتونات معزولة متناثرة، بل في سياق برنامج مركزي لفك التبعية ومقاومة الإملاءات الإمبريالية، وتوفير الشروط الموضوعية التاريخية للدولة وللمجتمع المدني والعقد الاجتماعي المُعاصر.

وما يزيد من أهمية ودلالة الملاحظة السابقة، تقاطع الخطاب العلماني الليبرالي مع الدوائر الغربية وخاصة بعد فوز ترامب واتّساع موجات اليمين المتطرّف في الولايات المتحدة وأوروبا.

فعلى خلاف الاعتقاد بأن هذا الخطاب يقطع الطريق على تحريض هذه الدوائر، فإنه يعزّز الانطباع بأن المعركة مع الشرق هي معركة دينية، ويدمج العلمانيين بصورة مباشرة وغير مباشرة، في استراتيجيته التي لا تستهدف المؤمنين، متطرّفين أو معتدلين بل خطاب التحرّر الوطني وفكّ التبعية، وإشاعة الخطاب الليبرالي الذي يربط العلمانية والمواطنة والدولة المدنية والحريات السياسية، بحريات الأسواق والاندماج في النظام الرأسمالي العالمي.