متى نصنع تاريخنا؟

مع التغيرات والتحولات التي اجتاحت منطقتنا العربية بعد أحداث "الجحيم العربي"، والذي أسفر عن بدء مرحلة تطبيع علني مكشوف بين حكام السعودية ودول الخليج وبين الكيان الصهيوني والتعاون والتنسيق الواضح بينهما ضد الحقوق والمصالح العربية، لابدّ من وقفة متأنية لقراءة هذا الحدث الخطير والتفكير مليّاً بالخطوات التي يجب اتخاذها كي لا نكتشف بعد نصف قرن من الآن أننا لم نتخذ القرار الصحيح ولم نسر ولو خطوة واحدة على الدرب الذي قد يوصلنا إلى الهدف المرتجى.

المتخاذلون سيسخّرون أموالهم بسخاء لخدمة العدو الصهيوني

كلّ من يفهم بتاريخنا القديم والمعاصر يعترف أننا كعرب لم نجر ولو مراجعة واحدة لما حلّ بنا على مرّ الأزمان، ولم نعترف بالأسباب الحقيقية للأزمات والنكسات والنكبات التي حلّت بنا.

وقد رفض الكثير من المعنيين في تلك الأحداث أن يسجّلوا حتى قراءتهم لما شهدوه، لأن شهاداتهم قد تثبت زيف كلّ ما تتعلمه الأجيال في كتب التاريخ الرسمي. ولكننا اليوم وصلنا مرحلة لم نعد قادرين على الاستمرار بهذا النهج، لأنّ المعركة اليوم هي بالفعل معركة وجود، وليس للفلسطينيين فقط، وإنما لأبناء هذه الأمة قاطبة من محيطها إلى خليجها.

إذ إن حقيقة تسارع التطبيع الخليجي مع العدو الصهيوني حقيقة لافتة وخطيرة ويجب ألا يستهان بمنعكساتها على الصراع العربي - الإسرائيلي، بل يجب أن تُعدَّ العدة لمواجهة مثل هذه المنعكسات. فدول السعودية والخليج اليوم تمتلك أكثر من 80% من وسائل الإعلام العربية وتمتلك الأقلام والشاشات، بالإضافة إلى أموال النفط الطائلة طبعاً واستعداد حكامها للإنفاق بسخاء لتدمير بلدان المواجهة العربية بالإرهاب، ولذلك فالأمة اليوم تواجه تحدياً جدياً ألا وهو تسخير المال السعودي والخليجي والإعلام التابع لهما للإجهاز على الحق العربي في الصراع العربي الإسرائيلي وللعمل على خلط الحابل بالنابل في أذهان الناشئة، بحيث يتم التشويش على المرجعية الحقيقية في هذا الصراع، ويتم استبدال الثوابت بمفاهيم غوغائية متحركة مغروسة على كثبان رمال فقط لتخدم مصلحة العدو الصهيوني على حساب أصحاب الأرض والحقوق والتاريخ والجغرافيا.

ولكي لا نتبّع النهج الذي تمّ اتباعه على مدى العقود الماضية يجب ألا نستغرق الوقت والجهد لدراسة هذه الظاهرة الواضحة للعيان، كما يجب ألا نقلّل من أهميتها وآثارها السلبية فقط كي نشيع شعوراً زائفاً من الطمأنينة والاستخفاف بظاهرة خطيرة لابدّ من أخذها على محمل الجد واتخاذ الخطوات المناسبة للردّ عليها.

وهنا لابد من عودة الخطاب العربي الحقيقي إلى جذر المسألة، لأن الإرهاب وتوابعه وكلّ ما ضرب بلداننا العربية من العراق إلى السودان وليبيا ومصر وسوريا واليمن يكمن أصله وجذره في الصراع العربي الإسرائيلي وفي احتلال فلسطين وتخاذل السعودية ودول الخليج، ومنذ عقود، عن تقديم الدعم الحقيقي للفلسطينيين والقضايا العربية المحقّة.

أما اليوم فهؤلاء المتخاذلون أنفسهم سيسخّرون أموالهم بسخاء، لم يعرف عنهم في دعم القضايا والتنمية العربية، ويسخروّن إعلامهم بشكل مباشر لخدمة العدو الصهيوني، فماذا نحن فاعلون؟ نحن المؤمنون بقضيتنا وعروبتنا وعروبة فلسطين والقدس، وأيُّ السبل سوف نسلك لمواجهة هذا الطغيان الجديد والخطير لدول التخاذل الخليجي السعودي؟

لاشك أن صمود الشعب الفلسطيني على أرضه وتمسّكه بحقوقه يشكّل اللبنة الأساس في مقاومة هذا الاحتلال الاستيطاني الإستعماري البغيض، ولكن لا يمكن أن يُتركَ هذا الشعب المحاصر بموارده المحدودة جداً في وجه آلة استيطانية عسكرية ممولة خليجياً ومدعومة إعلامياً من شركات الإعلام العالمي والخليجي، ولابد من التفكير بطرائق خلّاقة لرسم دروب جديدة لهذا النضال تستفيد من الدروس التي سطرتها حركات مقاومة الاستعمار الاستيطاني وخاصة في الجزائر وجنوب افريقيا.

لقد عمل المقاومون والثوار والأحرار في جنوب افريقيا على تشكيل حركات مقاطعة في كلّ أنحاء العالم وفي كل المجالات لنظام الفصل العنصري "الأبارتايد" حتى أصبح معزولاً وغير قادر على التحرك في العالم.

واليوم أرى أن القضية الفلسطينية وصلت هذا المفترق الهام ولا بد من تكاتف المنظمات والنقابات والأحزاب العربية لوضع آلية عمل تجعل من مقاطعة العدو الصهيوني هدفاً ثابنًا في كل نشاط إقليمي أو دولي.

ومن أجل هذا لابد من تشكيل فرق عمل بقيادات فلسطينية وبكوادر عربية ودولية هدفها الأساس التعريف بالقضية الفلسطينية وإلقاء الضوء على جرائم الاحتلال وعقد المقارنات بين ما يتعرض له الفلسطينيون، السكان الأصليون لهذه الديار، وبين ما تعرض له سكان أميركا وأستراليا وكندا الأصليون من حروب إبادة أدت بثقافتهم وأسلوب حياتهم ونظمهم الاجتماعية والروحية إلى الإندثار.

دعونا نعترف أن الفرق بيننا وبين أعدائنا هو أننا نحن أصحاب حق دون أن نضع لهذا الحق آليات عمل تعرّف به وتدعمه وتُسمع صوته للقاصي والداني، بينما هم محتلون ومستوطنون ومستعمرون ودعاة باطل صرف، لكنّهم وضعوا لهذا الباطل آليات عمل وخلقوا له منظومات فكريةً وإعلاميةً تنتج البحث تلو الآخر والفيلم الوثائقي تلو الفيلم والدعاية الإعلامية الضاربة أطنابها في الغرب والشرق بحيث تحولت صورة الباطل إلى حق والحق إلى باطل أو تكاد، بالإضافة إلى قيام مخابراته والجاليات اليهودية بالتغلغل في الأوساط السياسية والإعلامية وابتزاز مواقفها من القضية الفلسطينية وصولاً إلى اختراق حكام السعودية والخليج وإسقاطهم في شباكها وتسييرهم وفق المصلحة الصهيونية.

لاشك أن اعتذار الفريق الأرجنتيني عن إجراء المباراة الودية في القدس حدث هام اضطر نتنياهو أن يتحدث مع الرئيس الأرجنتيني مرتين لإعادة المباراة، وذلك ليس لأهمية المباراة ذاتها وحسب، ولكن لأهمية دلالتها والخشية من أن تشكّل سابقة لمقاطعة الكيان الصهيوني في مجالات مختلفة. الوجه الآخر لهذا الحدث يجب ألا يقتصر على الشكر والثناء بل على استخلاص العبرة أن العمل الحثيث والجاد لمقاطعة هذا الكيان وإظهار جرائمه في أعين العالم قد يكون أسلوباً ناجعاً في هذه المرحلة من النضال، مرحلة لابد من دعوة شباب العرب وشباب العالم للمساهمة بها، كل حسب اختصاصه ومن موقعه، ولنصنع تاريخاً جديداً مستخدمين به أساليب يستخدمها أعداؤنا وذلك لتعزيز المقاومة ضد مشاريعهم الاستيطانية وللمزاوجة بين النضال والاستشهاد على الأرض المقدسة من جهة وبين الأساليب العلمية في الدفاع عنها ومحاصرة العدو وهزيمته على الساحات الإقليمية والدولية من جهة أخرى.