الفعل لهم والتحديات لنا
إنّ ما يجري في الجزيرة السورية اليوم من خلال وكلاء الولايات المتحدة وما يجري على الحدود العراقية يهدفان أوّلاً وأخيراً إلى الاستمرار في محاولة بثّ روح العرقية والطائفية، وتحويلها إلى واقع يصعب التغلّب عليه وتغييره تماماً كما فعلوا في العراق على مدى السنوات الماضية.
من اللافت أن يصدر عن "ستاندرد أند بورز" في الولايات المتحدة تصريح يقول إنّ "التطوّر السياسي والاقتصادي للعراق يعرقله فساد واسع الانتشار"، وأن يُستكمل هذا التصريح بالقول: "محاربة الفساد والتهديدات الأمنيّة الخارجيّة تمثل تحديات رئيسية للعراق في الأجل القصير". والسؤال الذي يطرح نفسه هو أوَليست الولايات المتحدة هي المسؤولة الأولى عن انتشار الفساد في العراق وعن إرساء أسس طائفيّة للنظام السياسي في الدستور، حيث تشكّل الممارسة اليوم أكبر عائق في وجه أيّ تغيير للأحوال في العراق والنهوض به ومسح غبار الاحتلال الأميركي الغاشم، والدمار الذي سبّبته حروب الإرهاب التي أشعلها الاحتلال في العراق؟ رغم كلّ التحفظات على الفترة التي سبقت الاحتلال الأميركي للعراق فإنّ الغزو الأميركي غير الشرعي للعراق هو الذي أشعل نيران الدمار والإرهاب والفساد في هذا البلد الذي كان يشكّل رافعة للأمّة العربيّة جمعاء بموارده وكوادره وإمكاناته المحتملة والمستقبليّة.
في الحديث عن التحدّيات لا تأتي أيّ جهة أميركية أو غربية على ذكر من هو المسؤول عن خلق هذه التحدّيات، بل تعتبرها تحدّيات للعراقيين، كأنّها نتجت عن المجهول ولا علم لأحد بأسبابها المباشرة وغير المباشرة. أين هي وعود الولايات المتحدة قبل غزو العراق بأن تجعل هذا البلد واحة للديمقراطية والازدهار الاقتصادي يُشار إليها بالبنان في المنطقة والعالم؟ وأين هي حقوق الإنسان والنساء التي لطالما تغنّوا بالقدوم لحمايتها وتعزيزها؟ أحد أوجه المشكلة التي نواجهها جميعاً اليوم هو أنّنا نتداول أخبارنا بلغتهم وبمفهومهم حتّى عن أدقّ تفاصيل قضايانا.
فمن العراق إلى سوريا إلى ليبيا واليمن، تحتلّ الوكالات الغربيّة مركز الصدارة في صياغة الخبر وتصديره لنا، وكلّ ما يقوم به الإعلام المحليّ في الدول المعنية هو إعادة صياغة بسيطة لا تلامس جوهر المشكلة ومقتضاها. وكلّ ما يصدر عن معارضة ومقاومة للهيمنة الغربية على جوهر الأخبار لا يلامس إلّا السطح لأنّ المطلوب هو أن نعبّر نحن ومن خلال وكالات أنباء وطنيّة عن حقيقة الأمور وأن تصل أخبارنا وبصياغاتنا إلى كل المتابعين والمهتمّين.
وما يجري تداوله عن العراق بشكل مباشر اليوم مطروح من خلال وكلاء للمحتل الأميركي في منطقة الجزيرة السورية، حيث تقوم قوات تسمي نفسها "قوات ديمقراطية" بتنفيذ الأوامر الأميركية وبتمويل سعودي مكشوف ومعلن، لإرغام سكان البلاد الأصليين على الهجرة من ديارهم من خلال التنكيل بهم وإغلاق مدارسهم ودفعهم إلى الهجرة عن أرض الآباء والأجداد ضمن حملة للتطهير العرقي والطائفي، كي تحقّق الولايات المتحدة أحد أهداف إسرائيل بتقسيم البلاد عرقياً وطائفياً، ولكي يتحكّم وكلاء الولايات المتحدة في مصادر الثروة، ولكي يتمكّنوا من إخلاء هذه الأرض من التنوع الديني والعرقي والمذهبي والذي عاش عليها متآلفاً متحابّاً على مدى آلاف السنين، وذلك من أجل تنفيذ المخطط الصهيوني الأساسي للحرب على سوريا بمحاولة تقسيمها وخلق كيانات عرقية وطائفية غريبة عن تاريخ هذا البلد وواقعه.
إنّ ما يجري في الجزيرة السورية اليوم من خلال وكلاء الولايات المتحدة وما يجري على الحدود العراقية يهدفان أوّلاً وأخيراً إلى الاستمرار في محاولة بثّ روح العرقية والطائفية، وتحويلها إلى واقع يصعب التغلّب عليه وتغييره تماماً كما فعلوا في العراق على مدى السنوات الماضية.
إنّ إغلاق خمس وعشرين مدرسة سوريّة تدرّس المناهج التربوية السوريّة قبل أيام من افتتاح المدارس في منطقة الجزيرة، يهدف إلى دفع السريان والأرمن إلى مغادرة أرضهم وديارهم من أجل تعليم أولادهم، وبذلك قد تثمر الجهود التي لطالما سعت إليها الولايات المتحدة في العراق وسوريا، أملاً بتقسيم هذين البلدين اللذين يشكلان عمقاً حقيقياً للقوميّة العربيّة، وطرفاً أساسياً تاريخياً في الدفاع عن حقّ الفلسطينيين في أرضهم وديارهم.
وقد تكون هذه هي الخطة "ب" التي تحدّث عنها الأميركيون مراراً في سوريا بعد أن فشلت خطتهم الأولى لتغيير نظام الحكم في الجمهورية العربيّة السوريّة، عبر شنّ حرب إرهابيّة شرسة عليها.
واليوم، وبعد أنّ حرّر الجيش العربيّ السوريّ معظم المناطق من التنظيمات الإرهابيّة التي من المعروف الآن أنّ إسرائيل وداعميها قد أسسوها وموّلوها وسلّحوها ليغزوا بها سوريا، ومع بدء عودة الحياة إلى معظم أرجاء البلاد، حرّك الأميركيون أدواتهم العرقية لدفع المواطنين السوريين إلى الهجرة من مناطقهم كي تتمّ بعد ذلك "إجراءات ديمقراطية" بل تطهير عرقي بشع، يحقّق لهم ما عجز الإرهاب عن تحقيقه. ولذلك فإنّ التصدي لهذه المخططات اليوم بكلّ الوسائل المتاحة، هو بأهمية التصدي للإرهابيين الذين حاولوا تحقيق أهدافهم من خلال القتل والذبح والتدمير، ولا شكّ في أنّ إصرار العدوان الأميركي غير الشرعي على الوجود في العراق وسوريا هو من أجل إنعاش أيّ مخططات بديلة تصبّ في خدمة الهدف الأساسي الذي أتى من أجله، ألا وهو تدمير هذين البلدين وتقسيمهما إن أمكن، ومصادرة قرارهما المستقلّ، والبحث عن أدوات عمليّة تابعة له وتقويض التوجهات الوطنيّة المستقلّة قولاً وفعلاً.
ولذلك، حين تعلن القوات الأميركية على لسان الكولونيل تسون رايان أنّها باقيّة في العراق "ما اقتضت الحاجة للمساعدة في تحقيق الاستقرار في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة تنظيم الدولة الإسلاميّة"، وأنها باقية في شرق الفرات في سوريا وفي معبر التنف، فهذا يعني أنّ الحرب الأميركية بأهدافها الإسرائيلية في هذين البلدين مستمرة، وأنّ التحدّيات التي يضعها الأميركي أمام شعبي هذين البلدين هي تحدّيات من تصميمه وصناعته، ولأهداف تخدم مخططاته الاستعمارية الصهيونيّة لتصفية القضية الفلسطينية وسلب حقوق العرب في أرضهم مستمرة وممنهَجة، بهدف نهب ثروات العرب وفرض هيمنة إسرائيل على الأمّة العربيّة.
وهكذا يستمرّ الاستهداف، ولكن بأوجه وطرائق مختلفة، أمّا مقاومة هذا الاستهداف والانتصار عليه، فهما الخيار الوحيد الذي تمتلكه شعوبنا من أجل بناء مستقبل حرّ عزيز كريم لنا وللأجيال المقبلة.