حرب الدولار، كعب أخيل الإمبريالية الأميركية

ظهور أية قوّة بحرية غرباً أو شرقاً من شأنها أن تضع الإقتصاد الأميركي كله في مرمى الخطر الداهِم وثمة ما يُقال أن الخطاب الأخير للرئيس الروسي، بوتين، تضمّن إشارات عن أسلحة بحرية قادرة على إنهاء السيطرة الأميركية على البحار، ما فسّر ويُفسّر حجم الحملة الأميركية وأعوانها الأوروبيين على روسيا في القضية المزعومة حول الجاسوس الهارِب إلى بريطانيا.

فتّشوا عن روتشيلد

أخطر ما في النظام النقدي العالمي هو أن الدولار، العملة صعبة لكل دول العالم، هو عملة محلية بالنسبة للولايات المتحدة

لا يُذكر النظام النقدي العالمي وتطوّر معادلاته ومهندسيه عبر التاريخ الرأسمالي، إلا وتُذكر بيوتات الذهب والربا والمال اليهودية، وخاصة روتشيلد وسلالاته.

وسنرى أن إسم روتشيلد نفسه، وكذلك معنى الدولار ينتميان إلى القاموس الألماني، فالأول، كلمة ألمانية تعني الدرع الأحمر، والثاني يعود إلى جذر ألماني أيضاً، تولار أو تالارز، المشتق من إسم وادٍ للفضة في منطقة تشيكيا، بوهيميا سابقاً، جرى استثماره في القرن الـ 16 من قبل الإمبراطورية الجرمانية، التي ما أن تفكّكت حتى ظهرت من بين أنقاضها بروسيا الألمانية، زمن الإمبراطور ويليام الثاني وكبير مستشاريه، بسمارك، وقد عُرِفَ الإمبراطور بعلاقته القوية مع آل روتشيلد ودعمه للمستوطنات اليهودية في فلسطين.

وقد تمكّن آل روتشيلد في اتفاقية جنوى 1922 من تكريس الذهب كمعادل أساسي للنظام النقدي الدولي، كما تمكّنوا قبل ذلك من السيطرة على النظام النقدي البريطاني بحيث يكون الذهب غطاء للعملة الورقية.

ذلك أن البيوتات اليهودية وخاصة آل روتشيلد استحوذوا على معظم ذهب العالم، طيلة قرون الإقطاع الأوروبي الكاثوليكي، واستحوذوا معه عبر الربا المُحرّم كنسياً، على مفاتيح التجارة العالمية.

مع صعود الولايات المتحدة ومراكز البورصة الدولية، بعد الحرب العالمية الثانية سارعت البيوتات المالية اليهودية، إلى تكييف نفوذها الدولي مع المستجدات العالمية، كما كرّستها اتفاقية بريتون وودز التي حافظت على الذهب وأطلقت العنان في الوقت نفسه للدولار، الذي كان متداولاً في المستعمرات البريطانية الشمالية، التي صارت الولايات المتحدة الأميركية.

وحسب جون ستيوارت جوردون، في كتابه إمبراطورية الثروة، فإن المنظومة النقدية الأميركية، التي نقلت المركز المالي العالمي من شارع لومبارد في لندن، إلى وول ستريت في نيويورك، تأسّست في العقود الأخيرة من القرن الـ18 عبر مخاضات وصراعات بين الاستقلاليين، أمثال جيفرسون ولينكولن، وبين الامتدادات الأميركية لمراكز المال البريطانية وآل روتشيلد.

وحسب دراسة أخرى حول آل روتشيلد وتاريخه لـ ديفيد إيكيه في كتابه السر الأكبر، فقد انتهت هذه الصراعات لمصلحة ممثلي آل روتشيلد، الذين كانوا ضد أي شكل من أشكال المركزة النقدية في يد مصرف حكومي، ومن هؤلاء الكسندر هامتلون، الذي تمكّن آل روتشيلد من فرضه وزيراً للخزانة الأميركية، ومورغان، المهندس الحقيقي لقانون الاحتياطي الفيدرالي، المصرف الفيدرالي الأميركي، وذلك عام 1919 والذي جاء بعد مؤتمر أشرف عليه مورغان في جورجيا لصالح آل روتشيلد.

وقد أكّدت التجربة لاحقاً كيف أسّست البيوتات المالية اليهودية، من خلال مصرف عام غير حكومي، لسيطرتها على النظام النقدي العالمي ولاتزال، واكتسبت من خلال ذلك نفوذها الكبير على مجمل السياسة الأميركية وصناعتها وأدارتها.

 

كعب أخيل

من الأساطير والملاحم الإغريقية، ما كتبه هوميروس حول الحرب الإغريقية مع طروادة في الإلياذة التي تنتهي بمقتل البطل الطروادي، هكتور، وفي الأوديسة التي تنتهي بمقتل البطل الإغريقي، أخيل.

ويبدو الأبطال فيها ضحية الأرباب الوثنية وصراعاتها وموقع ربّات الأنوثة فيها، فهي تبدأ أصلاً بإلقاء ربّة الفتنة (يريس) تفاحة بين يدي (باريس) إبن الملك الطروادي، مريام، فيختار (فينوس) كأجمل الربّات ما يثير حفيظة البقية، فيما تكون جائزته من فينوس، هي هيلين، زوجة ملك أسبارطة.

وهكذا تبدأ الحرب بانتقام ملوك الإغريق واتحادهم ضد طروادة بمشاركة متأخّرة من البطل الإغريقي أخيل انتقاماً لصديقه بيتروكس، الذي قتله هكتور، الإبن الأكبر لمريام..

والمهم هنا هو أخيل الذي كانت والدته قد أمسكته من عرقوبه (كعبه) خلال تغطيسه في نهر ستيكس المقدّس، فظلّ هذا الجزء من جسده مكشوفاً وغير محصّناً، ما سمح (لباريس) صاحب القوس الشهير من إصابته في كعبه وقتله. ومع الفارق بين الوقائع والأساطير وبين بلد الفلسفة القديمة وبلد القتل والنهب الأميركي، وبين كعب أخيل وكعب الإمبريالية، إلا أن المشترك  بينهما هو الجزء المكشوف أو الحلقة الضعيفة التي تؤذن بالنهاية الدامية، فما هو كعب أخيل الإمبريالية العظمى التي ورثت من بريطانيا رقعة واسعة تحت شمس البنتاغون؟

 

حرب الدولار

إن ما يضفي على الإمبريالية الأميركية هذا القدر من الغطرسة والقوة وفرض الوصاية على بقية المتروبولات، ليس مكانتها التقليدية في النظام الرأسمالي العالمي، وليس وراثتها البحرية للإمبراطورية البريطانية، كما يذهب بريجنسكي وقبله سبيكمان، فهذه عناصر هامة وأساسية ولكنها سبق وأن توافرت في الإمبريالية البريطانية وقد تتوافر في إمبريالية أخرى.

إن ما يميّز الإمبريالية الأميركية هو دورها في صوغ النظام النقدي الدولي والعملة الصعبة العالمية انطلاقاً من الدولار الأميركي ولعبة الدَين الخارجي، فقد أتاحت الحرب العالمية الثانية والدمار الذي لحق بأوروبا للولايات المتحدة أن تفرض نفسها على كل المواثيق والاتفاقيات الدولية التالية وبضمنها اتفاقية بريتون وودز، فيما لم تتمكّن الديموقراطيات الاجتماعية للرأسمالية الأوروبية من فرض أي شرط من شروطها، ومنها مُقاربات الاقتصادي الإنكليزي، كينز.

ولم تنجح فرنسا الديغولية لاحقاً في مواجهة النظام النقدي العالمي القائم على الدولار بالعودة إلى نظام الذهب، بل أن ديغول سقط بعد ذلك بفترة قصيرة في ثورة طلابية، اتضح أن بعض قادتها مثل برنار ليفي كانوا دمى بيد المخابرات الأميركية.

كما عزّزت الإدارة الأميركية هيمنتها عبر هذه الإستراتيجية النقدية بُعيد حرب تشرين، فيما عرف بصفقة القرن أو صفقة جيكور مع السعودية 1974 التي ربطت سوق النفط العالمي كله بالدولار.

إلى ذلك، لا يمكن الحديث عن الدولار الأميركي من دون التمعّن في الدولار نفسه ودلالات ذلك منذ أن أصبحت الماسونية العالمية من أهم نوادي الرأسمالية والبيوتات المالية اليهودية التي تديرها، وليس بلا معنى أن يتضمّن الدولار ترميزات واضحة للنجمة السداسية وعائلة روتشيلد والمحافل الماسونية الأساسية: بني برث، الشرق الأعظم، يورك، وأندية شيكاغو التي أصبحت أندية عالمية مثل الروتاري والليونز، وللمهتمين مراجعة دراسة قديمة لبديع عطية، وهو سوري قومي.

وبالمحصّلة، فإن أخطر ما في النظام النقدي العالمي المذكور هو أن الدولار الذي يُعتَبر عملة صعبة لكل دول العالم، هو عملة محلية بالنسبة للولايات المتحدة التي تستطيع طباعة ما تشاء من دولارات باعتبارها عملة محلية.

وحتى تحافظ على هذه الميزة غير المسبوقة في التاريخ الإقتصادي للعالم، كان على الإمبريالية الأميركية أن تحتفظ بقوّة عسكرية متطوّرة لتأديب كل من تسوّل له نفسه العصيان عليها، هكذا تطوّرت الأساطيل البحرية من وراثة الإمبراطورية البحرية البريطانية إلى أهم ضامِن لسيطرة الدولار الأميركي على النظام النقدي العالمي.

وهو ما يعني أن ظهور أية قوّة بحرية غرباً أو شرقاً من شأنها أن تضع الإقتصاد الأميركي كله في مرمى الخطر الداهِم وثمة ما يُقال أن الخطاب الأخير للرئيس الروسي، بوتين، تضمّن إشارات عن أسلحة بحرية قادرة على إنهاء السيطرة الأميركية على البحار، ما فسّر ويُفسّر حجم الحملة الأميركية وأعوانها الأوروبيين على روسيا في القضية المزعومة حول الجاسوس الهارِب إلى بريطانيا.

هكذا يمكن للنظام النقدي العالمي القائم على الدولار الأميركي، أن يتحوّل في سنواتٍ قليلة إلى كعب أخيل أميركي، ما أن يظهر مقاتل طروادي وعلى كتفه جعبة من النبال المُصمّمة لإنهاء الوحوش البحرية الأميركية التي تجوب البحار من دون حسيب أو رقيب، وقد بدأت سلالة من النبالة تظهر في موانىء أوراسيا وتعلن عن عصر جديد.