الإرهاب المُتبادَل اليمين الفاشي واليمين التكفيري
قبل مذبحة نيوزلندا بنصف قرن تقريباً، كان الروائي الفلسطيني، غسان كنفاني، في رواية (رجال في الشمس) يكشف محنة المهاجرين وراء الخبز، من خلال ثلاثة رجال فلسطينيين ماتوا داخل خزّان سيارة تهريب على الحدود العراقية – الكويتية.
هكذا، على حدود عربية نفطية وتحت شمس حارِقة، كان الموت في خزّان، وفي بلد أجنبي على مرمى المتجمّد الجنوبي، كان الموت برصاص الفاشية في مسجد، فتعدّدت الأسباب والموت واحد، ودون ذلك تاريخ: أوله، سياسات التبعية والإفقار والفساد وجنوب العالم ومنه بلاد العرب، وثانيه جشع المتروبولات الرأسمالية والشركات التي تديرها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، واختراعها لظاهرة لاجئي القوارب ومقاوليها، من أجل عمالة رخيصة، وذلك على امتداد العقود التي سبقت الإنهيار السوفياتي.
ففي سياق الحرب الباردة آنذاك، جرى ترويض الطبقة العاملة الأوروبية والأميركية ورشوتها بنظام اجتماعي معقول للأجور والضمان الاجتماعي مع التأمين الصحي، فما أن انهار المعسكر الإشتراكي، حتى كشّرت المتروبولات الرأسمالية وشركاتها عن أنيابها ضد الجميع شمالاً وجنوباً وفاقمت من ظاهرة العمالة الرخيصة المهاجرة.
وأضحت العولمة عبئاً على الطبقة العاملة والوسطى من البيض أنفسهم، الذين راحوا يتحوّلون عن الإشتراكية نحو اليمين الفاشي، الذي أوهمهم بأن المهاجرين من العرب والآسيويين والأفارقة، أياً كانت ديانتهم، هم الخصم الرئيسي الذي يهدّد فرصتهم، ووجودهم الديموغرافي أيضاً، وستمر عقود قليلة قبل أن تتفاقم هذه الثقافة مع ظهور عاملين ساهما في تغذية الفاشية، هما:
1- صعود اليمين التكفيري من جماعات الإسلام الأطلسي برعاية المخابرات الأميركية والبريطانية، انطلاقاً من أفغانستان وانتهاء بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وانتقاله إلى أوروبا نفسها.
ويشار هنا إلى أن كل الذين نفّذوا عمليات إرهابية في أوروبا، كان يُكتَشف أنهم في كل مرة سبق اعتقالهم أو احتجازهم والإفراج عنهم وربما تجنيدهم لهذه الغاية، فضلاً عن علاقة المخابرات الأطلسية بالجماعات التكفيرية كما يكشف كتاب كورتيس.
وفي خلفيّة ذلك، وكما كانت صورة الشرقي المتوحّش لاعق الدّم عن السيوف جزءاً من تغطية الحملات الإستعمارية للشرق (التمدين بالمدافع) فإن صورة داعش والنصرة وأخواتها جزء أساسي من تغطية الشكل الجديد لعودة الإمبرياليين وهيمنتهم على الشرق.
2- صعود اليمين التركي على شكل انبعاث عثماني بقدر ما ينطوي على شروطٍ موضوعية، بقدر ما ينطوي على صناعةٍ أميركيةٍ – بريطانيةٍ كما داعش والنصرة.
وليس بلا معنى أن تكون كتابات برنار لويس (المُختصّ بالشأن العثماني) وبريجنسكي، سابقة وممهّدة لهذا الإنبعاث الذي أريد له أولاً، أن يكون حاجزاً جديداً أمام إيران كما لعب هذا الدور في معركة كالديران قبل خمسة قرون، وثانياً، أن يكون حاجزاً أمام روسيا الأوراسية.
هكذا، وبالإضافة إلى هذا الصعود بحد ذاته، فإن تصريحات أردوغان على وجه التحديد شكّلت على الدوام استفزازاً (لمخاوف أوروبية قديمة كامنة) منذ الحصار العثماني لـ(فيينا) وساهمت في تغذية وصعود اليمين الفاشي الأوروبي في كل مكان.
وأياً كانت دوافع أردوغان، سيكولوجية أو مراهقة سياسية أو كامتداد للغطرسة التركية ضد الشعوب التي وقعت تحت الإستعمار العثماني ومنها العرب، فإن إشارته الدائمة إلى الإنقلاب الديموغرافي القادم في أوروبا، أفضل هدية للفاشية الأوروبية، التي باتت تنظّم نفسها وتستعدّ لمذابح جماعية أخطر مما شهدته نيوزلندا.
ويشار هنا إلى أن أكثر جهة تلقّت خطاب أردوغان وراحت توظّفه ضدّ الوجود العربي في أوروبا، هي الجهة الصهيونية، رغم أنها أكثر جهة تغذّت على الخوف الفاشي.
وبالمُحصّلة، نحن أولاً، إزاء مناخات إرهابية، لموجاتٍ من التهجير الواسع للآسيويين والعرب والأفارقة، بذريعة الخطر الديموغرافي، خاصة وأن (عمالة بيضاء) رخيصة من أوروبا الشرقية يمكن أن تحلّ مكانهم.
ونحن ثانياً، إزاء نمطين من اليمين، يتكاملان بقدر ما يختلفان ويتحمّلان معاً مسؤولية كل الجرائم والعمليات الإرهابية في أوروبا، ومنها جريمة نيوزلندا وما سبقها وما قد يلحقها ضد العرب والآسيويين والأفارقة من كل الأديان أو الجرائم التي وقعت أو قد تقع ضد المدنيين الأوروبيين.
هي الحقبة الرأسمالية إذن، في أسوأ تجلّياتها وتعبيراتها، الهمجيات العليا شمالاً، والهمجيات الدنيا جنوباً، ولا يجوز مواجهتها بثقافة الفسطاطين، ولا ثقافة الغرب مقابل الشرق، فهي ابتداء ليست صراعاً دينياً ولا قومياً ولا عرقياً، بل صراع بين الرأسمالية المأزومة وأيديولوجيتها (المالثوسية والداروينية الإجتماعية) ومعها قوى التكفير والإرهاب والتبعية من جهة، وبين كل القوى المناهضة لها ولسياسات التمييز العنصري والقهر الطبقي والوطني.