إعمار الضاحية المدمَّرة.. مَن يرمّم القلوب والذكريات؟
في الضاحية الجنوبية لبيروت هُدّمت البنايات.. يقال إنه سيُعاد بناؤها! لكن، من يُعيد إليّ، أنا، "كوخَ" ذكريات القلب... الحُلوة والمُرة؟
خلف البناياتِ المهدّمة مررتِ، يا عصفورةً في البال، مررتِ كثيراً في البال!
في مرأب السيارات، مرأب بنايتنا، الذي تتكوّم فيه الآن حجارةٌ وركام وألواح ألمينيوم وزجاج وحطامٌ من الأحلام، من الأمنيات، من الذكريات، من البناية التي كانت جارة رضاً لبنايتنا، لطالما جلستُ في سيارتي صباحاً، غالباً عند العاشرة والنصف قبل أن ينتصف النهار، وينتصف قلبي نصفَين، أفكر فيكِ: ماذا تفعلين الآن؟ هل شربتِ قهوتك، أو ربما تحبين صباحاً أن تمرّ أُولى دقائق صباحك مع "ماغ" النسكافيه!
لطالما، في هذا المرأب لبنايتنا، الذي اجتمعت فيه الآنَ أنقاضُ البناية قبالتنا، وذكرياتُ سكانها ولُعَبُ أطفالهم وصدى ضحكاتهم وحقائب التلامذة المدرسية وأقلامهم وكتبهم، التي لم تسمح لهم الحرب بأن يقرأوا كلمة واحدة فيها هذا العام.. لطالما فكرتُ فيك، وأنا جالس في سيارتي صباحاً، قبلَ رحلة العمل الروتينية اليومية: ماذا تفعلين الآن في إيعات! هل مرت أنامل شمس إيعات على جدائل شعرك، فصارت شمس إيعات جميلةً لما لامستك، وفاح شعرك عطراً أجملَ من عطر الجنة!
يقال ويُحكى: سيُعيدون بناء ما تهدّم! لكنْ، من يُعيد إليّ أنا تلك الذكريات التي لسَعَتْ قلبي في صباحات الضاحية سابقاً، وتذوّق معها قلبي، مَرةً شيئاً حلواً كالسكّر.. ومَرة شيئاً يُشبه طَعمَ الملح!
من يُعيد إليّ المِلحَ والعشق اللذين طهت بهما روحي خبزَ عشقها لروحك!
هُدّمت البنايات، التي كنتُ قديماً، كلما مررتِ في البال، يا عصفورة في البال، أركن سيارتي جانباً، قريباً منها، وأكتب إليك ما يجول في القلب وفي الروح وفي البال، وما وشوشني به شمس الدين التبريزي، وقال لي إنه سرّ الروح بين روحي وروحك؛ السرّ الذي لا يفقهه إلّا من تسكن بين ضلوعه روح!
هُدّمت البنايات.. يقال إنه سيُعاد بناؤها! لكن، من يُعيد إليّ، أنا، "كوخَ" ذكريات القلب الحُلوة والمُرة؟
في مثل هذه الأيام ربما، في موعد ذهابي الروتيني إلى العمل، العاشرة والنصف صباحاً، في فيء ظل البناية التي كانت جارة لبنايتنا، واليوم صارت ركاماً في مرأب بنايتنا، هرولتُ مسرعاً تحت زخّات المطر الذي كان ينهمر على وجهي، وعلى وجه بيروت، وعلى وجه الضاحية الذي "شََحْتَرَتْهُ" اليومَ وأحرقته الحرائقُ والدخان، ولطخته بالدم المجازرُ. خطرتِ في بالي أيضاً، يا عصفورتي "الإيعاتية" الساكنة في البال: هل يتبلّل وجهك أيضاً بالمطر. هل انهمر المطر يومها في إيعات، ونَقَرَت قطراته، بشغف وحياء وخجل، على زجاج غرفتك، ففتحتِ النافذة، ولامست أناملُ الريح شعرَكِ الإيعاتي الجميل، وتشرّب وجهك مطر السماء. ذاكَ الصباحَ الشتوي، تدفأت روحي بوهج روحك، يا عصفورة في البال، هنا حيث ركنت سيارتي في مرأب ينايتنا، الذي يحتضن الآن، كما يجدر بحبيب وصديق وجارٍ أن يفعل، ركامَ البناية جارتنا، وتركتُ ماء المطر على وجهي لأظلّ أتخايل وجهك مبلَّلاً بمطر إيعات.
يومها، تبلَّل وجهي بالمطر، وروحي تبلَّلت بالحب.. وبالحنين.
وأنا مزاجي شتوي، وطباعي شتوية، والكلمات التي أكتبها أحوك لها "مفردات" شتوية، وثيابي التي أحبها شتوية، والكتب التي أعشق قراءتها تبثّ فيّ شيئاً يشبه دفئاً شتوياً، والأغاني التي أسمعها، والأغاني التي أدندنها، روحُها شتوية، مشاعرُها شتوية، نغماتُها شتوية. والأنفاسُ التي تخرج من أعماق روحي، تخرج محمَّلةً بأحاسيس شتوية.
ذاك اليومَ، اعترفت لكِ، عبر همس روحي: أنا رجل "شتوي"..
والشتاء فصل للحب.. وللحنين.
واليومَ، وأنا أنظر من بعيد إلى الركام في المرأب، وأحس عميقاً بالركام في روحي، أعترف لك:
أنا رجلٌ شتوي وحزين جداً، يا عصفورة في البال.
أنا رجل شتوي، داخله ركامٌ، وحزين جداً يا عصفورة الشجن.