كيف يؤثر اللوبي الصهيوني على القرارات الأميركية؟
يؤكد جون جوديس أنه لا ينطلق في كتابه من كونه يهودياً ولمصلحة اليهود، بل لاكتشافه عن قُرب، عندما عمل مراسلاً لأخبار الكونغرس الأميركي، مدى خوف السياسيين الأميركيين من معارضة اللوبي الإسرائيلي القوي والوقوف في مواجهته.
-
كتاب "إسرائيل": التكوين، ترومان واليهود الأميركيون وأصول الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
يناقش المؤلف جون ب جوديس في كتابه "إسرائيل" ـــــ التكوين، ترومان واليهود الأميركيون، مسألة ضعف الإدارات الأميركية المتعاقبة في فرض حلّ للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي على حكومات "إسرائيل"، وأسباب هذا الضعف متعدّدة، متّخذاً من إدارة الرئيس هاري ترومان (Harry Truman) منطلقاً لبحثه.
ينطلق المؤلف في كتابه "إسرائيل" ـــــ التكوين، من الهجرات الصهيونية الأولى إلى فلسطين ووصول الاستيطان الروسي في تسعينيات القرن التاسع عشر وتأسيس "اتحاد الصهاينة الأميركيين" عام 1898، ثم الصهيونية الأوروبية والصهيونية الأميركية، وصولاً إلى تبلور القومية العربية الفلسطينية بالتزامن مع تسلّم الرئيس ترومان الرئاسة في عام 1945، قبل ثلاث سنوات من قيام "إسرائيل".
ويكشف جون جوديس أنه لا ينطلق في كتابه من كونه يهودياً ولمصلحة اليهود، بل لاكتشافه عن قُرب، عندما عمل مراسلاً لأخبار الكونغرس الأميركي، مدى خوف السياسيين الأميركيين من معارضة اللوبي الإسرائيلي القوي والوقوف في مواجهته؛ أما ما أقنعه بمواقف اليهود التجديديّين، الذين عارضوا فكر ثيودور هرتزل، وآمنوا بأنّ دور اليهود ليس تفضيل أنفسهم على شعوب أخرى، بل إضفاء نور النبوءة الأخلاقية؟ لمصلحة جميع الشعوب؟، والاهتمام بحقوق عرب فلسطين كحقوق اليهود الإسرائيليين، وهي الفكرة المناقضة تماماً لأيديولوجيا المؤسسات المؤيّدة لـ "إسرائيل"، أو الكنائس الإنجيلية.
استسلام القادة الأميركيين
ويبحث جوديس في كتابه مشكلة كبيرة ويعتقد أنها مستعصية في السياسة الخارجية الأميركية، وهي شبه الاستسلام لرغبات "إسرائيل" فيما يتعلّق بالصراع العربي ـــــ الإسرائيلي والاحتلال والمستوطنات، متّخذاً من فشل الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية هاري ترومان، في حلّ الخلاف بين اليهود والعرب نقطة انطلاق، ومتسائلاً: هل تسبّب هذا الفشل في فرض نمطه على حلفاء ترومان، الذين لم تكلّل ضغوطهم للسماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين وانسحاب "إسرائيل" من الضفة الغربية وإقامة دولة فلسطينية بأيّ نجاح؟ مُبرزاً اهتمام ترومان بالبعد الأخلاقي، المتمثّل في العدالة التي لم تتحقّق لعرب فلسطين والتعاطف الشديد مع الناجين من الهولوكوست والسماح لأعداد منهم بالهجرة إلى فلسطين، وكيف أنه برغم ذلك خسر معاركه كلّها في مواجهة الحركة الصهيونية الأميركية، والوكالة اليهودية والحكومة الإسرائيلية.
صُوّر ترومان أحياناً على أنه صهيوني مسيحي، وأنّ قراره الاعترافَ بـ "إسرائيل" كان منسجماً مع أعمق قناعاته، علماً أنّ الرئيس ترومان ينتمي إلى الحزب الديمقراطي، حيت رفض فكرة الدولة الدينية؛ إذ إنّ ديانات الدول كانت سبباً لقرون من الحروب في أوروبا. فلم يعتقد أنّ دولة يجب أن تعرَّف بشعب معيّن أو عرق أو دين.
كذلك يعتقد المؤلّف في كتابه، أنّ ترومان لم يكن غير متعاطف مع محنة يهود أوروبا، والذين كانوا ممنوعين آنذاك من الهجرة بقوانين هجرة شديدة القسوة حيت أثار ترومان استياء البريطانيين وعرب فلسطين بإصراره على أنه يجب السماح للناجين من (الهولوكوست) بالهجرة إلى فلسطين. بيد أنه أدرك أنّ الحركة الصهيونية الأوروبية، التي بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، كانت تسعى لإنشاء دولة يهودية في أرض عاش عليها شعب آخر يشكّل فيها أغلبية كبيرة على مدى 1400 سنة. لم يعرف ترومان جميع تفاصيل هذا التاريخ؟، إلا أنه عرف منه ما يكفي لكي يخشى من أنّ إنشاء دولة يسيطر فيها اليهود أو العرب ستؤدي بالضرورة إلى الحرب والظلم، ولذا فقد سعى لإنشاء دولة بترتيبات فدرالية ربما ترضي طموحات الشعبين؟
فشل ترومان في المواجهة
في تشرين الأول/أكتوبر 1947، بينما كانت الأمم المتحدة تناقش قرار التقسيم، فضَّل ترومان تقسيماً لفلسطين يمنح العرب حصة كبرى من الأرض. وبعد حرب 1948، فضَّل عقد اتفاقية سلام بين "إسرائيل" والدول العربية تعيد على الأقل الــ 40 في المئة من فلسطين التي كانت الأمم المتحدة قد خصّصتها للعرب، وتسمح لأكثر من الــ 700.000 لاجئ عربي ممن أبعدتهم الحرب بالعودة إلى بيوتهم. إلّا أنّ الرئيس ترومان خسر مواجهته مع الحركة الصهيونية الأميركية القوية التي كانت تعمل جنباً إلى جنب مع الوكالة اليهودية في فلسطين، ثم مع الحكومة الإسرائيلية مباشرة في ما بعد. وفي نهاية الأمر، استولت "الدولة" اليهودية على نحو 80 في المئة من فلسطين، وتَشتَّت عرب فلسطين، وحُرموا من دولة لهم.
فشل متلاحق ونقص الرؤية التاريخية
يستعرض جون جوديس في كتابه، رحلة ترومان مع هذا الفشل، التي بدأت مرحلتها الأولى حين رفض مطالب وفد المحاربين القدماء الأميركيين اليهود إنهاءَ حظر السلاح على "إسرائيل"، ومنحها 100 مليون دولار لتوطين اليهود الأوروبيين. ودعْم عضويّتها في الأمم المتحدة، وأبدى أمام الوفد استياءَه من الصهاينة؛ لأنهم لم يسمحوا، في سنة 1946، لـ 100 ألف يهودي ناجٍ بالهجرة، وجعل فلسطين دولة فدراليةً: لا عربية ولا يهودية. ونتيجة لموقف ترومان، أصيبَ أعضاء الوفد اليهودي بخيبة أطلقت شرارة ضغوط صهيونية هائلة عليه، فهو متأثر برفض الآباء المؤسسين فكرة الدولة الدينية، وبناء على ذلك، أجبِرَ خلال أشهر على القبول بـ "دولة" يهودية دينية على أرض فلسطين.
وكانت المرحلة الثانية من الفشل مع الصهاينة الأميركيين، الذين رغم مناداتهم بحقوق العمال والملوّنين، والحقوق المدنية، وحرية التعبير، والحريات المدنية، وأهمّها حقّ الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها. لكنهم اتّسموا بالعمى التامّ عن رؤية حقوق شعب فلسطين، واقترحوا نقله إلى الأردن أو العراق أو سوريا، وانتقدوا ترومان بشدّة على سعيه إلى دولة يستوي فيها الطرفان. حتى وصل بهم الأمر حدَّ تصوير منح صوت له بمثابة تقديم الدعم لإعادة إنشاء ألمانيا نازية؟ كان ترومان ليبراليّاً حقيقيّاً يحمل هواجس أخلاقية بشأن الصهيونية. كما ذكر المؤلف، وكان آخرَ رئيس يعبِّر عنها. منذ ترومان، حاول كلّ رئيس أميركي تقريباً إيجاد طريقة لتحسين أوضاع عرب فلسطين؛ من خلال الضغط على "إسرائيل" للسماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين، ومحاولة تشجيع الإسرائيليين على الانسحاب من الضفة الغربية المحتلة، والسماح لعرب فلسطين بإنشاء دولة. ومع ذلك، عانى خلفاء ترومان الفشلَ نفسه إلا أنهم استسلموا تحت ضغط لا هوادة فيه من مؤيّدي "إسرائيل" (وبعد عام 1948، من الحكومة الإسرائيلية نفسها).
من الملاحظ أنّ المؤلّف يقف أمام إشكالية معقّدة فحواها: هل سيستمرّ طويلاً لدى الأميركيين نقص الرؤية التاريخية في معالجة الصراع بين اليهود والعرب، واستجابة إداراتهم المتعاقبة على الدوام لمطالب اللوبي اليهودي المؤيّد لـ "إسرائيل ـــــ الدولة" التي تتجه أكثر فأكثر نحو اليمينية والتطرّف؟ يرى المؤلف أنّ حلّ هذه الإشكالية لن يتأتّى إلا لتمكّن رئيس أميركي ما، في ظلّ طغيان الحديث عن الهولوكوست على معظم النقاشات ومنع معظم الدول التي ترفض سياسات التعسّف الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني، أو إجبار اليهود على الوقوف أمام مسؤولياتهم في الشرق الأوسط؟
تجربة ترومان نموذجاً
يستعرض القسم الأوّل من الكتاب أنّ هناك "شعبين وأرضاً واحدة" وأصول الصهيونية وما تلا نجاحها في احتلال فلسطين من بروز قومية وطنية فلسطينية، متطرّقاً إلى ظروف ما قبل الاحتلال وبعده وشخصياته وأحداثه، والصراع الحامي الوطيس الذي نتج عنه ولا يزال بعد 77 سنة من انطلاقه.
أما القسم الثاني "تناقض الصهيونية الأميركية" فيعرض الأصول التي بنيت عليها الصهيونية الأميركية وعلاقة شخصياتها المؤثّرة باللوبي الصهيوني اليهودي في الولايات المتحدة.
ويبيّن القسم الثالث من الكتاب ـــــ "ترومان ـــــ وإسرائيل ـــــ التكوين"، باعتراف الرئيس ترومان نفسه بالمتاعب التي عاناها في العلاقة مع الصهيونية السياسية، ويستعرض المساعي الأنكلو ـــــ أميركية لفرض اتفاق بين العرب واليهود ورفض الوكالة اليهودية الاقتراحات الأميركية واتجاهها إلى إنشاء دولة يهودية على كامل أراضي فلسطين. ويعرض هذا القسم إعادة التاريخ تجربة ترومان مع (الرئيس باراك أوباما)، الذي لم يفلح خلال ولايتين في كسر عناد الحكومة الإسرائيلية وحلّ الصراع المستعصي.
بدأ هذا النمط من الاستسلام لـ "إسرائيل" ومؤيّديها في سنوات ترومان، وما بعده تغيَّر الفاعلون – إذ تسمّي الحركة الصهيونيّة نفسها الآن حركة "تأييد إسرائيل"(pro-isreal) – ولم تعد القضية هل يجب أن توجد دولة يهودية، إنما هل يجب أن توجد دولة فلسطينية أيضاً؟ ولكن تظل المشكلة الأساسية كما هي: هل يستطيع رئيس أميركي والشعب الأميركي مواجهة الصراع بين اليهود والعرب في الشرق الأوسط؟
"إسرائيل" التكوين ـــــ ترومان واليهود الأميركيون، دراسة مفصّلة عن نشأة الحركة الصهيونية ودورها في إنشاء "إسرائيل"، وعن بدء الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي، وتطوّره في فترة الانتداب البريطاني، وتفصيلات متشعّبة في الكتاب منها سعي الحركة الصهيونية في استصدار وعد بلفور، ودعم القوى الاستعمارية الكبرى ودورها الحاسم لإنجاز هذا الوعد، ومقاومة الشعب الفلسطيني له. كما يبرز دور الصهاينة الأميركيين في تشكيل سياسة الولايات المتحدة على مدى 77 عاماً حتى اليوم....
كتاب "إسرائيل" ـــــ التكوين، ترومان واليهود الأميركيون، المؤلّف جون ب جوديس، ترجمة عامر شيخوني، صادر العام 2024، بيروت لبنان، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقع الكتاب في 496 صفحة من القطع الكبير.