مروحة التفكير في نهاية الصحراء لسعيد خطيبي

انتهت رواية "نهاية الصحراء" بطريقة مأساوية آخذة بعين الاعتبار التشوّهات التّي ألحقت بالشخصيات من جرّاء عوامل كثيرة اجتماعية ساعدت على تشويه العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة.

  • مروحة التفكير في نهاية الصحراء لسعيد خطيبي
    مروحة التفكير في نهاية الصحراء لسعيد خطيبي

تسيطر على الإنسان رغبة في ممارسة العنف حينما يتحوّل ذلك العنف إلى مستغلّ ومحرّك رئيسي للأفعال الخاصة جداً، فتسقط ذاته داخل الإجرام لأنّ البراءة قد فضّت بطريقة لم يُأخذ رأيه فيها، لقد وجد ذاته على غفلة منه مدانة ومحكوم عليها بلقب "الجاني"، التيه الذّي تشكّلت داخله حلقة من المجرمين يستسهلون الاعتداء بعد أوّل اعتداء منهم، وحينما ينتقل هذا الواقع إلى الأدب فإنه يتوسّع بحكم أنّ القرّاء ومعهم الكاتب تجاوزوا مسألة الطرف الواحد، كلّ الأحداث محكوم عليها بالوضوح وعليه قد لا ينحاز الجميع لبراءة الضحية بالقدر الذّي يتعاطفون مع الجاني، وهذا يتعلّق بالمتلقّي، كلّ قاتل كان غالباً في يوم ما صديقاً قديماً لأحد تقول أغاثا كريستي، فهل القاتل في رواية "نهاية الصحراء" قاتل بالصدفة سيحوّل القرّاء إلى أصدقاء أم أنّه قاتل ضروريّ خلقته الحتميّة الوجوديّة؟ 

تستعيد رواية نهاية الصحراء الصادرة عن دار نوفل هاشيت أنطوان فترة جدّ حسّاسة في تاريخ الجزائر، إنّ الزمن الذّي اختاره الكاتب "خريف 1988" وهو زمن على بعد خطوات من الأزمة السياسية والاجتماعية التّي تلت الاستقلال، حيث سينتهي الأمر بالبلاد داخل دوامة دمويّة ستدوم لعشر سنوات، يقترب الكاتب لا من الأزمة بل من ظلالها، يخوض في أمر ما هو حولها لكنه لا يخوض فيها، يفضّل أن يلتقط التفاصيل الاجتماعيّة التّي أحاطت بالشخصيات المهمّشة والهشّة والمرفوضة بطريقة ما، ما يدفعها إلى فقدان براءتها، ومن ثمّ تلطيخ يدها بالجريمة التّي أودت بحياة "المغنية" الشابة. وهنا تحديداً نلتقط تلك الإشارات التّي تحكي حال الجميع في ظروف تسيّدت فيها الضغوطات فأنتجت مدناً مكتوماً على صدرها، بما في ذلك حال المرأة العصيب داخل المجتمعات المثقلة بالذكورية والغارقة في عنف معنويّ وجسديّ لا حدود له.

ويسير بنا سعيد خطيبي بثقل ليفضح أمام القارئ الأسباب التّي جعلت من هؤلاء أبطالاً بالجملة، يتساوون بعضهم البعض في الأهمية السرديّة، فغابت التجلّيات الفردية لأنّ الجميع ضحية والجميع مجرم، الجميع متماسك برابط الجرائم كقاسم مشترك الأمر الذّي يعيد إلى الواجهة السؤال الأبديّ للجريمة والعقاب من منظورين فلسفي وأخلاقي، فالشخصيّات كلّها مقهورة، كلّها معنّفة رمزياً، كلّها ملغّمة، لذلك لم يكن يحتاج سوى إلى هذا الزمن تحديداً حتى يصرف عليه تقنياته الأدبيّة، فهل نحتاج إلى روايات بوليسية تنقذ الواقع من تحييد جرائمه؟ هل نحتاج إلى رواية بوليسية لتهوية الغرف المغلقة داخل التفكير؟

عادة نحن نقرأ الروايات البوليسية سعياً لاكتشاف المجرم، لأنّ الشعور بالعدالة يعيد إلينا طمأنينة زائفة تساعدنا لاحقاً على تحمّل تجاوزات الوجود، ونودّ في أيّ عمل أدبي بوليسي أن نصل قبل أن يصل المحقّق إلى الجاني، ولا نعلمُ هل نريدُ بذلك أن نطبّق العدالة أم عدالتنا، فالأمر يتوقّف دائما على من قام بالجريمة. وهنا تمتزج الأحداث وتتداخل في محاكمة سياسية واجتماعية ودينية داخل العمل الأدبي الموازي للواقع لدى القارئ والكاتب على حدّسواء، ولعلّ واحدة من المزايا الأدبية في الكتابة البوليسية أن يحدس الكاتب ما سيفكّر به القارئ وهو يبحث في عمله عن الحقيقة، فيلعب معه بثيمات كثيرة يبعد بها نظره عن الجاني رابطاً إياه بذلك التشويق الذّي يخلق أثناء القراءة فيجعلك تتسابق مع الشخصيات للكشف عن وجهه، إننا نحتاجُ فعلياً إلى تعرية الواقع بجرائمه، وهذا لا يحدث إلّا عن طريق التفكير، فمن العادة أن تسعى الرواية البوليسية إلى تصوير تفوّق التفكير الإنساني العقلاني والمنطقي في مواجهة الألغاز الغامضة وحلّها.

الرواية البوليسية موجودة لأننا أولاً كائنات تفكّر، ها نحن الآن أمام جثة زكية زغوان الملقاة في المرج بمدينة صحراوية بعيدة عن بيت أهلها الذّي هربت منه وعن البيت الذّي أصبحت تنتمي إليه كمغنية داخل فندق "الصحراء"، وكلّ ما سيلي هذا المشهد سيعتمد على الحدس في بحثه لأننا كائنات تكدّ لاستخراج الحقيقة سواء عن طريق التجريب أو التجريد، نحن كائنات خصّت بالقدرة على استخراج المعقول من المحسوس، وكلما اقتربنا من الفهم ستنتابنا رغبة شديدة في الاستمرار، نشوة فكرية غريبة تجعلنا نواصل حتى النهاية، استطاع بها الكاتب سعيد خطيبي أن يبني أحداثاً موازية ونحن نركض جميعنا نحو فكّ لغز الجريمة التّي حدثت عل تخوم الصحراء عندما يكتشف الراعي بشير جثة امرأة يفصح تحقيق مفتش الشرطة حميد عن أنها "زكية زغوان" المغنية بفندق الصحراء لصاحبه المجاهد السابق "ميمون"، يتورّط فيها بشير حبيب الضحية الذّي رفضت والدته خطبتها له بدعوى أنها غير لائقة، وذلك بعد أن يتمّ العثور في غرفة القتيلة على رسالة لها منه تتضمّن تهديداً لها إن لم تبتعد عنه.

لا يتوقّف خطيبي عن إلقاء الأوراق داخل لعبة السرد فيخلق شخصيات تجلب معها عناصر أخرى توسّع دائرة الجرائم، ففي طريق المحقّقين للبحث عن من قتل زكية يتعثّرون بجريمة أخرى، جريمة قيّدت على أنها انتحار لكنها لم تكن كذلك. هذا التشويق البوليسي الذّي يشدّ به خطيبي القارئ يعتمد على الأدلة التّي يتلاعب بها داخل مسرح الجريمة والتّي بدأت من الفندق ولم تكتفِ بالمدينة ككلّ. إدخال المحامية نورة ابنة خالة المتهم بشير، الرسائل، قرط اللؤلؤ شريط الفيديو وغيرها من الأدوات مترافقةً مع سرده المحكم بتوظيف الأمثال الشعبية التّي تترجم الوعي الذّي راكمته التجارب التاريخية والاقتصادية والهوياتية، فنجد في إضافته الحكم المنسوبة إلى المجذوب داخل ثنايا عمله قد أعطى قرباً للقرّاء وأخذ بأيديهم نحو مهمّة البحث عن الحقيقة "الحوت يأكل حوتْ وقليل الجهد يموتْ" تردّد المحامية نورا  هذا من جهة، ومن جهة أخرى أعطاه بعداً وقرابة أخرى عن طريق ربط الأحداث بتواريخ عالميّة، فكلّ حدث قد يبدو أنه ولد منسي وسيموت منسياً وهو مرتبط بطريقة أو بأخرى بحدث حفظه التاريخ، كأحداث مهمة على نحو ما، فيتعرّف إبراهيم إلى نورة قبل انتحار داليدا بيوم واحد، أما حميد المفتّش فيبدأ في مزاولة عمله في السلك الأمنيّ بعد تسلّم أنور السادات جائزة السلام، ويربط خطيبي زواجه من زينب باليوم الذّي سبق حدوث الزلزال بمدينة الأصنام، كما يباشر كمال أيضاً العمل في فندق الصحراء في اليوم الذّي أعلنت فيه نشرات الأخبار نعيها للكوميدي لوي دوفينس.

ويواصل الكاتب التوتر الدرامي حتى يتبيّن أنّ حسينة العاملة في فندق الصحراء هي من فبركت الرسالة المزعومة والموقّعة باسم بشير المتهم بقتل "زازا"، وأنّ مرزاقة لم تنتحر بل تورّط كمال في قتلها، كما أنّ قبر والد إبراهيم لا يعرفه غير صاحب الفندق لأنه كان وراء تصفيته بالرغم من أنه كان شريك كفاحه ضدّ المحتل، كما يستثمر الروائي بالموازاة مع نصّه نصاً رومانسياً استشراقياً "رواية الشيخ" للكاتبة إديث مود هول لا لينتصر للحبّ على الطريقة الرومانسية بوصفه المنتهى والخلاص، بل ليعيد صياغة هذا الحب المتخيّل بعيداً عن العاطفة اللزجة، وما طبع عن "الصحراء" من طرف المستشرقين صاغه خطيبي ببطليه بشير وزكية بعيداً عن بطلي رواية "الشيخ" بن حسن وديانا، لقد جمعهما المسرح ذاته "الصحراء"  وعنف الاغتصاب لكن فرّقتهما الواقعية. فبينما انتهت رواية "الشيخ" بطريقة رومانسية حالمة انتهت رواية "نهاية الصحراء" بطريقة مأساوية آخذة بعين الاعتبار التشوّهات التّي ألحقت بالشخصيات من جرّاء عوامل كثيرة اجتماعية ساعدت على تشويه العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة التّي تحوّلت إلى علاقة استحواذ وهيمنة.

أخيراً سيلمس القارئ بنفسه فكرة تمجيد الرواية البوليسية للعقل القادر على أن يقوده إلى الحقيقة، حيث يخلق ذلك الجوّ من الشكّ والألغاز تحفيزاً للتفكير، ولا تكمن سعادة الكاتب إلا إذا انتهى بنفسه إلى حلّ اللغز مذهولاً، لأنّ الكاتب أيضاً لا يستطيع التخمين كمحقّق صانع للجريمة من سينتهي به الاتهام، وهذا ما سيبرع فيه في رواية "نهاية الصحراء" للكاتب الجزائري سعيد خطيبي، إنّ مروحة منعشة ستهزّ تفكير القارئ ومن ثمّة أخلاقه وفلسفته وعاطفته.

 

اخترنا لك