مجموعة قصصية لعبد الجبار المدّوري تعرّي الواقع بطريقة ساخرة
تمتاز المجموعة بخصائص فنية أبرزها التشويق والمراوغة والنسق الدرامي المتناسق.
تُعتبر المجموعة القصصية "اختفاء زبراط" للكاتب التّونسي عبد الجبار المدّوري شكلاً أدبياً متميّزاً يُحاول رصد التفاصيل الدقيقة لماهية الإنسان وماهية الحياة وتتبّع ملامح الشخوص وإيماءاتهم وحركاتهم وتسليط الضوء على مشاكلهم الماديّة والمعنويّة والغوص في أعماق النفس البشرية.
وزبراط في اللهجة العامية التونسية تعني المفرط في شرب الخمر أو السكير.
وترصد هذه المراجعة الدّلالات والمجريات التّي ضمّتها هذه المجموعة القصصيّة والتّي صدرت في كانون الثاني / يناير 2020، عن مؤسّسة منشورات الفينيق والتّي جاءت في 119 صفحة من الحجم المتوسط. وتعتبر المجموعة الإصدار الخامس بعد روايات أربع هي: رواية رغم أنفك، أحلام هاربة، تحت الرّماد، الليالي السّود.
إن أول عتبة تعترضنا ونحن نهمّ بسبر أغوار المجموعة هو العنوان "اختفاء زبراط" الذي يمثل مدخلاً رقيقاً إلى مستوى الكتابة السّاخرة والتّي تعرّف هذه الأخيرة بكونها نصوصاً تحاكي قضايانا الاجتماعية والسياسية وغيرها عن طريق السخرية التي تحوي مصطلحات أدبية. فتعرّي الواقع المعاش بطريقتها الساخرة والتي تجعلنا نضحك وبنفس الوقت نبكي حالنا فالسخرية على مرّ التاريخ كانت وسيلة للتعرية، تعرية الزيف والأخطاء، تعرية الفساد، تعرية للذات وخاصّة للاستبداد السّياسي. والزّبراط هنا في هذه المجموعة القصصية هو ذاك المثقّف النوعي الشاعر المتشبّع بوعي التمرّد على الواقع والتمرّد على التمرّد.
وهذا ما يؤكّد على أن المدّوري كتبَ بنوع من القلق الإبداعي والوجودي، اللذين ترقص في ثناياهما ثنائيّة الانتصار والانكسار، الألم والأمل، والموت والحياة.
تضمُّ المجموعة تسع قصص استطاع الكاتب خلالها التقاط مجموعة من التفاصيل اليومية التّي نعيشها وعشناها في فترة معينة، وخاصة أحلك فترات الاستبداد. فكل قصة لا تحمل عبرة واحدة وإنما تُصوّر الكثير من الدلالات والرمزيات.
وقد افتتح الكاتب عبد الجبار المدوري هذه المجموعة بقصة عنوانها "العَودة" والتّي تندرج ضمن أدب السجون وقد أخذت النصيب الأكبر من حيث عدد الصفحات من هذه المجموعة، وهي ترتقي إلى الأدب العالمي، ويتناوب السرد فيها على شخصيتين رئيسيتين إحداهما شخصية مختار وهو مناضل تقدمي طلابي، ثار على الظلم والاستبداد من أجل الحرية ليجد نفسه بسرعة في غرفة منسية. ثم يعرج الكاتب عن مداهمات البوليس للأحياء الشعبية وعن ألوان الاضطهاد التي يتعرض إليها كل المعارضين على يد سجّانيهم لمجرد أنهم يحملون رؤية مخالفة للسلطة ولا تتفق مع نهجها في الحكم.
أما الشخصية الثانية وهي شخصية "الأم" والتّي لعبت دوراً محورياً في صيرورة الأحداث
فكانت بطلة من دون أن تعي أصلاً أنها مناضلة / تقود ثورة على الظلم والحيف والتهميش.
صحيح أنها كانت أمية ولم تفهم بالضبط ما يفعله ابنها، وماذا كان يقرأ من مناشير ومراسلات سياسية سرّية. ولكن إحساسها بأن ابنها يكرّس نفسه لقضية كبيرة قد يضحي بحياته لأجلها. فقد علّمتها المحن (موت زوجها، استشهاد أخيها مختار) أن تصمد وألا تستسلم لحتمية الواقع وللهزيمة.
والقارئ المتمعّن في هذه المجموعة يتّضح أنها جانبت الواقع حيث كل قصة تُولد قصة أخرى في نسيج قصصي / روائي متشابك وأحداث متلاحقة لا يمّلها القارئ، بل ينتظرها بشوق وشغف. حيث انتقل بنا الكاتب بأسلوبه الشاعري السلس إلى القصّة الثانية بعنوان "النزيف" والتي تتحدث عن تصوير إحساس التهميش والإقصاء الذي تعرفه المنطقة الريفيّة في عهد سنوات الجمر، ومقاومتها للاستعمار الفرنسي من أجل الدّفاع عن الوطن، والتحرّر من الاحتلال، والحفاظ على الهوية.
أمــا بقية الأقاصيص فقد راوحت بين الجدّ والهزل، الجدّ في تسليط الضوء على الفقر والعوز للعاطلين عن العمل وتشريد الفقراء من قبل السلطة مما يدفع فئة من الشباب إلى طريق الصعلكة واحتساء النبيذ.
فالمدوري له رسائل عديدة كامنة بين السطور الشيء الذي يؤكد على أنه كتب نصوصه متشرّباً من إناء الواقع الذي لا ينضح معينه معتمداً في ذلك أسلوباً متميزاً بلغة يكتنفها الكثير من التلاعب الفني. وهذا ما نلمسه في قصة "رسالة تحت التراب" و"البرويطة".
تمتاز المجموعة بخصائص فنية أبرزها التشويق والمراوغة والنسق الدرامي المتناسق من خلال استلهام العناصر الثلاثة (بداية الموضوع وقلبه ونهايته) المتعارف عليها في الكتابات الكلاسيكية، لكن هذا النسق يبدو في بعض الأحيان منكسراً مخترقاً أدوات الزمان والمكان باعتماد تقنية الاسترجاع.
ومن الملاحظ أيضاً أن عبارات الوصف تضافرت مع جمل السرد لتختزن العبارات القصيرة عالماً واسعاً من الأحداث المنبثقة من واقع مادي مقيت. وهكذا يتدرج القاص بالقصص المتنوعة محاكياً الواقع بالأدوار الحقيقية التي تمليها حالات، وتصرفات، وأوضاع حياتية موجودة في مجتمعاتنا. إذا قرأنا جميع النصوص نجدها تكشف عمق الدّلالة، وغاية القصد.
والكاتب عبد الجبّار المدّوري كاتب وروائي تونسي نشر أربع روايات هي: رغم أنفك، أحلام هاربة ، تحت الرّماد، اللّيالي السّود. مُنعت رواياته في عهد نظام زين العابدين بن علي بسبب جرأتها السياسية، ولُقّب بالكاتب الفلاّق لأنه نشر مؤلفاته خارج الأطر الرسمية متحدياً بذلك قوانين المنع التي فرضتها الدّكتاتورية على نشر المؤلّفات. تعرّض للاعتقال والتّعذيب ودخل السّجن ثلاث مرّات (1987، 1993، 2002). وحكم عليه بأكثر من 11 سنة سجناً. نشر العديد من المقالات الأدبية والسياسية في الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية. حُرم طوال فترة حكم بن علي من أبسط حقوقه مثل حقه في الحصول على جواز سفر وحقه في العمل. بعد الثورة تولّى رئاسة تحرير جريدة "صوت الشعب" قبل أن يلتحق بالعمل في المعهد العالي للفنون الجميلة في تونس.
*الهادي الزعراوي كاتب وصحافي تونسي.