أفق الإشارة في رواية "الفراشات والغيلان"
الشخصية المحورية جسد طفل.. عقل رجل، وقلب ثائر.. إنها شخصية مركبة تحمل من التشابك النفسي ما يجعلها بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه، وهذا ما يتوافق والثنائيات المتضادة التي تستند كتابات عز الدين جلاوجي إليها.
يقول "حلاج" الأسرار: "من لم يقف على إشاراتنا لن ترشده عباراتنا". وإذا كانت العبارة تضيق وتضيق على المعنى، فإن الإشارة تتسع وتنفتح على ما وراء المعنى. وإذا كانت القراءة عينا ثالثة تجول بين السطور، فإن العقول الواعية المشحونة بالرؤية الفلسفية ستقرأ ما وراء السطور، وستدرك البون بين محدودية العبارة وأفق الإشارة.
أيتها الشمس المهربة من عيون النخيل..
من شرايين العراجين..
من حقائب القراصنة اللئام..
إلى مدن الضباب والظلام..
برؤية عميقة يفتتح الروائي المبدع عز الدين جلاوجي روايته "الفراشات والغيلان"، والتي عرضت معاناة الأطفال والنساء والصراعات العرقية أثناء الحروب، فعانقتهما إنسانياً يعيشه كل مبتلى بنار الحرب.
يستوقف العنوان القارىء ويفتح الذهن على الثنائية المتضادة التي تسائل المعنى الكامن خلف الفراشة والغول، والعطف الذي فرق بين المعطوف والمعطوف عليه. إنه التقابل الذي يعكس الحقيقة، فنحن ندرك الوجود من خلال الحياة والموت، واليوم من خلال تعاقب الليل والنهار. لذلك يرى الفيلسوف الألماني هيغل أن كل فكرة تستلزم أخرى تناقضها، والجدل القائم بينهما هو ما يحرك الفكر، ويمتد ذلك إلى الحياة والتاريخ.
والعنوان كما يقول الأستاذ عز الدين جلاوجي: "يشكل متن النصوص في أقصى قدرات اللغة على التكثيف والاختزال، وهو ما يجب أن ينجح فيه الأديب". وهذا ما يتجلى في كتاباته التي تعكس الثنائيات المتضادة كما في: "الحلم والفجيعة"، "الماء والرماد"، و"الفراشات والغيلان".
والغيلان جمع مفرده غول أو غالو، وهو الكائن الشيطاني الذي انبجس من الأساطير السومرية وغزا العقول فكرة عنيدة يصعب صرفها. إنه الغول الذي تستخدمه الجدات والأمهات لتخويف الأطفال، وهو الرمز الذي يخفي وراءه الشر الكامن في العالم.
قرية بأكملها أبيدت ولم ينجُ منها إلا ،"عائشة" و"محمد" وصديقه "عثمان". لا تزال صورة الفاجعة مرسومة على جدران ذاكرته، "محمد" لم ينسَ:
ها هي أمي في بركة دمها الأحمر القاني..
وها هي جدتي مهشمة الرأس..
وها هو أبي متهالكاً بالقرب من عمتي الأصغر..
وها هي عمتي الخرساء شمساً مغتالة فوق تراب الأرض.. وقد سال نجيعها المتألق.
في شكل من أشكال الإسقاط يسقط الروائي صورة الفراشات على الطفلين..يلونها بدلالات المعنى، ويزخرفها بخطوط المجاز.. وبالأسلوب ذاته يسقط صورة الغيلان على الصرب الذين أغرقوا كوسوفا في أنهار من الدماء. يقول محمد في الصفحة 20: "هؤلاء الوحوش يأكلون لحوم البشر إذن؟ هؤلاء هم الغيلان الذين كانت جدتي تحدثني عنهم دائماً؟
وإذا كان الغول هو الكائن الخرافي الموصوف بالقبح، فإن الفراشة كائن واقعي يجسد الجمال.. وإذا كان الصربي رمز الحرب والموت، فإن الطفل صورة للسلام والحياة.
وعندما تنزل الطفولة من جنة البراءة إلى جحيم الخبث ستتداعى الإنسانية وتنهار.. وعندما تلتحف الحقيقة المرة بالأسطورة تصبح قاسية.. وعندما تمزق الغيلان شرنقة الأسطورة وتخرج إلى الواقع لن تجد الفراشات لها مكاناً على الأرض.. وعندما يعيث القبح فساداً فيها.. سيحزم الجمال حقائبه ويمضي بدون عودة.
ولكن لماذا الشخصية المحورية في هذه الرواية طفل؟
الشخصية المحورية جسد طفل.. عقل رجل، وقلب ثائر.. إنها شخصية مركبة تحمل من التشابك النفسي ما يجعلها بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه، وهذا ما يتوافق والثنائيات المتضادة التي تستند كتابات عز الدين جلاوجي إليها، فالطفل الصغير الذي قصد الحدود الألبانية فاراً من الموت هو الطفل نفسه الذي يتحدث بوعي يفوق عمره الزمني بعد ما خبره من تجارب وهزات جعلته يكبر قبل الأوان.
وفي الصفحة 30 تتجلى صورة الوطني الثائر التي ينشدها "محمد" من خلال ابن خالته "سليمان"..البطل الذي يدعو للثورة والمقاومة، فيقول:
أرض كوسوفا أرضنا..
من تربتها نبتنا..
من أريجها أينعنا وأزهرنا..
وعليها.. فيها يجب أن نموت..
وتشبث "محمد" بلعبته إشارة إلى تمسكه بطفولته.. بحلمه.. بطموحه. وفي الصفحة 35 يقول ناقماً: "تراقصت بين عيني صورة لعبتي المهشمة والحوافر البغلية تدوسها، فتتطاير أجزاؤها هنا وهناك".
أما التمزق بين البقاء الذي يهدده الموت.. والهروب الذي يجلده الشعور بسياط الاغتراب، فيظهر في الصفحة 58: "ماذا نساوي دون أرضنا؟
ماذا نساوي دون حضننا الدافىء؟؟
سنعيش أغراباً.. ونموت أغراباً.."
وفي الصفحة ذاتها تتجلى صورة الوطن المقدس الذي تدنس بأقدام الغيلان.. لكن الفراشات لاتزال وفية له: "إلى هذا الحد عظيم هو الوطن في نفوس أبنائه.. كل الذين لاحظتهم يبكون وينتحبون.. كانوا يفعلون ذلك حباً في الوطن".
وعليه تكون الشخصية المحورية في هذه الرواية طفل لأنه يمثل المستقبل.. هو الوجه المشرق للآتي..هكذا حدث الشيخ الأطفال عندما رأى فيهم الأمل.. والأمل هو النهاية التي انتهت إليها الرواية..
يقول "محمد" في الصفحة الأخيرة: "امتطيت صهوة الأرجوحة.. ورحت أتأرجح ببطء إلى الامام وإلى الخلف.. أغني أغية الوطن الجميلة.. وأتخيل الأطفال اللاعبين أمامي فراشات جميلة.. تدغدغ خد الأرض في براءة، وتحلم بشروق الشمس".
"الفراشات والغيلان" رواية تعكس رؤية شاملة للإنسانية التي أنهكتها الحروب، و"محمد" لا يشير إلى طفل محدد بل هو اختزال للمعاناة الإنسانية التي يعيشها أطفال العالم.. وكوسوفا فضاء مكاني منفتح على كل أرض تدنست بأقدام الطغاة.. والصرب أو الغيلان نموذج لأعداء السلام في العالم.. واللعبة طفولة تريد أن تعيش وحلم يريد أن يحيا.
هي رواية تنهل من التاريخ، فتضعه فيها من دون أن تضيع فيه.. وتتجاوز شفافية العبارة بعمق الإشارة فاتحة باب التأويل والإسقاط. وهذا ما يمنحها جمالية خاصة تجمع بين أناقة المبنى ورشاقة المعنى.