الملحمة: كيف كُتبت سير الأبطال والملوك في المخيلة الإسلامية

في معرض تقديمنا لسلسلة مقالات، يتركز محور اهتمامها على كيفية كتابة التاريخ، وطريقة سرد تفاصيل الملحمة الإنسانية وسير الأبطال على وجه الخصوص، نبدأ بالإشارة إلى بعض التفاصيل المهمة المرتبطة بماهية التاريخ وطرق التعامل معه، ومناهج تفسيره، وطريقة المؤرخين في صياغة أحداثه وتفاصيله.

هل يكتب المنتصرون التاريخ؟

 المقال الأول: مقدمة تمهيدية

التاريخ: هل من تعريف محدد؟

في البداية، يطل علينا السؤال الذي يختص بتحديد تعريف معيّن ومحدد للتاريخ، إذ أنه من الصعب والعسير أن نتناول موضوع تاريخي بالمقام الأول، دون أن نحرر مصطلح التاريخ وأن نُعرف أبعاده وحدوده وأشكاله.

اختلف المؤرخون منذ قديم الأزل، في تعريف التاريخ، حيث ذهبوا في ذلك مذاهب شتى، وذلك رغم اتفاقهم على موضوعه واهتماماته، فعلى سبيل المثال، يُعرّف المؤرخ الأندلسي الأشهر عبد الرحمن بن خلدون المتوفى في 808ه/ 1405م، التاريخ في مقدمته بقوله: "إنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".

بينما قام المؤرخ شمس الدين السخاوي المتوفى في عام 902ه/ 1497م، في كتابه الإعلام بالتوبيخ لمن ذم أهل التاريخ، بتعريف التاريخ على إنه "فن يبحث عن وقائع الزمان من حيث التعيين والتوقيت، وموضوعه الإنسان والزمان"، ثم أستطرد قائلاً: "وفي الاصطلاح التعريف بالوقت الذي تضبط به الأحوال، من مولد الرواة والأئمة ووفاة وصحة، وعقل وبدن، ورحلة وحج، وحفظ وضبط، وتوثيق وتجريح، وما أشبه هذا مما مرجعه الفحص عن أحوالهم في ابتدائهم وحالهم واستقبالهم".

 

التاريخ: علم أم فن؟

اختلف الباحثون والمؤرخون في توصيف التاريخ وتحديد ماهيته منذ أقدم العصور وحتى اللحظة الراهنة، فقد رأى قسم منهم أن التاريخ فن مثله مثل باقي الفنون التي عرفتها الحضارات الإنسانية المختلفة، وأنه عمل إبداعي بما يحتويه من سرد قصصي روائي للأحداث والوقائع.

وعلى العكس من هذا الرأي، فإن قسماً أخر من أهل التاريخ والسير، زعموا أن التاريخ علم وأن له أصولاً علمية بحثية معتبرة، تضاهي تلك المتبعة في العلوم التجريبية والتطبيقية المعروفة مثل الطب والهندسة والزراعة والكيمياء والفلك والحساب.

وما بين الشد والجذب ما بين هؤلاء وأولئك، ظهر فريق جديد، يعتقد بأن للتاريخ خصائص الفن وسماته بما تتميز به طريقة سرده ورواية دقائقه، ولكنه مع ذلك علم مستقل قائم بذاته، له نظريات وأسس وقواعد، كما تسري عليه أصول البحث العلمي ومناهجه الاستقرائية والاستنباطية. ولكن مع ذلك، فإن ميدان البحث العلمي التاريخي ليس هو المعامل والمختبرات، كما هو الحال في العلوم الفزيائية والطبية، بل إن ساحة تجربته تتمثل في عقل المؤرخ ووعيه الذي يتسع ليضم الكثير من الأحداث والوقائع البسيطة والدقيقة، ليضمها إلى بعضها البعض، صانعاً منها صورة كاملة للماضي، بالشكل الذي يمكنه من التنبؤ بالمستقبل.

 دور التاريخ في الحضارة
منذ القدم، احتاج الإنسان لأن يرجع إلى تاريخه وماضيه، وكان السبب في ذلك حاجته للتعلم والتطور، ولذلك فإن الكثير من العلماء والباحثين الغربيين قد حاولوا أن يبينوا أهمية التاريخ في الحضارة الإنسانية، بقولهم إن الإنسان ما هو إلا حيوان صاحب تاريخ.

ومع اختلافنا مع هؤلاء في حرفية تشبيههم، إلا أننا لا ننكر أن أحد أهم الفوارق الرئيسة التي تميّز الإنسان، وتبرز تفرده وسيادته عما يحيط به من مخلوقات، هي مسألة فهمه للتاريخ والوعي والإحاطة به، والالتفات إليه واستدعائه في شتى المناسبات ومختلف الأوقات.

فقد كان التاريخ -أو بالأحرى الوعي التاريخي-هو الأداة الأساس التي استخدمها الإنسان في سبيل إنشاء حضارته وتقدمها، حيث منحته القدرة على اختزان المعارف والعلوم، وعلى البناء عليها والاستفادة من التجارب السابقة وتدبّر نتائجها ومآلاتها.

كل ذلك استطاع أن يعطي للمعرفة الإنسانية طابعها التراكمي، الذي مكّن كل جيل من التعرّف على منجزات ومعارف الجيل السابق عليه، فإذا عدنا إلى الأزمنة الأولى لوجدنا أن هناك عصراً اكتشف فيه الإنسان النار، ثم تلاه عصر تعلّم فيه الإنسان الرعي، وبعد ذلك عرف الزراعة والحصاد، مما أدى بالبشرية في النهاية من الخروج من نمط الترحل والانتقال إلى نمط الاستقرار والتحضر.

بغير ذلك الشكل التراكمي/ التاريخي الذي اختص به الإنسان، لكان البشر لا يزالون إلى اليوم ن ماكثين في الكهوف، خائفين من الحيوانات المفترسة التي تحيط بهم في الغابات، ينتهزون كل فرصة مناسبة لجمع والتقاط الفاكهة من على الأشجار.

قد يمكننا ملاحظة أهمية الوعي التاريخي بشكل أكبر، إن درسنا تصرفات بعض الحيوانات التي نعرفها، السمك على سبيل المثال. فمنذ آلاف السنوات، يتم اصطياده بنفس الطريقة، في كل مرة يتم إغراؤه بالطعم، وفي كل مرة تُقبل السمكة على هذا الطعم، غير عارفة بالمصير المفجع الذي ينتظرها من ورائه.

تُرى ماذا لو كان للسمك القدرة على نقل معارفها من جيل إلى أخر بشكل تراكمي؟

من المؤكد عندها أن السمكة لم تكن لتُقبل الآن على تناول الطعم بتلك البساطة، ولربما كانت سوف تكتفي باستحداث طريقة أو تقنية معيّنة، تُمكنها من التهام الطعم من دون الوقوع في المصيدة.

هل يمكن أن نفسّر أن سبب وقوع السمكة في المصيدة عبر آلاف السنوات هو غياب الذكاء؟

بالتأكيد لا، والدليل على ذلك أن العديد من الحيوانات التي أثبت العلم الحديث امتلاكها لمخ يقترب في تركيبه من المخ البشري، كالقرود على سبيل المثال، تظل عاجزة هي الأخرى عن نقل المعارف وتطويرها، وهو ما يؤكد على مركزية مسألة الوعي التاريخي في عملية تطور الحضارة الإنسانية.

   

كيف نفسّر التاريخ؟

هناك 20 نقطة جزئية تُشكّل النسق الروائي العام لقصص الملاحم والبطولات.

إذا كنا قد اتفقنا على الأهمية الكبرى التي أثّر بها التاريخ والوعي به في تطور الحضارة الإنسانية، فإن ذلك قد استلزم بالتبعية استحداث عدد من المناهج والطرق التي تعمل على فهم التاريخ بشكل صحيح، ذلك أن الماضي لا ينطق شارحاً نفسه من تلقاء ذاته. كما أن الحادثة الواحدة قد تكون لها أبعاد مختلفة وسياقات متباينة، مما يُصعب من فهمها بالشكل الذي يجعلنا نستفيد منها على الوجه الأمثل.

ولذلك ظهرت نظريات ومذاهب تفسير التاريخ، وهي نظريات تختلف نظرتها إلى الحادثة التاريخية، بحيث تُعلي كل نظرية من جانب معيّن من جوانب الحادثة التاريخية، فتجعل منه الجانب الأكثر أهمية فتركّز عليه وتجعل منه عمود الأساس في الحادثة، بينما تندرج باقي جوانب الحادثة من تحته في شكل فرعي.

من أهم نظريات تفسير التاريخ، التفسير الفردي، وهو ذلك التفسير الذي يهتم بإبراز دور الفرد في الحادثة التاريخية، فيهتم بتبيان دور الأبطال والملوك والسلاطين والقادة، ويجعل من هؤلاء صناع الحادثة التاريخية.

تشيع تلك النظرية التفسيرية في كتابات أكثرية المؤرخين القدامى، سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم، حيث اهتم هؤلاء في كتاباتهم بالتأريخ للشخصيات العظيمة، فتجدهم عندما يتناولون تاريخ مصر على سبيل المثال، إنما يؤرخون لفترات حكم زعمائها وقادتها وحكامها، من دون أن يتطرقوا لحياة المواطن العادي أو للعامة من الشعب المصري.

ورغم شيوع التفسير الفردي في كتابات أعلام المؤرخين، إلا أن النظرة الموضوعية تقتضي الشك في الأساس الذي بُني عليه. على سبيل المثال، يطرح الدكتور أحمد محمود صبحي، في كتابه "في فلسفة التاريخ"، سؤالاً مهماً حول أهمية ودور التفسير الفردي للحدث التاريخي، فيقول: "هل الأحداث التي تصل لدرجة من التأثير والفاعلية من خلق ساسة وقواد بلغوا مرتبة البطولة، أم أن هذه الأحداث حصيلة حضارة أسهم فيها شعب بجميع أوجه نشاطه اقتصادية واجتماعية وعلمية وفكرية وفنية وأدبية، فصلاً عن أنظمته من دين ولغة وعادات؟".

 

وإن كان التفسير الفردي للتاريخ هو الأكثر استخداماً في كتب الأقدمين ومؤلفاتهم، فإننا في الوقت نفسه نجد أن التفسير الديني قد احتل مكاناً مرموقاً ضمن نظريات التفسير التاريخي.

فبحسب التفسير الديني، فإن الدين والعقائد والشرائع تلعب دوراً فارقاً في توجيه الحوادث التاريخية وصياغتها، فلا يمكننا مثلاً فهم التاريخ المصري القديم إلا بعد فهم التحولات الكبرى التي مرّ بها الدين في مصر القديمة، منذ مرحلة تعدد الآلهة في المرحلة المبكرة من عصر الأسرات إلى سيادة أمون في نهايات الدولة الحديثة، مروراً ببعض الفترات التي تعرض فيها الدين لتغيّرات حادة، مثل مرحلة التوحيد في عصر امنحتب الرابع.

وكذلك لا يمكننا فهم تاريخ بلاد الرافدين، إلا بمعرفة الكثير من التفاصيل عن عبادة عشتار وأشور ومردوخ.

أما بالنسبة إلى بعض الأحداث التاريخية الكبرى، مثل الفتوحات الإسلامية، فلا يمكن تناولها تناولاً صحيحاً إلا بعد الرجوع إلى مصادر الدين الإسلامي الرئيسة، القرآن والحديث الشريف، لأن تلك المصادر تتضمن الكثير من النصوص المتعلقة بالفتوحات والجهاد والغزو، وتمكننا من فهم الدوافع الحقيقية، التي حدت بالموجات المتتالية من العرب المسلمين بالتوجّه شرقاً وغرباً.

ومن التفسيرات التي ظهرت في العصر الحديث، التفسير المادي للتاريخ، والذي جرى الاهتمام به بواسطة عدد من الفلاسفة والمفكرين من أمثال هيغل وكارل ماركس وأنجلز.

بموجب النظرة المادية للتاريخ، فإنه يجب البحث عن العوامل الاقتصادية والاجتماعية المسببة لكل حادثة، حيث اعتبر المفكرون الماديون أن التاريخ هو نتاج تطور للصراع الاقتصادي، بمعنى أن الاقتصاد هو المسبّب الحقيقي لكل الحوادث.

وبموجب تلك النظرة تم تفسير الكثير من الأحداث، مثل ثورة الزنج التي وقعت في العصر العباسي، حيث اعتقد البعض أنها ما قامت إلا لسيطرة طبقة من الإقطاعيين على معظم الموارد المالية وعلى مساحات واسعة من الأراضي، ما حدا بمجموعة كبيرة من العبيد المقهورين الذين يقبعون في الدرجة الأخيرة من الهرم الاجتماعي في المجتمع المسلم حينذاك إلى الثورة للمطالبة بحقوقهم.

وفي السياق نفسه يمكن تفسير حركة القرامطة، وحركة بابك الخرمي، وحركة الزط.

كما يمكن أن نطبق تلك القواعد نفسها، لتفسير بعض الحركات الاحتجاجية والثورات، خارج العالم الإسلامي. ولعل الثورة الأميركية في نهايات القرن الثامن عشر والثورة البلشفية في بدايات القرن العشرين من أصدق الأمثلة على ذلك.

وإلى جانب تلك النظريات الثلاث الكبرى، التفسير الفردي والتفسير الديني والتفسير الاقتصادي، يوجد العديد من التفسيرات الأخرى المهمة، مثل التفسير الطبيعي، الذي يرى أن للظواهر الطبيعية دوراً كبيراً في تشكيل الحوادث التاريخية، وكذلك التفسير النفسي، وتفسير التحدي والاستجابة، وغيرها من النظريات التي شاعت شيوعاً كبيراً في الأوساط العلمية والأكاديمية.

 

 

الملحمة وسير الأبطال

من بين كل الكتابات التاريخية، حظيت قصص الأبطال والعظماء بمكانة خاصة في الوعي الإنساني، حيث مثّلت تلك القصص نموذجاً يحتذي به الناس ويقتدون، كما شكّلت نبراساً لهم ومنارة يهتدون بها.

سيرة الأبطال، والتي سنسمّيها في كتاباتنا تجاوزاً بالملاحم، لم يتم تدوينها على مرحلة واحدة كما يعتقد البعض، بل في حقيقة الأمر قد تمت كتابتها وتأليفها، من خلال عدد من العمليات الإبداعية الأدبية التي اختلط فيها الواقع التاريخي الصادق بالخيال الأدبي الجامح، وهي تلك العمليات التي أنتجت في النهاية، بعد طول مخاض، بالنسخة النهائية لما نعرفه حالياً من سير لهؤلاء الأبطال.

ويمكن أن نقسّم مراحل تكوّن وتشكّل السيرة الملحمية، لثلاث مراحل أساسية، ولكل منها مواصفات وسمات زمنية ونوعية مختلفة، تلك المراحل الثلاثة هي:

 

1-مرحلة وقوع الحدث

تلك المرحلة هي التي تشهد وقوع الأحداث التي سيتم التأريخ لها بعد ذلك، في تلك المرحلة تتلاحق الوقائع بعضها وراء بعض، وتبدأ شخصية البطل في النمو والاكتمال شيئاً فشيء، بحيث ينتهي به الأمر وقد أضحى ذا دور فعال في التأثير على الدوائر المحيطة به وتغيير مسار التاريخ بشكل جزئي أو كلي.

مما تجدر ملاحظته في تلك المرحلة، أن البطل فيها لا يعرف مصيره، كما لا يعرف ما ستؤول إليه الأحداث في المستقبل، وكذلك يكون الحال بالنسبة للأشخاص المحيطين به، سواء كانوا من أعدائه ومناوئيه أو من أصحابه ومناصريه، فالبطل بالنسبة إليهم وقتها يكون مثله مثل أي عنصر إنساني آخر، يشارك في الحدث ولكنه لا يستأثر بالسيطرة أو التحكم. 

 

مرحلة التناقل الشفوي

تبدأ تلك المرحلة مع وصول البطل إلى السلطة أو النجاح، حيث يصبح حينها على قدر من الشهرة، ويتزايد ذلك القدر طردياً مع إحكام قبضته على الحكم أو تحقيقه لنجاحات متتابعة في مجال عمله.

ففي تلك اللحظة التاريخية تحديداً، يبدأ اختلاق شخصية روائية جديدة، هي ببساطة تمثل الرؤية الشعبية لشخصية البطل التاريخي، ويسير خط تطور الشخصية الروائية في اتجاه مغاير لاتجاه الشخصية التاريخية، وإن استأنس الخط الأول بالمحطات المهمة في الخط الثاني.

وإن كان تشكّل الخط الثاني (التاريخي)، سيعتمد على ما سيستجد من أحداث ووقائع وصراع مع القوى والجهات المختلفة، فإن الخط الأول (الروائي) سوف يكون اعتماده في المقام الأول على مشاعر الرواة وميولهم العاطفية ومواقفهم من السلطة القائمة، وطبيعة تعاطيهم مع المجتمع والدولة.

ومما قد يثير التساؤل، السبب الذي دعا بالرواة إلى اختلاق الأحداث غير التاريخية، ومزجها بالروايات التاريخية.

والحقيقة أن تفسير تلك المسألة من الصعوبة بمكان، ذلك أن النفس الإنسانية تنزع لا شعورياً إلى التعاطي مع ما يمر بها من أحداث سلباً أو إيجاباً، وهي مجبولة على التهويل أو التقليل، الإفراط أو التفريط، المبالغة في المدح والإعجاب أو المبالغة في القدح والذم، وهي أمور لا تزال أصداؤها حاضرة في كتب التاريخ مع اعترافنا بميل كتابها إلى الموضوعية والحياد بقدر إمكانهم.

بل ويمكن أن نلاحظ أثر تلك النزعة في الكثير من الشؤون الحياتية، والدينية منها على وجه الخصوص. وحتى الآن لا تزال تلك النزعة –اختلاق بعض المواقف والأحداث لغاية إصلاحية أو لهدف نبيل-حاضرة وبقوة، وعلى سبيل المثال يمكننا أن نستشهد هنا بأحد المنشورات المنتشرة على بعض مواقع التواصل الاجتماعي.

 

جاء في المنشور

(ألقت شرطة أبو ظبي القبض على أب انتحر بينما كان ينظف سيارته الجديدة، حيث فوجئ الأب بأن إبنه البالغ من العمر سنتين أخذ مسماراً وبدأ يخدش جانب السيارة، فقام الأب وبغضب شديد بضرب يد إبنه من دون أن يشعر بأنه كان يضربها بمقبض المطرقة!!!

انتبه الأب متأخراً لما حدث وأخذ إبنه إلى المستشفى، وفقد الإبن إصبعاً بسبب الكسور التي تعرض لها! وعندما رأى الإبن أباه قال له: متى سينبت إصبعي يا أبي؟

وقع السؤال كالصاعقة على الأب فخرج وتوجه إلى السيارة وقام يضربها عدة مرات، ثم جلس أمامها وكله ندم على ما حدث للإبنه، ثم نظر إلى مكان الخدش على السيارة وقرأ ما كتبه ابنه: "أحبك يا أبي..."

في اليوم التالي لم يحتمل الأب فانتحر! !!!". - نهاية المنشور.

 

من المؤكد أن القصة شيقة، وتنجح في استجداء تعاطف القراء وإثارة أحزانهم، ولكن لو أعدنا قراءتها مرة أخرى بشكل متجرد، لوجدنا فيها ثلاثة أسئلة تدل على تلفيق القصة وفبركتها بشكل كامل.

 

هذه الأسئلة هي:

·       هل هناك أحد ينظف ﺳﻴﺎﺭﺗﻪ بالمطرقة؟.

·       كيف يكون عمر الطفل سنتين ويستطيع كتابة "أحبك يا أبي"؟  وكيف يستطيع الكلام فيقول متى سينبت إصبعي يا أبي؟.

·       كيف قبضت الشرطة على الأب وهو منتحر؟.

 

هكذا ﺗُﺼﺎﻍ أغلب الأحداث ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴﺔ والدينية والمذهبية والعقائدية، فيتم الانسياق ﻭﺭﺍء العاطفة ﻭيُهمل العقل ﻓﻼ يجري تفكير عميق في الرواية قبل التصديق بها.

ومما تجدر ملاحظته هنا، أن عملية التناقل الشفوي، لا تتم لمرة واحدة، بل إنها تتكرر لمرات عديدة، وفي ظروف مختلفة وأماكن متباينة، ويشرف عليها رواة مختلفون في مهارة الحكي، وفي القدرة الإبداعية الأدبية، فبعض هؤلاء النقلة يكون من الشعراء وبعضهم يكون من الأدباء، وقد يكون قسم منهم من التجار وأهل الحرف والصنائع.

 

 

مرحلة التدوين

هل المنتصرون فقط هم من يكتب التاريخ؟
مرحلة التدوين الكتابي هي المرحلة الختامية في صناعة سيرة الأبطال، في هذه المرحلة يتم تدوين الملحمة الشفوية لتصبح مكتوبة.

ويمكن أن نصف مرحلة التدوين، بأنها مرحلة التأريخ الرسمي والمعتمد للشخصية، ومما تتسم به تلك المرحلة إنها غالباً ما تأتي بعد فترة ليست بالقصيرة من زوال أثر الشخصية المباشر.

فأغلب مدوّنات العصور القديمة، تمت كتابتها بعد انقضاء الأحداث بمئات السنين، وكذلك أحداث العصور الوسطى في بعض المناطق التي لم تنتشر فيها الكتابة، مثل منطقة شبه الجزيرة العربية.

من الملاحظات المهمة على مرحلة التدوين، إنها غالباً ما تتم في سياق مذهبي أو ديني أو أيديولوجي معيّن، وإنها ترتبط بشكل أو بأخر بالسلطة القائمة حينذاك، وربما يفسّر ذلك الجملة الشائعة التي ترى بأن التاريخ يكتبه المنتصرون.

عملية التدوين، هي في حقيقة الأمر إخضاع اللانهائي واللامحدود - والذي يتمثل في الكم الهائل من الروايات الشفوية التي تم تناقلها منذ لحظة وقوع الأحداث وحتى لحظة التدوين- لما هو نهائي ومحدود- والذي نقصد به الحجم الثابت للكتاب الذي ستدوّن به الروايات وهو مهما كبر يظل حجماً ثابتاً، هذا الأمر تطلب من المُدوّن أن ينتهج آلية معيّنة للانتقاء والاختيار، قد تبنى تلك الآلية على أساس مصلحة براغماتية، مثل محاولة المؤرخ أن يرتزق بكتاباته وأن يتقرب بها من ذوي السلطة والنفوذ طمعاً في منصب أو مال. وقد تنبني آلية اختياره على مذهبه وعقيدته، فلا يختار من الروايات إلا ما يوافق اعتقاده وثوابته الدينية المذهبية فيصححه ويجزم بصدقه، ويطرح كل ما هو دون ذلك جانباً متعللاً بكذبه وفساده.

كل هذا يمكن أن نجمله بقولنا إن مرحلة التدوين التاريخي -مع أهميتها-فإنها واقعياً ليست أكثر من محاولة للتوفيق والتوليف.

كذلك ينبغي ملاحظة، أن المدوّنات الأولى قد نُفذت من قبل أشخاص متخصصين، مختلفين عن المدوّنين الذين قدموا من كل صوب وحدب، فالمدوّنون لهم مزايا يتفوقون بها على الرواة، فهم بالضرورة متعلّمون، ودارسون لمناهج دينية في الأغلب، مما أضفى عليهم سمة الالتزام والصرامة.

فإذا كانت مرحلة الرواية هي المرحلة التي شهدت الحس الأدبي والخيالي المتجرد من الضوابط والمحددات العقلية، فإن مرحلة التدوين هي المرحلة المضادة، والتي ساد فيها نزعة الرجوع إلى الضوابط والاحتكام إلى العقل، أو ما أن نسمّيه بعقلنة ما يمكن عقلنته وطرح باقي الروايات جانباً.

ومن هنا فإن المدوّنات التاريخية، قد عرفت ما يمكن أن نسمّيه بالسياق الروائي، والذي هو خطوة عمل عليها المؤرخون بعدما انتهوا من عملية الاختيار، حيث قاموا بربط بعض الروايات ببعض، وفصلوا بين أجزاء بعض الروايات وبعضها البعض، حتى خلصوا في النهاية بعد التهذيب والتنسيق إلى تقديم التاريخ بشكل منمق جذاب، يشد إليه أنظار القراء وعقولهم، ويسد الطريق أمام مخيلتهم التي من الممكن أن تشكك فيما توافر من معلومات وأحداث يقوي بعضها بعضاً وتتضافر أشتاتها لتقيم حائطاً منيعاً أمام محاولات التشكيك والتفنيد.

ولما كان المدوّنون الأوائل على دراية بما سيوجّهه لهم الباحثون في العصور التالية، من سهام التكذيب والنقد والاتهام، فإننا نراهم قد عملوا على تقديم كتاباتهم بشكل يظهر منه الصدق والتناسق.

ولعل ذلك هو ما يفسّر اعتقاد بعض الباحثين المعاصرين في التاريخ، بإنه كلما وجدوا الروايات أقرب إلى الاتفاق والمعقولية في بعض الأحيان، فلربما كان ذلك دليلاً على اختلاق الروايات بدلاً من أن يكون دليلاً على صدقها.

 

منهج السلسلة وموضوعاتها

في هذه السلسلة من المقالات، سوف نتناول الطريقة التي كُتبت بها الملحمة، وأهم النقاط التي تُميّزها.

فبعد استقراء للعشرات من سير الأبطال والحكام في التاريخ الإسلامي، نستطيع القول بأن هناك ما يقرب من عشرين نقطة جزئية، تُشكّل مع بعضها البعض النسق الروائي العام لقصص الملاحم والبطولات.

من تلك الجزئيات الإرهاص والنسب والتغرب والاصطفاء والاستضعاف والعداء الداخلي والعداء الخارجي والنبوءة، وغير ذلك من النقاط التي سنتناول كل واحدة منها في مقالة منفصلة.

بالنسبة إلى المجال الذي ستغطيه تلك المقالات، فسوف يكون تلك التجارب التي وقعت خلال التاريخ الإسلامي، وسيتم الاستشهاد كذلك بالروافد التاريخية للتاريخ الإسلامي، وأقصد بها ثلاثة مصادر رئيسة هي:

المصدر الأول هو التراث العربي المنتشر فيما قبل الإسلام، بما يتضمنه ذلك من سير وملاحم كالزير سالم وذي قار وحرب البسوس.

والمصدر الثاني يتمثل في التراث الروائي التاريخي للدول التي احتك المسلمون بها في فترة الفتوحات الأولى، مثل بلاد فارس وبلاد الشام وبيزنطة ومصر.

أما المصدر الثالث فهو التراث الروائي العبراني والمسيحي، والذي شكّل مقدمات تمهيدية تاريخية بالنسبة للمسلمين، وذلك من خلال كتابات العهد القديم وما اتصل بها من شروحات وتفسيرات وتعليقات كالتلمود من جهة والعهد الجديد وأعمال الرسل وسير القديسين من جهة أخرى.

 

ولكن ما هو هدف تلك المقالات؟ هل هو التشكيك في التاريخ المكتوب؟

في الحقيقة، فإن الهدف الحقيقي لتلك السلسلة من الروايات لا يتصل إطلاقاً بمحاولة التشكيك الكلي في المدوّنات التاريخية الموجودة بين أيدينا، بل يقتصر على فهم الطريقة التي رويت بها الأحداث، وكيف أن تلك الروايات تتشابه مع بعضها البعض في نواتجها الإجمالية برغم اختلاف وتباين الأماكن والأزمنة والأشخاص، وذلك بسبب الطبيعة البشرية الحالمة، التي تنزع دائماً إلى تقديس الأبطال، وإضفاء صبغة تقديسية عليهم.

هي إذن محاولة جديدة لقراءة التاريخ، وفهم العناصر الرئيسة التي شكّلت الملاحم الإنسانية الكبرى، مع إقرارنا بأن الكثير من تلك الروايات لم يكن أكثر من مجرد أدب روائي شعبي، منحته الظروف المذهبية أو الأيديولوجية أو البراغماتية للمؤرخ فرصة ذهبية للدخول في خضم الأحداث التاريخية الرسمية المعتبرة.