"نكبة وبقاء": كتاب يروي حكاية فلسطينيين ظلّوا في حيفا والجليل

إسرائيل لم تقم باحتلال الأرض وإحلال السكان اليهود محل العرب فحسب، وإنما "شنّت معركة على وعيهم وهويتهم القومية" أيضاً.

كتاب "نكبة وبقاء" لعادل مناع

قراءة: عقيل سعيد محفوض

 

لم تكن الدراسات الفلسطينية والعربية تهتم كثيراً للذين بقوا في فلسطين المحتلة، ولم تشأ أن تقول الكثير بهذا الخصوص، وذلك لاعتبارات يتطلب القول فيها المزيد من التدقيق. وتسكت الدراسات الخاصة بالنكبة عن أمور كثيرة وخطيرة. ولا يتعلق الأمر هنا بظروف حرب 1948 وفشل الجيوش العربية في مواجهة إسرائيل أو الدفاع عن فلسطين، وإنما بأوضاع الفلسطينيين خلال الحرب، ولماذا فضَّل فلسطينيون كثيرون البقاء في أرضهم، وكيف تعاملت إسرائيل معهم، وهل أمكن لمضي السنين أن يمحي من ذاكرة الفلسطينيين أهوال الحرب والتهجير القسري وأعمال القتل التي تعرضوا لها خلال الحرب وبعدها، وما هي السبل التي سلكها الفلسطينيون الباقون تجاه إسرائيل، وكيف أمكنهم مواصلة حياتهم في ظل الاحتلال؟

يحاول كتاب "نكبة وبقاء: حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل 1948-1956" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، لكاتبه عادل مناع، وهو من أولئك الفلسطينيين الذين بقوا في بلادهم، الإجابةَ على الأسئلة الكثيرة حول الموضوع، وذلك من خلال نص يمزج السير والمرويات من ذاكرة أفراد عاديين، بمعلومات وأخبار وردت في مذكرات أو قصص العديد ممن عايش أو عاش تلك الفترة، بالإضافة إلى الكتابات والمذكرات والوثائق الإسرائيلية حول الموضوع، بالإضافة إلى موضعة كل ذلك في السياق الإقليمي والدولي آنذاك.

يقول الكاتب إنه تنازعته مشاعر مختلطة من السعاد والخوف والرهبة، لأن تاريخ حرب 1948 ونتائجها "ما زال جرحاً مفتوحاً"، ص 10، ذلك أن "حكايات الفلسطينيين الباقين في إسرائيل بعد النكبة، تقع في منطقة رمادية ما بين الخاص والشخصي، وبين العام والتاريخي". ص 11. ويأسف الكاتب لأن إسرائيل نجحت في تسويق رؤيتها لحرب 1948 "لمواطنيها وللعالم الخارجي"، ص11، فيما لم يتمكن العرب من تسويق رؤيتهم حتى لأنفسهم. وهكذا فقد عانى الفلسطينيون الذين بقوا من "تهميش مضاعف على جانبي خط الصراع"، ص 17.

يتساءل الكتاب عن وجود سياسات عليا لدى إسرائيل للتطهير العرقي، ولو أن ما جرى هو هندسة ديمغرافية، إذ لم يكن التطهير بمعنى القتل فحسب، وإنما التهجير إلى الخارج، والتهجير داخل المجال، والقبول بعودة أعداد ممن سبق أن هاجر إلى الخارج، أيضاً.

وقد عانى فلسطينيو الداخل من أعباء ثقيلة، وحاولوا بناء حياتهم من جديد في ظروف الاحتلال، ص 23.

يطرح الكتاب السؤال التالي: "لِمَ وكيف نجح عدد كبير نسبياً من سكان الجليل في البقاء مقارنة بمناطق أخرى تم إفراغها تماماً من الفلسطينيين؟ وما هي معاني النكبة بالنسبة إلى هذه الأقلية الفلسطينية التي عاشت تحت حكم الأغلبية اليهودية وسياستها؟ وما هي تبعات التحول الديمغرافي القسري وتداعياته والعيش كأقلية مهمشة وغير مرغوب فيها في إسرائيل؟ وكيف تأقلم الباقون مع الواقع الجديد وتعايشوا مع نتائج النكبة وتداعياتها الاجتماعية والثقافية؟"، ص24.

يتألف الكتاب من مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، يتناول الفصل الأول: النكبة ومعانيها المتعددة سنة 1948 وحتى الهدنة الثانية في صيف 1948، وكيف أن الجيوش العربية لم تتمكن من إيقاف توسع السيطرة الجغرافية لليهود، وكيف تم إفراغ مدن حيفا ويافا وعكا وصفد وطبرية من سكانها.

ويتناول الفصل الثاني إتمام احتلال الجليل، ومحدودية قدرة جيش الإنقاذ على المواجهة، وكيف أن الأهالي اختاروا الوقوف مع الوجهاء والقيادات المحلية، ومنهم الشيوعيون العرب، والذين مالوا لدعم البقاء والتكيّف مع الوضع الجديد، واحتواء خطط التهجير والطرد.

أما الفصل الثالث فيتناول دور الشيوعيين العرب خلال النكبة وبعدها، ويسلّط الضوء على الجماعتين الدرزية والمسيحية من الباقين في شمال فلسطين، واللتين كان لهما قراءة مختلفة للموقف، ومالتا –في ظل غياب البديل- إلى التكيّف وقبول التعاطي مع الوضع الجديد. وقد اختارت العصبة الشيوعية في أغلبيتها التعاون مع إسرائيل، ومعارضة تدخل جيوش الدول العربية في حرب فلسطين، والتحول من قبول التقسيم إلى دعم الدولة اليهودية.

يتناول الفصل الرابع استمرار التهجير بعد توقف الحرب، ويسرد أحوال الفلسطينيين الباقين في شمال فلسطين بعد انتهاء الحرب في أوائل 1949، ويقول إن إسرائيل وضعت قواعد تحدد وضعية هؤلاء، فمنهم من عدّته مواطناً وأعطته الهوية الزرقاء، ومنهم من عدّته مقيماً بصورة مؤقتة، ومنهم من عدّته "غائباً حاضراً". ويلاحظ أن إحصاء السكان الذي أجري بعد الحرب لم يشمل جميع الموجودين في فلسطين المحتلة.

أما الفصل الخامس فيسرد حكايات أشخاص وعائلات وقرى وأحوالها وتحولاتها في ظل الاحتلال، بالتركيز على تخلي الأردن عن "المثلث الصغير" ونقل السيطرة عليه إلى إسرائيل، وعودة سكان عدد من قرى مثل عليبون وعيلوط وكفر قرع إلى ديارهم، وسماح إسرائيل بعودة عائلات بعينها، وصولاً إلى مجزة كفر قاسم عام 1956 الشهيرة التي دلّت –برأي الكاتب- على نزوح إسرائيلي لإرهاب الناس ودفع المزيد منهم للهجرة.

يتناول الفصل السادس صراع البقاء، وكيف أخذ الباقون يتوسلون طرائق شتى للحفاظ على أنفسهم وممتلكاتهم وشروط حياتهم، ومن ذلك اللجوء إلى المحاكم بالالتماس ورفع الدعاوى أمام المحاكم الإسرائيلية.

أما الفصل السابع فيتناول السلوك السياسي أو التنظيم السياسي للباقين، وانخراط بعضهم في متطلبات السياسة في إسرائيل مثل الانتخابات البرلمانية، ويعرض لظروف البقاء بين المطرقة والسندان، مطرقة الاحتلال وسندان المتعاملين معه والمنخرطين في دولته أو كيانه، وثمة من ذهب من هؤلاء إلى المطالبة بتمكين  من يشاء من التجنيد في الجيش، إثباتاً للولاء لإسرائيل.

يختم الكاتب بالقول إن إسرائيل لم تقم باحتلال الأرض وإحلال السكان اليهود محل العرب فحسب، وإنما "شنّت معركة على وعيهم وهويتهم القومية" أيضاً، وقامت وعملاؤها بتنمية "هوية مشوّهة" للفلسطينيين، ص 399، من خلال نظام تعليمي وتربوي، وإشراك الوجهاء والمتعاونين في الحياة العامة. وهذا يُفسّر  قدرتها على مواصلة السيطرة على الجماعة العربية في الداخل، وقدرة تلك الجماعة على الاستمرار بهويتها وخصوصيتها.

يعرض الكتاب الكثير من القصص المأخوذة من ذاكرة من عاصر وعايش تلك المرحلة أو من المذكرات والمقالات وحتى الروايات، وناقش مفهوم النكبة الذي صكّه قسطنطين زريق، كما بحث في العديد من الكتب والدراسات التي تناولت النكبة وأوضاع العرب الذين بقوا تحت الاحتلال، وأولئك الذين هاجروا إلى الشتات، ويقارن سردياته العربية أو الفلسطينية بأخرى إسرائيلية مثل أرشيف الجيش الإسرائيلي وكتابات مؤرخين مثل بني موريس. وقد يقارن حكاية يوردها عن حادثة تهجير أو قتل الخ بوثيقة إسرائيلية تتناول الموضوع نفسه، ما يعطي النص قدرة أكبر على التحقق والتوثيق وإكمال عناصر الصورة.

ويجد القارئ نفسه أمام نص يجمع خطوطاً متعددة فيها التاريخي، والاجتماعي، والأنثروبولوجي، والسياسي، والعسكري، بالإضافة إلى الشخصي والحكائي؛ وهذا ما يعطي النص حيوية وجاذبية في القراءة والتلقي قد لا يصادفها القارىء كثيراً في كتابات من هذا النوع.