الكاتب أحمد عبد الرازق أبو العلا للميادين نت: السلطة احتوت المثقفين والمبدع الحقيقي لا يخشى النقد
كانت الكتابة عشقه الأول في بداية حياته، وتنقل بين روافدها المتنوعة، ينهل منها ويسطّر إبداعا ورؤى مختلفة عن أقرانه، حتى رسم لنفسه ملامح أدبية وثقافية خاصة. خاض تجارب الإبداع والنقد حتى صار من أشهر النقاد المصريين والعرب في المجال الأدبي والمسرحي. حفر لنفسه إسماً لامعاً بين الآخرين، صار له مفردات خاصة ونهج خاص، حتى أصبحت القضايا الثقافية هي شغله الشاغل. هو الكاتب أحمد عبد الرازق أبو العلا حيث كان للميادين الحوار التالي معه:
- لكل مبدع تجربة في الكتابة، هل لنا أن تروي تجربتك وأهم الشخصيات التي تأثرت بها؟
- بدأت في السبعينيات من القرن العشرين شاعراً وكاتباً للقصة القصيرة، نشرت بعض قصصي في مجلة إيرانية، كانت في عهدي مشهورة جداً في مصر إسمها (الإخاء) وتصدر باللغة العربية، وأذاع الكاتب الكبير بهاء طاهر بعض قصصي ومقالاتي، من خلال برنامجه الشهير – في ذلك الوقت – بريد المستمعين بالبرنامج الثاني في الإذاعة المصرية، وكان مديرا ًله. ونشرت مسرحية شعرية - على حلقات - في مجلة (الجديد) التي كان يرأسها الدكتور رشاد رشدي. كل هذا النشاط يُمثل الإرهاصات الأولى التي جعلتني أشعر بأن الكتابة مسؤولية، وتحكمها ضرورة، وكانت بعض أعمالي وخاصة – في مجال الشعر – لا تلقى استحساناً من الأدباء الأكبر مني سناً، وكنت أجتمع معهم على مائدة نادي الأدب في قصر ثقافة دمياط، وكان بعضهم على قدر من الثقافة والمعرفة ، والقسوة أيضاً. ولذلك تركت كتابة الإبداع، واتجهت إلى ممارسة النقد، حين وجهت اهتماماتي للقراءة في الكتب النظرية، بجانب القراءة في كتب الإبداع، وأثرت القراءة النظرية على ذائقتي، ووجهتني وُجهة لم أكن أتخيل أنني سوف أخوض غمارها. وكان كتابي الأول الذي صدر عن الهيئة العامة للكتاب بعنوان "البحث عن العدل الاجتماعي عند الدكتور طه حسين" في عام 1988 وهو عبارة عن دراسات كتبتها في السبعينيات، وجاءت بعد إرهاصات الكتابة الأولية مباشرة. وقتها قرأت كل كتب الدكتور طه حسين – تقريباً – وقرأت في ذلك الوقت – أيضاً – كتاب "الفن خبرة" لجون ديوي ، وكتاب "ضرورة الفن" لأرنست فيشر، و"الفن والمجتمع عبر التاريخ" لأرنولد هاوزر، وكُتب أخرى عن المذاهب الأدبية والفنية. كل هذه القراءات المتعمقة كونت رؤيتي، وحددت موقفي تجاه الإبداع والحياة معاً. باختصار شكّلت وعياً مُبكراً، ظل يرافقني حتى تلك اللحظة التي أحدثك فيها.. فقراءات البدايات المكثفة ساعدتني أيضاً على فهم طبيعة الإبداع، ومعرفة ضرورة الكتابة، وأن لا شي يأتي مجاناً أبداً، وأن الكتابة – أي كتابة - مسؤولية، فما بالك حين تكون الكتابة إبداعاً؟!.
هل لا تزال الدولة تسيطر على المؤسسات الثقافية أم فقدت تلك السيطرة؟
هذا التصور ليس دقيقاً البتة، لأن الحركة الثقافية الآن تتم من خلال مؤسسات الدولة، ولا تتم بعيداً عنها. فمعظم - إن لم يكن كل - الكُتاب يتعاملون مع تلك المؤسسات، ينشرون في مطابعها، وينشرون في مجلاتها، ويعقدون المؤتمرات في مقراتها. وعلى نفقة تلك المؤسسات يتم كل هذا النشاط، ومن يعملون خارجها هم الذين لم تتبلور اتجاهاتهم بعد، فيقومون بنشر إبداعهم على نفقتهم الخاصة، من خلال دور النشر الخاصة. ولذلك اختلط الحابل بالنابل – من وجهة نظري – لأن تلك المؤسسات لا تزال تلتزم بضوابط تحكمها أثناء نشر الكتب، وأثناء عقد المؤتمرات، وغيرها من الأنشطة. كنت أعتقد أنك ستسألنيي: هل استطاعت تلك المؤسسات تحريك الواقع الثقافي، وتنمية الوعي في المجتمع، في ظل متغيرات كثيرة، كان من الضروري وضعها في الاعتبار لو أرادت أن تكون فاعلة؟؟
- أقول لكِ: لم تستطع، برغم النشاط الذي يبدو كثيفاً، لكنه بلا قيمة أو تأثير، لماذا ؟ لأنه يتم بصورة عشوائية، ولا يخضع، ولا يعكس إستراتيجية واضحة، يكون هدفها تحقيق ذلك الوعي. غياب الإستراتيجية، ومعها سلبية المثقف المتعامل مع المؤسسة، بل وانغماسه الكامل مع بيروقراطيتها، كلها عوامل أدت إلى عدم وضوح الرؤية، وعملت على غياب الفعل الثقافي الحقيقي. ومن ثم، نجد أنفسنا نتحدث – الآن – عن الفساد الثقافي، وعن انعدام الرؤية، ونتحدث عن سلبية المثقف، ومغازلته للسلطة، وعدم قدرته على التواصل مع الناس بإبداع حقيقي، ومواقف فكرية واضحة، مما أدى إلى سيطرة الإسلام السياسي علي حياتنا إلى درجة وصول بعض عناصره إلى السلطة بعد قيام ثورة 25 يناير كانون الثاني 2011.
بالأمس كانت مصر تقود حركة الثقافة في المنطقة العربية، تراجعت اليوم لصالح مناطق أخرى، فما أسباب ذلك من وجهة نظرك؟
نعم الثقافة المصرية استطاعت – في مرحلة ما – التأثير في الثقافة العربية كلها، ومعظم المؤسسات الثقافية خارج مصر، وفي البلدان العربية، ساهم في إنشائها، ووضع أسس عملها المصريون. وكانت معظم المجلات الثقافية، تُدار بمثقفين من مصر.. هذا في الوقت الذي كان فيه المثقف المصري على وعي بدوره الريادي، وكان الفعل الثقافي المؤثر من الأدوار التي كان يلعبها في تلك الآونة، حيث كان معظم المثقفين في مصر على خلاف مع السلطة، سواء في مصر الستينيات، أو مصر السبعينات، وهاجر معظمهم خارج الوطن ليعملوا ويضيفوا هناك.. وكلهم كانوا كباراً. بعد ذلك استطاعت السلطة في مصر في عهد مبارك، وطوال ثلاثين عاماً تهجين المثقف، ودفعه للدخول في حظيرتها، بمعني أن يكون تابعاً وليس متبوعاً، وتبدلت الأدوار، وتاه المثقف، ولم يستطع أن تكون له رؤية، وموقف مُخالف للسلطة، إلا استثناءات قليلة منهم.. هنا تخلى المثقف عن دوره واهتم أكثر بمكاسبه الصغيرة، ولم يعد يهتم بما يسمى الفعل الثقافي، سواء في بلده أو خارج بلده. في ذلك الوقت كان المثقف العربي أكثر انفتاحاً على الثقافات الأخرى، مجوداً إنتاجه، ومُهتماً بدوره، فازدهرت الثقافة في بلدان مثل الإمارات العربية، والكويت، والمغرب العربي كله. وحتى داخل المملكة العربية السعودية، ظهرت إبداعات فارقة وجريئة، وقاومت الممنوع (التابو)، وأصبحت مصدر قلق للسلطات هناك.. في المسرح حدث نفس الشيء .. ازدهر هناك، وضعُف هنا، وأصبحت المهرجانات المسرحية العربية دليلاً واضحاً وكاشفاً للتراجع الذي حدث في هذا المجال. هناك نوعوا مصادر معرفتهم، وهنا لا نزال ندور في نفس الدوائر القديمة التي لا تُفرخ شيئاً حقيقياً مُؤثراً.. غلبت المصالح الذاتية على المصالح العامة، وظهرت الشلل التي تسعى إلى تهميش الذين لا ينضوون تحت خيمتهم.. وهكذا صارت جزر منعزلة لا تساعد على تحديد رؤية واضحة، وأصبحت كل الأمور غائمة تماماً.
انتقلت في حياتك بين أماكن متعددة داخل مصر وخارجها، أي الأماكن كانت أكثر تأثيراً في حياتك ولماذا؟
- داخل مصر: عشت فترة طفولتي وصباي، وجزءاً من فترة شبابي في دمياط، مدينتي الأثيرة، وتركتُها وجئت إلى القاهرة في إقامة دائمة في عام 1980. صخب العاصمة عودني على ألا أرتكن للهدوء، أو الراحة، على الرغم من أنني داخل بيتي ، أحبُ الهدوء. لكنني – في الوقت نفسه – أحب صخب الخارج، وقد تندهش لتلك المفارقة، ربما لأن طبيعتي لا تميل إلى الهدوء، أثناء التفكير، بل تميل له أثناء العمل فقط. ولذلك فأنا أحتاج إلى الحالتين معاً. عملي في وزارة الثقافة ساعدني كثيراً في الانتقال كثيراً داخل الجمهورية. ليس هناك أي مكان لم أزره، مُحكماً في لجان تحكيم العروض المسرحية، أو مشاركاً في الندوات الأدبية، أو غيرها من المهام الوظيفية. ولذلك فإن الانتقالات الداخلية ساعدتني في معرفة طبيعة مجتمعنا، وطبيعة شعبنا، واختلاف العادات والتقاليد، من مكان إلى آخر، رغم أن الجميع ينضوي تحت ما يسمّى بالثقافة المصرية.
أما خارج مصر، فلم أعمل خارجها، وعلاقتي بالخارج تحكمها طبيعة السفريات الثقافية فقط (سافرت إلى سوريا – ليبيا – الأردن – الإمارات العربية – تركيا – أميركا - فرنسا)، مشاركاً في المؤتمرات الثقافية بأبحاث أو ندوات. خارج المنطقة العربية، سافرت إلى الولايات المتحدة، في فترة التسعينيات من القرن العشرين، وتعرّفت على طبيعة عمل المراكز الثقافية هناك في ست ولايات، وكانت رحلة ساعدتني على رؤية ثقافة ذلك المجتمع، الذي يحاول تصدير النموذج الأميركي إلى منطقتنا، بوصفه النموذج الأمثل!!
لكنني برغم انبهاري الأولي بالتطور الكبير في كل شيء هناك، إلا أنه لم يكن انبهاراً أفقدني رؤيتي، التي تقوم على رفضي للهيمنة الأميركية علي منطقتنا. وكنت حين أقوم بمناقشة بعض الأمور المتعلقة بتلك المسألة مع الأميركيين، أحاول دائماً الدفاع عن ثقافتنا، موضحاً لهم أنني لست منبهراً بما أراه هناك، لأنه ليس قائماً على حضارة قديمة، لها أسس فكرية وثقافية كتلك التي تستند إليها الثقافة المصرية، التي تشكّلت معالمها منذ الفراعنة، مروراً بمراحل التطور المختلفة في تاريخنا المليء بالأحداث والوقائع، ذلك التاريخ الذي شكّل الشخصية المصرية، وجعل لها ملامح واضحة، وجعلها شخصية محيّرة، لأنها تملك كل المتناقضات في نفس الوقت، تلك الحيرة التي تضعك فيها الشخصية المصرية، هي نتاج الثراء الثقافي منذ القدم حتى الآن، ونتاج للزخم المتميز كذلك.
في ظل التغلغل الواضح للفكر التكفيري، يظهر مدى التراجع الكبير لدور وزارة الثقافة المصرية، ما هو رأيك في تلك الظاهرة؟
أدهشني تصريح الوزير الحالي حلمي النمنم حين قال "إن وزارة الثقافة ليس من دورها مواجهة الإرهاب، وأراه دائماً يُحمّل الأزهر وحده مسؤولية ذلك، ويطالبه بمسؤولية تجديد الخطاب الديني، على الرغم من أنني أرى أن وزارة الثقافة بمؤسساتها المختلفة، وبالمثقفين المتعاملين معها، عليهم دور كبير في تجديد الخطاب الثقافي، وهو لا يقل بأي حال من الأحوال عن تجديد الخطاب الديني، إن لم يكن أقوى منه وأكثر تأثيراً على أفراد المجتمع، لأنهم يتفاعلون مع أدوات الثقافة (الكتاب – الفيلم السينمائي – التمثيلية – الندوات – المجلات – الأغنية – المسرح). لكن الوزارة تعمل بمعزل عن تلك القضية الهامة، وبمعزل عن الناس كذلك، ولا تسعى إلى تعميق الأفكار التي من شأنها مواجهة التيارات المتطرفة التي تتحدث باسم الدين وتتخذه ذريعة لنشاطها الهدام.. المثقفون والوزارة يستطيعون العمل على تلك المواجهة بوضع برامج حقيقية، تنتصر للأسس والدعائم التي تقوم عليها الدولة المدنية، بغرس مفاهيم الانتماء والمواطنة، والانحياز لفكرة العدالة الاجتماعية. وبكل هذا نستطيع المواجهة.. نستطيع مواجهة الظلام بالنور. لكن ما يجري اليوم هو على العكس من ذلك تماماً إذ نشهد تراجعات ثقافية، غياباً للسياسات الواضحة، وغياباً للاستراتيجيات، والاعتماد على الأنشطة الدعائية، والابتعاد عن الناس في تجمعاتهم، والاكتفاء بالغُرف المُغلق ، لتكون مكاناً لإدارة النشاط الثقافي. هذا الغياب يُتيح الفرصة، ويجعل المناخ صالحاً تماماً للفكر التكفيري الظلامي، وخاصة في المناطق البعيدة عن العاصمة.
هل أثّر الإعلام كثيراً على الحركة الثقافية في مصر؟
- لا يوجد أي تنسيق بين أجهزتنا ومؤسساتنا المختلفة، كل مؤسسة تعمل بمعزل عن الأخرى، وتلك مشكلة كبيرة، ولذلك نرى المؤسسات الإعلامية تقوم بتهميش الفعل الثقافي، حين تُهمل الثقافة في برامجها، وموادها المُذاعة علي الشاشات أو عبر الأثير، الاهتمام فقط بالأنشطة الاستهلاكية والبرامج الخفيفة، وبرامج الشو، والحديث مع النجوم فقط، وتهميش المثقفين، والرموز الثقافية من الكتاب والمبدعين والمفكرين.. هذا المسلك يؤدي إلى ضعف الحياة الثقافية، ويؤدي إلى انعزالها عن الناس .. حتى أن الإعلام الحكومي نفسه، وأعني به الإعلام المملوك للدولة إذاعة وتلفزيون) هذا الإعلام الرسمي يُهمّش الثقافة أيضاً. وعلينا أن نعترف أنه يُمكن أن يكون قادراً على التأثير أكثر بكثير من الكتاب نفسه، وذلك لأنه يخاطب الجماهير مباشرة، وهم في بيوتهم أو أعمالهم. إنه يذهب إليهم عبر الأثير، وعبر الأقمار الصناعية ووسائل الانتشار، مع ظهور التقنيات الحديثة التي تساعد على تحقيق ذلك. لكنه لا يتحقق على أرض الواقع، بسبب عدم الاهتمام بالثقافة، وعدم الإيمان بتعميق مفهومها لدى الناس.
هل توافق على قول البعض إن تراجع مستوى التعليم هو الأكثر تأثيراً على الوضع الثقافي في الوقت الراهن؟
- أوافق بالطبع، وأزيد على ذلك أن التعليم من أهم الأدوات التي تُعمق مفهوم الثقافة، أو تعمل على تسطيحها. والحادث – الآن – أن التعليم في مصر، بمناهجه المتخلفة، أصبح طارداً لرغبة المعرفة لدى الطلاب.. لماذا؟؟ لأنه لا يضيف إليهم جديداً يساعدهم على مواجهة حياتهم، ويساعدهم أيضاً على معرفة طريقة التعامل مع التقدم العلمي والتكنولوجي، الذي حدث على مستوى العالم. تعليم بمناهجه لا يساعد الطالب على الابتكار، أو إعمال العقل والتفكير، بل يعلمه كيف يحفظ، وكيف يصبُ المعلومة على الورق من دون فهم. ولذلك فإن الأمية الثقافية صارت منتشرة في مجتمعنا، حتى بين المتعلمين أنفسهم، من خريجي المدارس والجامعات المختلفة. ينبغي تبني ثورة في التعليم تنسف النظم التقليدية، وتسعى إلى التطوير.
عملية النشر تشكل أزمة حقيقية في تشكيل وجدان المتلقي.. كيف ترى تلك الإشكالية؟
النشر – في مصر- الآن - يسير سيراً عشوائياً – فيما عدا النشر الحكومي، الذي لا يزال ملتزماً بضوابط المراجعة – مراجعة الجود قبل نشر الكتاب. تلك الضوابط غائبة تماماً عن دُور النشر الخاصة وبخاصة تلك التي تقوم بنشر الكتاب على حساب صاحبه.. ذلك النشر يسيء إساءة بالغة إلى الحركة الفكرية والأدبية والإبداعية والثقافية، بشكل عام، ربما لا يسيء لصاحبه، لأن صاحبه يتوهم أن ما يكتبه يُعد إبداعاً.
هناك دور نشر تقوم بطباعة خمسين نسخة فقط من الكتاب، اعتماداً على تكلفة النسخة الواحدة!! منتهى العبث، ولذلك أرى أن الغث أصبح متسيّداً المشهد، مما جعل المتلقي يفقد الثقة في الكتاب المنشور، ومن ثم لا يقوم بشرائه. وهذا السلوك يُؤثّر على بيع الكتاب الجيد، ومع ذلك أومن بأن المسألة مسألة وقت، وستتم غربلة الكتابات، يسقط منها الغث، ويتبقى الحقيقي منها في الوجدان، مهما مر الزمن .. وهذه طبيعة الإبداع، والتاريخ يشهد على ذالك.
غياب النقد الحقيقي كان له أكبر الأثر في تدني مستوي الابداع .. كيف ترصد ذلك؟
- هذا حقيقي – للأسف الشديد - وأضيف إلى ذلك، أن المبدع الحقيقي لا يخشى النقد، ولذلك كانت حركته مزدهرة بوجود كتاب حقيقيين، وإبداعات حقيقية. لكن المدعين يخافون من الناقد ويخشون النقد، ولذلك نراهم يسلكون مسلكاً عدوانياً مع الناقد الذي يقوم بتحليل الكتابة. ولقد تعرّضت – شخصياً – لسطوة هؤلاء المُدعين، حين تعرّضت لكتاباتهم بالنقد. يحاصرونك، حتى لا تستطيع القيام بمهمتك، وهم لا يستحقون المتابعة. لكنهم يستحقون لفت الأنظار إلى ما يفعلون، حتى لا يختلط الحابل بالنابل. يظنون أنهم يكتبون، ولا يعلمون أن هناك فرقاً بين الكتابة - كمفهوم عام - وبين الكتابة الإبداعية – كمفهوم خاص. عدم القدرة على التفريق بين المعنيين، يؤدي إلى تلك العشوائية التي نراها الآن، والتي ساهم فيها الفيس بوك مساهمة سلبية كبيرة، إذ يظن كل من كتب شيئاً على صفحته أنه شعر أو قصة. وحين يلقى المديح من أصدقائه، يظن- كذلك - أنه استطاع أن يقدم شيئاً أعجبهم، في حين أن طبيعة الفيس تقوم على المجاملة. أما العملية النقدية فهي عملية يحكمُها المنهج، ويحكمُها ضمير الناقد ووعيه، وموضوعيته .. ولا ينبغي أن تختلط المعاني بين كل هذه المفاهيم.
يقول البعض إننا في زمن الرواية .. هل تؤيد ذلك؟
- نعم أؤيد ذلك، وأنا مطمئن تماماً، لماذا؟؟ لأن الرواية ازدهرت على أيدي كتاب القصة الحقيقيين، هؤلاء الذين رأوا أن رؤيتهم للواقع، وموقفهم أصبح ملائماً لكتابة الرواية التي تملك القدرة على استيعاب الموقف والرؤية، أكثر من القصة القصيرة، التي سقطت في براثن المدعين، فعاثوا فيها فساداً، وحطموا – جهلاً أسُسها الفنية – وحين خشي الكتاب الحقيقيون على أنفسهم، لجأوا إليها، وقدموا نماذج رائعة. ونلمس هذا لدى الجيل الذي نُطلق عليه جيل الثمانينيات من القرن العشرين، وأعتبره خط الدفاع الأول عن القصة القصيرة، لأنه لا يزال قادراً على العطاء، فضلاً عن قدرته على كتابة الرواية، بطريقة تختلف عن رواية السبعينيات. هذا الجيل استطاع التعبير عن هموم الواقع وقضاياها الحيوية وتعارك أكثر معه. أما هؤلاء الذين أفسدوا القصة القصيرة - كما ذكرت- فلا قيمة لهم، حين يجدون أنفسهم عراة في واقع يحتضن المبدعين الحقيقيين، بما يساعد على إهمال ما يكتبونه.. والرواية، من الممكن تحويلها إلي عمل سينمائي أو درامي. ولذلك فإن انتشارها يتم على نطاق أوسع من أي نوع أدبي آخر. وحين نقول إن الزمن هو زمن الرواية، فهذا معناه أن مستوى الروايات الموجودة جيد، لدي عدد كبير من كتابها، حتى بعض الجدد منهم .
لكل كاتب أيديولوجيا .. هل لنا أن نعرف ما هي أيديولوجيتك؟؟
لكل كاتب طريقة في التفكير، وموقف من الحياة، ورؤية .. بهم يستطيع أن يقدم كتابة فاعلة. وحين تسألين كاتباً لماذا تكتُب ؟؟ يقول لك: أكتب لأن هناك شيئاً أريد أن أقوله، وتولستوي قال من قبل: (نكتب لأننا نريد أن نضيف جديداً إلي رصيد الخبرة الإنسانية). من هنا نعلم أن الكاتب – أي كاتب – لا بد أن يكون واعياً لدوره، وجهله بهذا الدور لن يساعده على العطاء الحقيقي، وسيُصبح عاجزاً تماماً على التأثير. من هنا أستند إلى منهج، ولا أقول أيديولوجيا، منهج يحتفي بالحقيقي ويرفض الزائف، منهج يؤمن بدور الكاتب، ويؤمن بضرورة الكتابة، منهج لا ينحاز إلا للحقيقي، ويرفض غير الحقيقي. أبحث عن الكتابات التي تحقق معيار الصدق الفني، وهو المعيار الذي يهمله البعض.. لا أقوم بمحاكمة الكاتب، ولا أمارس دور القاضي، حين أتعرض للإبداع، أؤمن بالمنهج التحليلي الذي أستطيع – من خلاله – اكتشاف المناطق الإبداعية، التي تُميّز صاحبه، وأبحث عن مدى قدرة الكاتب على مُعاركة الواقع وكشفه وفضحه، لأن الكتابة النقدية ه إعادة اكتشاف العمل الفني، كما أن العمل الفني هو إعادة اكتشاف للواقع.
مع سهولة النشر هناك نصوص مسرحية يكتبها شباب وتظل تسبح في موج الفضاء الافتراضي من دون أن ينتبه إليها الكثيرون، كيف تقرأ هذه الحالة؟
من خلال متابعتي، ومن خلال عملي السابق مديراً للمسرح في الثقافة الجماهيرية، وعضواً في لجان القراءة والفحص والتسابق، أقول إن الأزمة ليست في عدم وجود نصوص مؤلفة، لكن الأزمة تكمن في جودة النص ذاته. ولذلك نرى عدداً كبيراً من النصوص المسرحية الفائزة في المسابقات، أو المنشورة في سلاسل النشر المختلفة، لكنها غير صالحة للعرض فوق خشبة المسرح. وإذا أتيحت لها فرصة العرض، نجدها لا تحقق وجوداً فعلياً، ولا تستطيع جذب الجمهور – الا أقل القليل منها – ولذلك ستظل المشكلة تكمن في قلة وجود النص الجيد. وهذا ما يدفع كثيراً من المخرجين للاستعانة بالنصوص الأجنبية المترجمة، فيقومون بتقديمها عوضاً عن غياب النص المسرحي المحلي المؤلف. وتبعاً لذلك – يعدون النص، ويعدون ترتيب مشاهده، فيفسد النص الأصلي تماماً. هم لا يستطيعون التعامل مع النص الأصلي لأسباب كثيرة، وهناك فهم خاطئ لدى معظم المسرحيين الآن لمفهوم (الدراماتورجي) فهم يظنون أنه كل من قام بإعداد النص، وتجهيزه لكي يكون صالحاً للعرض فوق خشبة المسرح، هو دراماتورجي. وبالطبع تلك مشكلة كبيرة، لأن طبيعة عمل الدراماتورج تختلف تماماً عن تلك الطبيعة التي يريدون ليّ عنقها، وتلك المسألة أصبحت ظاهرة، وأعني بها ظاهرة تشويه النصوص المؤلفة، والعبث بها من دون رؤية فنية تبرّر التعامل مع النص.
بل إن الإعداد المسرحي للنصوص الأجنبية أعطى الفرصة لبعض الموتورين من غير الموهوبين لسرقة النصوص، لأنهم حين يعدون النص الأصلي يقومون بتغيير عنوانه، ومع الإعداد وتغيير العنوان تتوه ملامح النص الأصلي وتتغير. وبالتالي يصبح أمر التعرّف على السرقة أمراً صعباً. لكننا في بعض الحالات نستطيع الوصول إلى السرقة، أو التأثر بشكل مباشر. غير أن مسألة التأليف الخالص أصبحت مسألة نادرة، خاصة وأن معظم الكتاب – حتى الجدد منهم - يلجأون إلى التراث يأخذون منه موضوعاتهم ويعالجونها، اعتماداً على الإبعاد الزماني والمكاني الذي يمكن أن يعطيهم الحرية أكثر حين يناقشوا القضايا التصادمية.
هل من تخوف على مستقبل المسرح المصري؟
تاريخياً، مرّ المسرح المصري بمنعطفات كثيرة جداً، تعبّر عن حالات صعوده، وحالات هبوطه، وذلك لأننا دائماً نسعى نحو الأفضل، وكلمة (أزمة المسرح) واجهتنا منذ العشرينيات، في تلك الفترة التي كانت (فرقة رمسيس) لصاحبها الفنان يوسف وهبي، تقدم كل أسبوع عرضاً جديداً. ومع ذلك كنا نراه يتحدث عن أزمة المسرح.. الحديث الدائم عن الأزمة يعد تعبيراً دائماً للرغبة في التطوير، وعدم الارتكان الى السائد حتى لا نصاب بالتكلّس.. ولذلك أرى أن مستقبل المسرح المصري يمكن أن يتجه نحو الأفضل، ولا أقول الكمال، حين نتيح الفرصة لتواجد تجارب الجميع، وعروض الهواة، بروافدها المتعددة (العمال – الجامعة – الثقافة الجماهيرية – المستقل والحر). تضافر جهود كل هؤلاء مع تطوير مسرح الدولة كلها وسائل تساعد على تقدم المسرح، وظهوره بشكل أفضل في المستقبل، فضلاً عن ضرورة الاهتمام بالنصوص المسرحية الجيدة، وأشدد على عبارة (الجيدة).. لكي ينهض المسرح، ويقوم بدوره المنوط به.